مقدمة المؤلف
* بسم الله الرحمن الرحيم
وبه التوفيق والإعانة ولا حول ولا قوة إلا بالله (1).
الحمد لله الذي لا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، ولا يدرك كنه حقيقته العارفون ، ولا يحيط بجلال صمديته العالمون ، تعالى عن أن تحيط به الأوهام والظنون ، وجل [عن (2) ] أن تخلقه الأعوام والسنون ، الخالق لكل موجود سواه ؛ فهو كائن بعد ما لم يكن ، وفاسد بعد أن يكون.
والصلاة على محمد رسوله القائم بشرعه ، والمظهر لدينه بعد أن كان مكنونا ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ، ومعادن السر المصون. وبعد :
فإنه لما كان كمال كل شيء وتماميته بحصول كمالاته الممكنة له ؛ كان كمال الأنفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات : وهى الإحاطة بالمعقولات ، والعلم بالمجهولات.
ولما كانت العلوم متكثرة ، والمعارف متعددة ، وكان الزمان لا يتسع لتحصيل جملتها ، والعمر يقصر عن الإحاطة بكليتها ، مع تقاصر الهمم وقصورها ، وضعف الدواعى وفتورها ، وكثرة القواطع واستيلاء الموانع ، كان (3) الواجب السعى في تحصيل أكملها ، والإحاطة بأفضلها ؛ تقديما لما هو الأهم فالمهم (4) وما الفائدة في معرفته (5) أتم.
ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالنظر أبصار البصائر ، وتمتد نحوه أعناق الهمم والخواطر ؛ ما كان موضوعه أجل الموضوعات ، وغايته أشرف الغايات ، والحاجة إليه في تحصيل السعادة الأبدية من الأبديات ، وإليه مرجع العلوم الدينية ، ومستند النواميس الشرعية ، وبه صلاح العالم (6) ونظامه ، وحله وإبرامه ، والطرق الموصلة (7) إليه يقينيات ،
Bogga 67
والمسالك المرشدة نحوه قطعيات ، وذلك هو العلم الملقب بعلم الكلام ، الباحث في ذات واجب الوجود ، وصفاته ، وأفعاله ، ومتعلقاته ؛ فكان أولى بالاهتمام بتعجيله ، والنظر في تحقيقه وتحصيله.
ولما كنا مع ذلك قد حققنا أصوله ، ونقحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين ، واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللباب. سألنى بعض الأصحاب (1)، والفضلاء من الطلاب ؛ جمع كتاب حاو لمسائل الأصول ، جامع (2) لأبكار أفكار أرباب العقول. مقتصد لا يخرجه التطويل إلى الملل ، ولا فرط (3) الاختصار إلى النقص والخلل ؛ فأجبته إلى دعوته ، والحقته (4) بأمنيته / رجاء للفوز يوم المعاد ، والغبطة عند قيام الأشهاد ، وهو المسئول أن يلهمنا الرشد فيما رمناه ، ويسددنا لما قصدناه ، وأن يقيلنا من العثار ، وسوء الإكثار ، إنه قريب ممن دعاه ، مجيب لمن قصده واستجداه ، وسميته :
أبكار الأفكار
وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد ؛ متضمنة لجميع مسائل الأصول :
الأولى (5): في العلم وأقسامه.
الثانية : في النظر وأقسامه وما يتعلق به.
الثالثة : في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية (6).
الرابعة : في انقسام المعلوم إلى الموجود والمعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم.
Bogga 68
الخامسة : في النبوات.
السادسة : في المعاد وما يتعلق به من السمعيات ، وأحكام الثواب والعقاب.
السابعة : في الأسماء والأحكام.
الثامنة : في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.
Bogga 69
القاعدة الأولى
في حقيقة العلم وأقسامه
وتشتمل على أربعة أقسام :
الأول (1): في حد العلم وحقيقته.
الثاني : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه.
الثالث : في العلم الكسبى.
