مررنا من أمام القصر ذي النوافذ المغلقة، وسارية العلم التي ينقصها علمها، وأكشاك الحراسة الخاوية، والبوابة الضخمة المقفولة والموصدة بقفل حديدي. بدا متنزه سانت جيمس مهملا أكثر من آخر مرة رأيته فيها. كان أحد المتنزهات التي قرر المجلس صيانتها جيدا، ورأيت بالفعل من بعيد مجموعة من الأشخاص الكادحين، يرتدون ثياب العمل الخاصة بالعمال الوافدين ذات اللونين الأصفر والبني، يجمعون القمامة ويقلمون، على ما يبدو، حواف مراقد الأزهار التي لا تزال عارية من الأزهار. أضاءت شمس الشتاء صفحة البحيرة التي برز فيها بوضوح الريش ذو الألوان الزاهية لبطتين من فصيلة المندرين بدتا كلعبتين ملونتين. تحت الأشجار كانت توجد طبقة رقيقة من الثلوج التي تساقطت الأسبوع الماضي، وأثار اهتمامي، ولكن ليس بهجتي، أن رأيت أن أقرب رقعة بيضاء ما هي إلا شطء زهور اللبن الثلجية.
كانت حركة سير السيارات خفيفة جدا في ميدان البرلمان، وكانت البوابة الحديدية المؤدية إلى مدخل قصر وستمنستر مغلقة. مرة كل عام ينعقد هنا البرلمان الذي انتخبت مجالس المقاطعات والمجالس الإقليمية أعضاءه. لا تناقش أي قوانين أو تسن أي تشريعات؛ فمجلس إنجلترا هو الذي يحكم بريطانيا بموجب مرسوم. والوظيفة الرسمية للبرلمان هي تلقي المعلومات ومناقشتها وتقديم الاستشارات وإعطاء التوصيات. يقدم كل عضو من أعضاء المجلس الخمسة تقريره شخصيا فيما يصفه الإعلام بالرسالة السنوية للأمة. تدوم دورة البرلمان شهرا فقط، والمجلس هو من يضع جدول أعماله. وتكون القضايا التي يناقشها غير مهمة. وتصعد القرارات التي يوافق عليها بأغلبية ثلثي الأصوات إلى مجلس إنجلترا الذي يمكن أن يوافق عليها أو يرفضها حسب ما يشاء. يتميز ذلك النظام بالبساطة، ويرسم وهم الديموقراطية لشعب لم يعد لديه طاقة لأن يأبه بمن يحكمه أو كيف يحكمه ما دام يحصل على ما وعد به الحاكم، وهو التحرر من الخوف، ومن العوز، ومن الضجر.
في بضع السنوات التي تلت أوميجا، افتتح الملك، الذي لم يكن قد توج بعد، البرلمان بمظاهر الأبهة القديمة نفسها، لكن سيارته كانت تسير في شوارع شبه فارغة؛ فقد تحول من كونه رمزا للاستمرارية والتقاليد لكونه رمزا قديما بطل استخدامه وصار بلا معنى يذكرنا بما فقدناه. والآن لا يزال يفتتح البرلمان، لكن دون جلبة، مرتديا حلة رسمية عادية، آتيا إلى لندن ومغادرا لها خلسة دون أن يلاحظه أحد تقريبا.
أتذكر حديثا خضته مع زان قبل استقالتي من منصبي بأسبوع. «لماذا لا تتوج الملك؟ اعتقدت أنك حريص على الحفاظ على نظامية الوضع.» «ما الجدوى من ذلك؟ الشعب لا يكترث. وسيكره النفقات الضخمة التي ستتكلفها مراسم التتويج الجوفاء.» «صرنا لا نسمع عنه إلا نادرا. أهو تحت الإقامة الجبرية في منزله؟»
ضحك زان ضحكته المكتومة. «ليس منزله. بل قل في قصره أو قلعته. لديه سبل الراحة الكافية. على كل حال لا أعتقد أن كبيرة أساقفة كانتربري ستوافق على تتويجه.»
وأذكر ردي حينها: «هذا ليس مفاجئا؛ فعندما عينت مارجريت شيفنهام في منصب رئيسة أساقفة كانتربري كنت تعلم أنها متعصبة للحزب الجمهوري.»
داخل المتنزه وبالقرب من سوره، أتت جماعة من المتسوطين تسير في صف على العشب. كانوا عراة حتى الخصر، ولا يرتدون، حتى في طقس فبراير البارد، سوى أزر صفراء وصنادل في أقدامهم العارية. بينما كانوا يسيرون، كانوا يأرجحون حبال سياطهم الثقيلة المعقودة إلى الوراء لتمزق ظهورهم الدامية أصلا. حتى من خلف زجاج نافذة السيارة، كان بوسعي أن أسمع صفير جلد السياط وهو يشق الهواء وقرعها على جلودهم العارية. نظرت إلى مؤخر رأس السائق، إلى نصف الدائرة من الشعر الداكن المقصوص قصا قصيرا بعناية الذي يظهر من قبعته، والشامة التي تعلو ياقة قميصه التي أزعجتني فلم أستطع رفع عيني عنها خلال معظم رحلتنا الصامتة.
حينئذ، مصمما على أن أحمله على إعطائي أي رد، قلت له: «كنت أظن أن القانون صار يمنع ذلك النوع من الاستعراضات العامة.» «فقط على الطرق السريعة أو الأرصفة العامة يا سيدي. أتصور أنهم يعتبرون أنه يحق لهم السير داخل المتنزه.»
سألته: «ألا تجد ذلك المشهد مريعا؟ أعتقد أن ذلك هو السبب في حظر المتسوطين. الناس يكرهون منظر الدم.» «بل أجده سخيفا يا سيدي. إن كان ثمة وجود للإله، وكان يرى أنه ضاق بنا ذرعا، فلن يثنيه عن رأيه بضعة همج عديمو النفع يرتدون الأصفر ويجولون المتنزه منتحبين.» «هل تؤمن به؟ هل تؤمن بوجوده؟» كنا قد توقفنا أمام باب وزارة الخارجية القديم. قبل أن يترجل من السيارة ليفتح لي الباب، التفت إلي وثبت بصره على وجهي قائلا: «ربما فشلت تجربته فشلا ذريعا يا سيدي. ربما أربكته رؤية تلك الفوضى، ولا يعرف كيف يتداركها. أو ربما كان لا يريد أن يتداركها. ربما لم يعد لديه طاقة تكفي إلا لأن يتدخل تدخلا نهائيا. وها قد فعل. أيا من كان، وكيفما كان، أتمنى أن يحترق في جحيمه.»
خرجت منه تلك الكلمات بمرارة بالغة، ثم ما لبث أن وضع قناع البرود والجمود مرة أخرى. وقف وقفة تأهب وفتح لي باب السيارة.
Bog aan la aqoon