قال رولف: «لا يتأخران قط. لا مانع من أن نؤخر الإفطار من أجلهما. أعتقد أننا يجب أن نكون شاكرين لأن لوك لا يشعر بالحاجة لأن يلقي عليها عظة.»
كانت نبرة صوته وابتسامته تحملان ترفقا. تساءل ثيو عن طبيعة العلاقة بينه وبين لوك الذي يبدو أنه يتحمله وكأنه طفل حسن النية لا ينتظر منه أن يشارك مشاركة كاملة كالكبار لكنه يبذل أقصى وسعه ليكون مفيدا ولا يتسبب في أي مشاكل. هل يلبي رولف ما يراه رغبة زوجته الحبلى لا أكثر؟ وإن كان ما أرادته جوليان هو أن تحظى بخدمات قسيس خاص ، فلم يمانع في ضم لوك إلى «السمكات الخمس» مع أنه لم يكن يملك أي مهارات عملية ينفعهم بها. أم أن رولف، مع رفضه التام للدين الذي تعلمه في طفولته، ظل محتفظا ببقايا معتقدات خرافية؟ هل يعتقد في عقله الباطن أن لوك صانع معجزات بإمكانه أن يحول فتات الخبز الجافة إلى لحم، أو جالب للحظ، أو صاحب قدرات خفية وسحر قديم، وأن مجرد وجوده بينهم يسكن غضب آلهة الغابة والليل الخطيرة.
الفصل السادس والعشرون
الجمعة 15 أكتوبر 2021
أكتب تلك الكلمات وأنا جالس في فرجة في غابة أشجار زان، مسندا ظهري إلى جذع شجرة. لقد حل وقت العصر وبدأت الظلال تطول، لكن تلك الأجمة من الأشجار ما زالت تحتفظ بدفء النهار. لدي اعتقاد بأن هذا سيكون آخر ما أكتبه في دفتر اليوميات، لكن حتى إن لم أنج أنا ولم تنج تلك الكلمات، فإنني بحاجة لأن أسجل هذا اليوم. كان يوما سعيدا للغاية، وقد قضيته مع أربعة غرباء. في الأعوام التي سبقت أوميجا، وفي بداية كل عام أكاديمي، كنت أكتب تقييما لكل من المتقدمين الذين أختارهم للقبول بالكلية. وكنت أحتفظ بذلك التقييم ومعه صورة فوتوغرافية آخذها من استمارة التقديم في ملف خاص. في نهاية سنواتهم الثلاث التي يقضونها في الكلية، كنت أحب أن أرى كم كان وصفي المبدئي لهم دقيقا، وكيف أنهم لم يتغيروا كثيرا، وكيف أني عجزت عن تغيير طبائعهم الجوهرية. نادرا ما كان يجانبني الصواب بشأنهم. عزز ذلك الفعل من ثقتي الفطرية في حكمي على الآخرين، بل ربما كان ذلك هو الغرض منه. اعتقدت أني أستطيع الحكم عليهم، وقد كنت محقا في حكمي. لكني لا أشعر بذلك تجاه رفقائي الهاربين. ما زلت لا أعرف عنهم شيئا؛ لا أعرف آباءهم، ولا عائلاتهم، ولا تعليمهم، ولا أهواءهم، ولا تطلعاتهم ورغباتهم. مع ذلك لم أشعر براحة في رفقة بشر آخرين كما شعرت اليوم وأنا في رفقة هؤلاء الغرباء الأربعة الذين ما زلت شبه مجبر على ملازمتهم وما زلت أتعلم أن أحب واحدة منهم.
كان يوما خريفيا مثاليا؛ إذ كانت السماء زرقاء صافية، وكان ضوء الشمس هادئا ولطيفا لكنه قوي كضوئها في منتصف يونيو، وكان الهواء عذب الرائحة، يحمل شبح رائحة دخان الحطب، والعشب المجزوز، وروائح الصيف العذبة مجتمعة. ربما لأن أجمة أشجار الزان تلك كانت منعزلة ومحصورة للغاية، تشاركنا شعورا بالأمان التام. شغلنا وقتنا بالنوم، والحديث، والعمل، ولعب ألعاب صبيانية بالأحجار والغصينات وورقات مزقتها من دفتر يومياتي. فحص رولف السيارة ونظفها. وأنا أراقبه وهو يولي اهتماما شديدا بكل جزء في السيارة، يدعكها ويلمعها بحماس، كان من المستحيل أن أصدق أن ذلك الميكانيكي الماهر بالفطرة المنهمك ببراءة الذي يستمتع بتلك المهمة البسيطة هو نفسه رولف الذي كان يظهر أمس تلك الغطرسة والطموح المجرد.