الرابع : في أحكام العلم.
Bogga 71
القسم الأول
في حد العلم وحقيقته (1)
أما حقيقة العلم : فقد اختلف العلماء في العبارات الدالة عليها.
فقال بعض المعتزلة (2): العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه.
وهو باطل بالمعتقد عن تقليد وجود الرب تعالى ؛ فإنه معتقد للشىء على ما هو عليه ، وليس اعتقاده علما. (3) وهذا مما لا يندفع وإن زيد في الحد : مع سكون النفس إليه (3). ثم إنه يخرج منه العلم بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فإنه علم ، وما تعلق به ليس بشيء بالاتفاق.
ومنهم (4) من زاد في الحد : إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وهذه الزيادة ، وإن اندفع بها الإشكال الأول فلا يندفع بها الإشكال الثاني.
ومن زعم أن العلم لا يتعلق بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فحكمه بذلك علم تصديقى ، والعلم التصديقى يستدعى علمين تصوريين ، وأحد التصورين المعدوم المستحيل الوجود ؛ فيكون مناقضا لقوله : والعلم التصديقى. مع كونه مكابرا للبديهة ، وما يجده كل عاقل من نفسه من العلم باستحالة الجمع بين النفى والإثبات ، وهو غير متصور مع كون النفى غير معلوم.
وانظر الإنصاف للباقلانى. طبع الخانجى ص 13. والتمهيد له أيضا طبع دار الفكر العربى ص 34 وأصول الدين للبغدادى. طبع مطبعة الدولة باستانبول ص 5 ، 6 والإرشاد لإمام الحرمين. نشر الخانجى ص 12 ، 13 والمحصل للرازى. طبع الحسنية ص 69 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 5 على هامش المحصل.
وانظر شرح المواقف للجرجانى. ط دار الطباعة العامرة ص 29 36 حيث يختصر صاحب المواقف ما أورده الآمدي مفصلا هنا. وأيضا شرح المقاصد للتفتازانى. ط دار الطباعة العامرة باستانبول ص 13 15.
Bogga 73
وقال القاضى أبو بكر (1): العلم (2) معرفة المعلوم على ما هو به (3)
وهو باطل من وجهين :
الأول (4): أن لله تعالى علما عنده بعلم ، ولا يقال لعلمه معرفة بالإجماع ؛ فلا يكون الحد جامعا.
الثانى : أنه عرف العلم بالمعلوم. والمعلوم مشتق من العلم ، والمشتق من الشيء يكون أخفى من ذلك الشيء ، وتعريف / الأظهر (5) بالأخفى ممتنع. كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهى قوله : على ما هو به ؛ فإن المعرفة بالمعلوم لا تكون إلا على ما هو به.
وقال الشيخ الأشعرى (6): فيه عبارات :
الأولى : العلم هو الذي يوجب كون من قام به يكون عالما.
الثانية : هو الذي يوجب لمن قام به اسم العالم.
الثالثة : العلم إدراك المعلوم على ما هو به.
والعبارتان الأوليان مدخولتان ؛ من حيث أنه أخذ العالم في حد العلم ؛ وهو أخفى من العلم. والثالثة [مدخولة أيضا (7) ] من جهة أنه أخذ المعلوم في تعريف العلم ؛ وهو أخفى منه (8).
Bogga 74
وأيضا : فإنه أخذ الإدراك في حد العلم ، والإدراك على أصله نوع من العلم ؛ وتعريف الجنس بنوعه ممتنع. ثم لا حاجة إلى الزيادة وهى : على ما هو به ؛ كما تقدم.
قال الأستاذ أبو بكر بن فورك (1): العلم ما صح بوجوده من الذي قام به إتقان الفعل وإحكامه.
وهو باطل ؛ فإنه إن أراد به ما يصح به إحكام الفعل وإتقانه بطريق الاستقلال ؛ فهو محال ، فإن إتقان الفعل كما يتوقف على العلم ، يتوقف على القدرة. وإن أراد به أنه يتوقف عليه الإتقان ولا يستقل به ؛ فيلزم عليه القدرة ؛ فإنها أيضا كذلك ؛ وليست علما.
وأيضا : فإن الواحد منا له علم ، وهو غير مؤثر في إتقان فعل من الأفعال القائمة به ، ولا الخارجة عنه ؛ إذ هو غير موجد لهما على أصلنا.
وقد قيل في إبطاله أيضا : إن العلم قد يكون بما لا يصح به إتقانه [كعلم (2) ] الواحد منا بنفسه وبالله تعالى ، وبالمستحيلات ؛ فإن ما تعلق به ليس فعلا ، ولا مما يصح إتقانه [به (3) ] وإنما يلزم هذا الإبطال أن لو قيل : العلم هو ما يصح به إتقان كل ما يتعلق به. وأما إذا أريد به ما يصح به في الجملة إتقان الفعل ، فلا.
وقال الشيخ أبو القاسم الأسفرايينى (4): العلم ما يعلم به.
وفيه أيضا : تعريف العلم بما هو أخفى منه.
الأستاذ أبو بكر بن فورك : محمد بن الحسن بن فورك : المتكلم ، الأصولى ، الأديب ، النحوى ، الواعظ. من متكلمى الأشاعرة ، له تصانيف كثيرة في أصول الدين ، وأصول الفقه توفى سنة 406 ه.
Bogga 75
** وقال بعض الأصحاب :
وهو فاسد من ثلاثة أوجه (1):
الأول : أن فيه تعريف العلم بالمعلوم ؛ وهو فاسد ؛ على ما تقدم.
الثانى : أنه إذا كان العلم إثبات المعلوم ؛ فالعالم بالمعلوم يكون مثبتا للمعلوم ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علمنا بوجود الرب تعالى : إثباتا له ؛ وهو محال.
الثالث : أن الإثبات قد يطلق ويراد به إيجاد الشيء ، وقد يطلق ويراد به تسكين الشيء عن الحركة ، وقد يطلق تجوزا على العلم.
ولا يخفى أن إرادة الإثبات بالاعتبار الأول والثاني فيما نحن فيه ؛ ممتنع. والثالث / فيه تعريف العلم بالعلم ؛ وهو ممتنع.
** وقال غيره من الأصحاب :
ولا يخفى ما فيه من الزيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه. والذي يخصه أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء ، والوضوح بعد الإبهام ؛ وذلك مما يوجب خروج علم الرب تعالى عن الحد.
وقال غيره : العلم هو الثقة (2) بأن المعلوم على ما هو عليه.
ولا يخفى ما فيه من الزيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه.
كيف وأنه يلزم من كون العلم هو الثقة (2) بالمعلوم ؛ أن يكون من قام [به] (3) العلم واثقا ؛ وذلك يوجب كون البارى تعالى واثقا بما هو عالم به ، وإطلاق ذلك على الله تعالى ممتنع شرعا.
** وقالت الفلاسفة :
ويلزم عليه أن من علم الحرارة والبرودة : أن تكون صورة الحرارة ، والبرودة ؛ منطبعة في نفسه ؛ ويلزم من ذلك أن يكون العالم بهما حارا ، أو باردا ؛ وهو محال.
Bogga 76
** فإن قيل :
قيل : فالمثال إن كان مساويا في الحقيقة للمثل ؛ فالإشكال لازم ، وإلا فليس مثلا له ، ولا العلم متعلقا به (1).
ولعسر تحديد العلم ؛ اختلف العلماء المتأخرون.
(2) فقال بعضهم (2): إنه لا طريق إلى تعريفه بالحد ؛ بل تعريفه إنما هو بالقسمة ، والمثال.