شغل لوك نفسه بالمؤن. تجلت مهارة القيادة الفطرية لدى رولف بمنحه تلك المسئولية. قرر لوك أننا ينبغي أن نأكل الأطعمة الطازجة أولا ثم المعلبات حسب ترتيب تواريخ الصلاحية المطبوعة عليها، ومنحه هذا الترتيب الحصيف للأولويات ثقة في قدراته الإدارية كانت غائبة عنه. رتب المعلبات، وصنع بها قوائم، وابتكر قوائم وجبات. بعد أن ننتهي من الأكل كان يجلس بهدوء وفي يده كتاب الصلوات أو ينضم إلى ميريام وجوليان ليستمع لي وأنا أقرأ عليهما من رواية «إيما». وأنا مستلق على ظهري فوق أوراق شجر الزان ناظرا لأعلى ألمح ومضات من السماء شديدة الزرقة، كنت أشعر ببهجة بريئة وكأننا في نزهة خلوية. وقد كنا بالفعل في نزهة خلوية. لم نناقش خططنا المستقبلية أو الأخطار التي سنواجهها. يبدو لي ذلك مستغربا الآن، لكني أعتقد أنه لم يكن قرارا واعيا بعدم مناقشة الخطط أو الدخول في جدالات أو نقاشات بقدر ما كان رغبة في عدم المساس ببهجة هذا اليوم. كما أني لم أقض وقتا في قراءة مدوناتي السابقة في هذا الدفتر. ففي خضم السعادة الغامرة التي أشعر بها حاليا لا أريد أن أتذكر ذلك الرجل الأناني والمتهكم والوحيد. لا يتعدى عمر تلك اليوميات العشرة الأشهر، لكني بعد اليوم، لن يصير لي حاجة إليها.
الضوء آخذ الآن في الوهن وبالكاد أرى الصفحة. في غضون ساعة سنبدأ رحلتنا. فها قد حزمت أغراضنا بالسيارة التي أعاد لها رولف بريقها، وصارت جاهزة. مثلما أعرف يقينا أن هذا سيكون آخر ما أدونه في يومياتي، أعرف أننا سنلاقي أخطارا وأهوالا ليس بوسعي تخيلها حاليا. لم أعتقد يوما بالخرافات، لكنني فشلت في أن أكذب ذلك الاعتقاد بالحجة أو المنطق. إلا أن اعتقادي بذلك لم يؤثر على سلامي النفسي. وأنا سعيد بأننا حظينا بتلك الاستراحة، وسرقنا تلك الساعات السعيدة البريئة من الزمن الذي لا يلين لأحد. بعد الظهر بينما كانت ميريام تفتش المقعد الخلفي للسيارة، عثرت على كشاف آخر حجمه أكبر قليلا من القلم الرصاص، محشورا بجانب أحد المقاعد. لن يكون كافيا لأن يحل محل ذلك الذي نفدت بطاريته، لكنني ممتن أننا لم نكن نعلم بوجوده. فقد كنا بحاجة ماسة إلى ذلك اليوم.
الفصل السابع والعشرون
كانت الساعة في لوحة عدادات السيارة تشير إلى الثالثة إلا خمس دقائق، وكان ذلك متأخرا عما توقع ثيو أن يكون عليه الوقت. كان الطريق الضيق المهجور يمتد أمامهم، ويمر تحت عجلات السيارة كقماشة بالية متسخة. كان سطحه مترديا وبين الفينة والأخرى كانت السيارة ترتج بشدة إثر مرورها فوق نقرة. كانت القيادة بسرعة في طريق كهذا مستحيلة؛ فلم يجرؤ على أن يخاطر بحدوث ثقب آخر في الإطارات. كان الليل مظلما لكنه لم يكن معتما بالكامل؛ فقد كان القمر المنتصف يظهر ويختفي وراء السحب التي تسوقها الريح، وكانت النجوم تبدو كنقاط بعيدة تكون مجموعات فلكية غير مكتملة، ودرب التبانة يبدو كلطخة من الضوء. بدت السيارة، التي كان التحكم بها سلسا، بمثابة ملاذ متنقل، دفأت أنفاسهم الهواء داخلها، وكانت تفوح منها روائح خفيفة مألوفة تبعث على الأمان حاول أن يتبينها في ظل ارتباكه؛ الوقود، الأجساد، كلب جاسبر العجوز، الذي كان قد مات منذ زمن طويل، وأيضا رائحة نعناع خفيفة. كان رولف يجلس بجواره صامتا ومتوترا، يحملق أمامه. في المقعد الخلفي، جلست جوليان محشورة بين ميريام ولوك. كان ذلك أقل المواضع راحة لكنها اختارته ؛ ربما لأن جلوسها محاطة بجسدين كان يمنحها وهم الأمان الإضافي. كانت عيناها مغمضتين، وقد أراحت رأسها على كتف ميريام. وبينما كان يراقبها في المرآة رأى رأسها يهتز وينزلق ويميل للأمام. فرفعته ميريام برفق لموضع مريح أكثر. كان لوك، هو الآخر، يبدو نائما، فقد كان رأسه مائلا للخلف، وشفتاه منفرجتين قليلا.
Bog aan la aqoon