وقال بعضهم (3): العلم بالعلم بديهى ؛ لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا بالعلم ، فلو كان غيره معرفا له ؛ لكان دورا ؛ ولأن الإنسان يعلم بالضرورة وجود نفسه ، والعلم أحد تصورى هذا التصديق البديهى ، وما يتوقف عليه البديهى يكون بديهيا ؛ فتصور العلم بديهى ؛ وهما باطلان :
أما القول الأول : فلأن الطريق المذكور في التعريف إن حصلت به معرفة العلم وتمييزه عن غيره ؛ فلا معنى للحد إلا هذا. وإن لم يحصل به تمييز العلم عن غيره ، فلا يكون معرفا للعلم.
وأما القول الثانى : فغير لازم ، فإن الدور يوجب أن لا يكون التحديد بأمر خارج عن العلم ، فلا يلزم من ذلك امتناع التحديد مطلقا ؛ إذ الحد أعم من الحد بأمر خارج عن المحدود على ما لا يخفى إلا أن يكون العلم بسيطا ، وليس كذلك (4)؛ إذ هو نوع من مقولة الكيف ؛ على رأى. ومن مقولة المضاف ، على رأى ؛ فيكون مركبا.
كيف وأنه لا دور ؛ (5) إذ الدور إنما يكون (5) مع اتحاد جهة التوقف ، وتوقف غير العلم على العلم لا من جهة (6) كون العلم (6) صفة مميزة له ؛ بل من جهة كونه مدركا به ، وتوقف / العلم على الغير بالضد ؛ فلا دور أصلا.
Bogga 77
وعلم الإنسان بوجود نفسه وإن كان بديهيا ، فلا يلزم أن تكون العلوم التصورية بديهية لوقوع النسبة البديهية بينهما ؛ فإنه لا معنى للقضية البديهية إلا إذا ما حصل العلم بمفرداتها بادر العقل إلى النسبة الواجبة لها من غير توقف على نظر ولا استدلال. وسواء كانت المفردات معلومة بالبديهية ، أو النظر. ولهذا فإن النفس أحد التصورات في المثال المذكور ؛ والعلم بمعنى النفس غير بديهى (1).
والأشبه في تحديده أن يقال :
العلم عبارة عن (2) صفة يحصل بها لنفس المتصف تمييز حقيقة ما ، غير محسوسة في النفس احترازا من المحسوسات حصل عليه حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل عليه (2)، ويدخل فيه العلم بالإثبات ، والنفى ، والمفرد ، والمركب (3). وتخرج عنه الاعتقادات والظنون حيث (4) أنه لا يبعد (4) فى النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل عليه في النفس ، وهو وجودى لا سلبى ؛ لأنه لو كان سلبيا ؛ فسلبه يكون إثباتا ؛ لأن سلب السلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صح سلب العلم عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من اتصاف العدم المحض بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال.
فإن قيل : هذا وإن دل على أن العلم ثبوتى ؛ فهو معارض بما يدل على كونه سلبيا ؛ وذلك لأن الجهل البسيط نقيض العلم. والجهل البسيط ليس أمرا سلبيا وإلا كان سلبه إثباتا كما ذكرتموه. ولو كان إثباتا ؛ لما صح سلب الجهل عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من إثبات الصفة الثبوتية للعدم المحض ؛ وهو محال.
وإذا كان الجهل البسيط ثبوتيا ؛ فالعلم المناقض له يكون سلبيا.
Bogga 78
قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان الجهل البسيط نقيضا للعلم ؛ وليس كذلك ؛ [بل (1) هو مقابل له ؛ والمتقابلان (1) ] أعم من المتناقضين. ولا يلزم من كون أحد المتقابلين ثبوتيا أن يكون الأخر سلبيا ؛ (2) ولهذا فإنهما يجتمعان في الكذب بالنسبة إلى ما هو غير قابل للعلم ، ولو كانا متناقضين لما اجتمعا في الكذب (2). وقد قيل : إن العلم صفة إضافية بين العالم والمعلوم ؛ وفيه نظر.
فإنه إن قيل : إن الإضافة عدم ؛ فسلب الإضافة يكون ثبوتيا. ويلزم منه أن يكون سلب الإضافة عن الأعدام المحضة ؛ موجبا لاتصاف العدم المحض بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال.
وإن قيل : إن الإضافة وجود فيلزم [أن تكون الإضافة بين] (3) المتقدم والمتأخر ؛ صفة ثبوتية لهما. مع أن أحدهما معدوم. وأن تكون الإضافة / بالتقابل بين السلب والإيجاب صفة ثبوتية لهما ؛ والسلب عدم محض.
وإذا كان كل واحد من الأمرين محالا ؛ فالعلم لا يكون صفة إضافية.
وإذا عرف معنى العلم ؛ فهو حاصل متحقق باتفاق العقلاء. ولم يخالف في ذلك غير السوفسطائية (4)، وسيأتى (5) الكلام معهم فيما بعد إن شاء الله تعالى (5).
وهو ينقسم إلى : قديم ، وإلى حادث.
أما العلم القديم : فهو علم الله تعالى وسيأتي الكلام فيه فيما بعد (6).
وأما العلم الحادث : فينقسم إلى ضرورى ، وإلى كسبى ؛ فلا بد من الإشارة إليهما (7).
Bogga 79
القسم الثانى
في العلم الضرورى (1)
واختلف الناس فيه.
** وقد قال القاضى أبو بكر :
العلم الضرورى : هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد عن الانفكاك عنه سبيلا.
وهذه العبارة وإن وقع (3) الاحتراز فيها (3) عن علم الله تعالى إلا أنه لا مانع من زوال العلم الضرورى ، وثبوت أضداده كما يأتى ؛ فلا يكون جامعا.
وإن قيل : المراد به منع الانفكاك مقدورا للعبد ، أو عادة (4)، فيدخل العلم النظرى (4) بعد حصوله ، فإنه كذلك وليس ضروريا عنده ؛ فلا يكون الحد مانعا ، وإنما يصح أن لو أريد به منع الانفكاك قبل النظر مقدورا للمكلف ، أو عادة (5).
والحق أن الضرورى قد يطلق على ما أكره عليه ، وعلى ما تدعو الحاجة إليه دعوا قويا : كالحاجة إلى الأكل في المخمصة ، وعلى (6) ما سلب فيه الاقتدار على الفعل والترك : كحركة المرتعش. إلا أن إطلاق العلم الضرورى على العلم الحادث ؛ إنما هو بهذا الاعتبار الأخير.
** وعلى هذا : فالعلم الضرورى :
وذلك كالعلم بالمحسوسات (8) الظاهرة (8): كالعلم بالمسموعات ، والمبصرات ، والمشمومات ، والمذاقات ، والملموسات.
Bogga 80
أو بالحواس الباطنة : كعلم الإنسان بلذته وألمه ، والعلم بالأمور العادية : كعلمنا بأن الجبال المعهودة لنا ثابتة ، والبحار غير غائرة ، وكالعلم بالأمور التى لا سبب لها ولا يجد الإنسان نفسه خالية عنها : كالعلم بأنه لا واسطة بين النفى والإثبات ، وأن الضدين لا يجتمعان ، وأن الكل أكثر من الجزء ونحوه. وربما خصت هذه بالبديهيات.
وإذا عرف معنى العلم الضرورى ؛ فقد اختلف فيه :
فقال قوم من المعتزلة : إن جميع العلوم الواقعة ضرورية غير مقدورة للعباد.
لكن من هؤلاء من قال : إن الجميع غير مقدور للعباد ، ولا يتوقف على نظر واستدلال.
** ومنهم من قال :
حصوله عن نظر ، لكن بعد تمام النظر يقع العلم ضروريا غير مقدور عليه.
** وقال قوم :
نظرية. وما عدا ذلك ؛ فلا يمتنع أن يكون نظريا. (1)
** وقال بعض الجهمية
** وقال بعض المتأخرين
التصديقية ؛ فمنقسمة إلى ضرورى ، ونظرى.
** والذي عليه المحصلون :
المختلف فيها. كحدوث العالم ، ووجود الصانع ، والجوهر الفرد وبقاء الأعراض. إلى غير ذلك.
انظر المحصل ص 71 ، وشرح المواقف ص 43.
Bogga 81
ثم لو كانت العلوم كلها ضرورية ؛ لما ساغ الخلاف فيها من الجمع الكثير من العقلاء ممن تقوم الحجة بقولهم ، ولما وجد واحد من نفسه الخلو عنها.
وعلى هذا أيضا : يبطل قول من فصل بين العلوم المتعلقة بالإله تعالى وصفاته ، والاعتقادات الصحيحة ، وبين غيرها.
ومن قال بكون العلم ضروريا مع حصوله عن النظر فلا نزاع معه في غير التسمية ، فإنا لا نعنى بكونه مقدورا وغير ضرورى ؛ غير كون الطريق المفضى إليه مقدورا للعبد. لا بمعنى أن العلم الحاصل عنه مقدور.
كيف وأن معرفة الله تعالى واجبة بالإجماع : إما بالعقل ، أو بالشرع.
فإن كان بالعقل : فالعقل لا يوجب فعل ما ليس بمقدوره.
وإن كان ذلك بالشرع : فالشارع أيضا لا يوجب فعل ما ليس بمقدور على ما يأتى ، وكما أنه ليس كل علم ضروريا ؛ فليس كل علم نظريا. وإلا لزم التسلسل الممتنع ؛ بل البعض ضرورى ، والبعض نظرى ؛ وسيأتى الرد على شبه منكرى الضروريات فيما بعد. (1)
ومن قال بالفرق بين التصور ، والتصديق ؛ فقد احتج عليه بحجج (2) أبطلناها في كتاب دقائق الحقائق (2).
والقائل بالفرق بين التصور ، والتصديق : هو الإمام الرازى. انظر المحصل ص 3 5 وقد نقل الآمدي رأى الرازى المذكور في المحصل بالتفصيل في كتابه دقائق الحقائق في ل 5 / أ، ل 5 / ب. وقد قابلته على ما ورد بالمحصل وتأكد لى صحة نقل الآمدي. الذي بدأه بقوله : قال بعض المتأخرين : ثم بدأ في نقده ، والرد عليه فقال بعد نقله رأى الرازى بالتفصيل وهذا منه تساهل في التحقيق ، ثم نقده نقدا تفصيليا في ل 5 / ب ل 7 / ب.
Bogga 82
القسم الثالث
في العلم الكسبى (1)
والعلم المكتسب : هو العلم المقدور بالقدرة الحادثة.
وقد اختلف أصحابنا في جواز وقوع العلم المكتسب من غير نظر ، واستدلال. فجوزه قوم وإن كانت العادة على خلافه كالأستاذ أبى إسحاق (2) ومنع منه آخرون.
وعلى هذا فمن لم يجوز انفكاك العلم المكتسب عن النظر ؛ فحد المكتسب عنده مطرد في العلم النظرى ؛ فكل علم مكتسب عنده نظرى ؛ وكل نظرى مكتسب.
ومن جوز الانفكاك : لم يطرد / حد المكتسب عنده في النظرى ؛ فإن اطرد حد النظرى في المكتسب ؛ فكل نظرى مكتسب ، وليس كل مكتسب نظريا.
وعلى هذا فقد اختلف أرباب هذا (3) المذهب في العبارات (3) الدالة على العلم النظرى.
فمنهم من قال : هو العلم الواقع عقيب النظر الصحيح.
ومنهم من قال : ما يوجبه النظر الصحيح.
ومنهم من قال : هو الواقع عن النظر الصحيح.
ومنهم من قال : هو المقدور المنظور فيه نظرا صحيحا.
ومنهم من قال : ما يتضمنه النظر الصحيح (4).
والعبارة الأولى : مدخولة بما يقع من العلوم الضرورية عقيب النظر الصحيح : كالعلم بما يحدث من الألم ، واللذة ، والفرح ، والغم ونحوه ؛ فإنه ليس نظريا مع وجود الحد.
Bogga 83
والعبارة الثانية ، والثالثة فغير مرضية على رأى أصحابنا ؛ لإشعارهما بوجود العلم ووجوبه بالنظر ؛ وليس كذلك على ما سيأتى في النظر (1).
** والعبارة الرابعة :
** وأما العبارة الخامسة :
فيها نوع غموض بسبب غموض معنى التضمن.
وكشفه أن يقال : معنى تضمن النظر الصحيح للعلم : أنهما بحال لو قدرنا انتفاء الآفات ، وأضداد العلم ؛ لا ينفك أحدهما عن الآخر (2) من غير إيجاب ولا تولد : كالعرض مع الجوهر ، وتذكر النظر وإن لم يكن هو نفس النظر ؛ فالعلم الحاصل عنده لا يخرج عن أن يكون النظر متضمنا له ؛ فعبارة القاضى تكون مطردة في هذه الصورة أيضا.
Bogga 84
القسم الرابع : في أحكام العلم
ويشتمل على تسعة فصول :
الأول : في تجويز وقوع العلم (1) الضرورى نظريا ، وبالعكس
الثانى : في مراتب العلوم.
الثالث : في العلم الواحد الحادث. هل يتعلق بمعلومين ، أم لا؟
الرابع : في جواز تعلق علم بمعلوم ، (2) أو معلومات على الجملة (2).
الخامس : في اختلاف العلوم وتماثلها.
السادس : في تعلق العلم بالشيء من وجه دون وجه.
السابع : في امتناع وجود علم لا معلوم له.
الثامن : في محل العلم الحادث ، وأنه لا بقاء له.
التاسع : في أضداد العلم الحادث ، وأحكامها.
Bogga 85
الفصل الأول
في تجويز وقوع العلم الضرورى نظريا وبالعكس
أما أن العلم الضرورى هل يجوز وقوعه نظريا (1)؟
فقد قال به القاضى أبو بكر فى بعض أقاويله وجماعة من المتكلمين. ونفاه آخرون.
ومنهم من لم يجوز ذلك فيما كان من العلوم الضرورية شرطا في كمال العقل. وجوزه فيما عداه.
وقد ذهب القاضى أبو بكر إلى هذا التفصيل في قول أخر. وإليه ميل (2) أبى المعالى (3) من أصحابنا.
وأحتج من قال بتجويز ذلك في العلوم الضرورية مطلقا : بأن العلوم من جنس واحد ؛ فما جاز في البعض جاز على الكل ، وقد جاز في بعض العلوم أن تكون نظرية ؛ فكذلك في الباقى (4).
** ولقائل أن يقول :
وإن كانت من جنس واحد ؛ فلا يمنع ذلك من اختلافها ، وتميز كل واحد بتعين غير تعين الآخر.
ومع ذلك فلا يلزم أن ما جاز على أحدهما يجوز على الآخر ؛ لجواز أن يكون ما جاز على أحدهما بسبب تعينه ، أو أن تعين الآخر يكون مانعا منه ، واشتراك العلوم كلها في عارض واحد وهو الإدراك والإحاطة ، أو غير ذلك. غير دال على الاتحاد ؛ إذ لا مانع من اشتراك المختلفات في لازم واحد عام لها.
Bogga 87
وأيضا : فإنه لو جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ؛ فكل ما هو جائز أن يكون ؛ لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية. ولو كان كذلك ؛ لاستحال وقوع شيء من العلوم النظرية ؛ لأن العلم النظرى لا بد وأن ينتهى إلى العلم الضرورى وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ وهو ممتنع.
وأيضا : فإنه إذا جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ، لجاز وقوع العلوم الضرورية التى هى شرط كمال العقل في النظر نظرية. (1) وإذا كانت نظرية (1)؛ فتكون متوقفة على النظر ، والنظر متوقف على كمال العقل ، الذي لا يتم النظر إلا به. وكمال العقل الذي لا يتم النظر إلا به ، متوقف على تلك العلوم الضرورية ؛ فيكون دورا.
وأيضا : فإنه لو جاز وقوع جميع العلوم الضرورية نظرية ؛ (2) فالنظر على ما يأتى مضاد (2) وقوع المنظور فيه. ففى حالة النظر لا يكون عالما بها. وذلك يجر إلى تجويز أن يكون العاقل حالة النظر [غير] (3) عالم باستحالة اجتماع الضدين ، وأن لا واسطة بين النفى والإثبات ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، وأن الجسم في آن واحد لا يكون في مكانين.
ولا يخفى ما في ذلك من الإحالة ، واتجاه قول منكرى البديهيات.
فإن قيل : هذا وإن دل على امتناع وقوع الضروريات نظرية ؛ فما المانع من وقوعها كسبية مقدورة للعبد ، وإن لم تفتقر إلى نظر واستدلال؟ كما قال الأستاذ أبو إسحاق في بعض مذاهبه.
فنقول : لو وقعت كسبية مقدورة للعبد ، لصح الإضراب عنها ؛ لكونها مقدورة ؛ فإنه لا معنى للمقدور إلا ما يصح فعله / وتركه وإلا كان (4) مضطرا إليه وملجأ ؛ فلا يكون مقدورا. ولا يخفى أن إضراب العاقل عن العلوم البديهية محال.
كيف وأن هذا مما لا يطرد في العقل عنده ؛ إذ هو من العلوم الضرورية. فلو جاز وقوعه مقدورا ؛ لصح الإضراب عنه. وإضراب العاقل عن عقله محال. ثم إن حصول العلم مقدورا ؛ يستدعى حصول العقل. وحصول العقل إذا كان من العلوم المقدورة ، فحصوله مقدورا ؛ يتوقف على حصوله في نفسه. وحصوله في نفسه ؛ يتوقف على كونه مقدورا ؛ وهو دور ممتنع.
Bogga 88
** وربما قيل في إبطاله :
غير نظر واستدلال. ولو جاز ذلك لا يتحتم علينا الدعاء إلى النظر والاستدلال المفضى إلى معرفة الله تعالى مع وجوبه ؛ لجواز أن يقول المدعو : ذلك حاصل لى من غير نظر ولا استدلال.
وهو إنما يلزم أن لو لزم من جواز وقوع الضرورى مقدورا من غير نظر ، جواز ذلك في النظرى ، ولا بد من دليل جامع ؛ ولا دليل عليه.
وأيضا : فإن حصول ذلك مع تجويزه خارق للعادة ، والمخبر عن نفسه مما يخرق العادة غير مصدق فيه.
وأما من منع من جواز ذلك مطلقا. فحجته ما أشرنا إليه (1) في الاعتراض (1).
وربما احتج : بأنه لو جاز وقوع العلم الضرورى نظريا ؛ لجاز وقوع الآلام والأوجاع ، وغير ذلك مما وقوعه غير مكتسب مكتسبا.
وهو تمثيل من غير دليل جامع ؛ فلا يكون صحيحا كما تقدم.
ومن قال بالتفصيل (2) بين العلوم الضرورية التى بها كمال العقل وغيرها فمستنده : أما فيما قضى فيه بالجواز ؛ فمستند (3) القائلين بتعميم الجواز ، وقد عرف ما فيه (4) وفيما قضى فيه بنفي الجواز ؛ فما أسلفناه من الدور في الاعتراض على القائلين بالجواز مطلقا (5).
وأما أن العلوم النظرية هل يجوز أن تقع ضرورية غير مقدورة للعبد؟ (6) فهذا مما اتفق عليه أهل الحق من أصحابنا.
Bogga 89