A Glimpse of the Eloquence in Surah Yusuf in the Quran
غرر البيان من سورة يوسف ﵇ في القرآن
Daabacaha
دار الفاروق للنشر والتوزيع
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
Goobta Daabacaadda
عمان
Noocyada
غُرَر البَيَان
من سورة يوسف ﵇ في القرآن
دراسة قصصيَّة ولمسات بيانيَّة
1 / 1
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
حقوق الطبع محفوظة. لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من
الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع
الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته الى أي لغة
أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من دار الفاروق.
دار الفاروق
للنشر والتوزيع
عمان - العبدلي - عمارة جوهرة القدس
تلفكاس ٠٠٩٦٢٦٤٦٤٠٠٦٤
E-mail: daralfarouq@ yahoo.com
1 / 2
غُرَر البَيَان
من سورة يوسف ﵇ في القرآن
دراسة قصصيَّة ولمسات بيانيَّة
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...﴾
أحمد محمود الشوابكة
تقديم ومراجعة
أ. د. أحمد نوفل ... أ. د. محمود السَّرطاوي ... كليَّة الشَّريعة - الجامعة الأردنيَّة ... كليَّة الشَّريعة - جامعة العلوم الإسلاميَّة العالميَّة
د. صلاح الخالدي
كليَّة الشَّريعة - جامعة العلوم الإسلاميَّة العالميَّة
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إِلى مَنْ أوْصَاني ربِّي بهما خَيرًا، فقال:
﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)﴾ [الإسراء].
إِلى مَنْ أَسْأَلُ رَبِّي لهما خَيرًا، فأقول:
﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)﴾ [الإسراء].
ابنكما البَارُّ
الغَنِيُّ بالفَقْرِ إِلى الله
أحمد محمود خليل الشوابكة
أبو عبيدة
1 / 5
تقديم
أ. د. أحمد نوفل
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ [الفرقان] والصَّلاة والسَّلام على من كان خلقه القرآن - ﷺ ـ، وعلى آله وأصحابه الكرام، وبعد:
فإنَّ القرآنَ أعظمُ المعجزات، وقصصه من أعظم معجزاته، وقصَّة يُوسُفَ أروع هذه القصص، وأبدع ما عرفت الدُّنيا من قصص، فلا جَرَمَ، يقول ربُّنا ﵎ في مطلعها وفاتحتها: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... (٣)﴾ [يوسف] ووصْف الأحسنيَّة ليس مقتصرًا على هذه القصَّة بطبيعة الحال، ولكنَّ حظَّها من الأحسنيَّة حظٌّ أوفى.
وقد جَذَبَتْ هذه القصَّةُ أقلامًا كثيرة لتكتُبَ عنها، وأنظارًا كثيرة تستجلي حسنَها وبهاءَها، وقد كَتَبْتُ منذ أكثر من ربع قرنٍ كتابًا جَاوزَ ستمائة صفحة، وما وفَّيتها حقَّها.
وقد أطلعني الأستاذ أحمد على مخطوطة كتابه (غرر البيان من سورة يُوسُفَ - ﵇ - في القرآن)، وهو كِتَابٌ وجيز لطيف، فيه من رياض التَّفاسير مقتطفاتٌ، ومن بحارها غُرُفَاتٌ، ومن فِكْرِ صاحب الكتاب نَظَرَاتٌ.
وقد تصفَّحت الكتابَ، فوجدت حِرْصًا عند صاحبه وإخلاصًا على تخليصه من الإسرائيليّات، وهذا بحدّ ذاته مَطْلبٌ عزيز عَزَّ من اعتنى به، فنحن في وقت كَثُرَ الاغترافُ من عين الإسرائليَّات الحمئة، وقلَّ من يترفَّع عن لوثاتها.
1 / 7
على كلِّ حال، هذه واحدة من مزايا الكتاب، ولغة صاحبه جيِّدة، فالكتاب رَشِيقُ العِبارةِ واللُّغة، كأنَّ لُغَتَهُ الأمْثَالُ المُرْسَلة.
أمَّا تحليله للآيات ففيه من لطائف القرآن، ولمسات البيان الشّيء الطَّيِّب ... أسأل الله لصاحبه التَّوفيق والمزيد.
أ. د. أحمد نوفل
أستاذ التَّفسير والدِّراسات القرآنيَّة
كليَّة الشَّريعة - الجامعة الأردنيَّة
عمَّان ٧/ذو الحجّة /١٤٣٠ هـ
الموافق ٢٤/ ١١/ ٢٠٠٩ م
1 / 8
تقديم
أ. د. محمود السَّرطاوي
الحَمْدُ لله الهادي إلى سَواء السَّبيل، يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، ولا يَنْسى من فَضْلِهِ أحَدًا، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مُعَلِّم النَّاس الخير، وقُدْوَتِهم في الدَّعوة والإصلاح، رسُولِ الإنسانيَّة محمَّدٍ بن عبد الله - ﷺ - وعلى الآل والصَّحب الأخيار الأطهار الأبرار، وعلى مَنْ تَبِعَهُم وَسَارَ على منهجهم إلى يومِ الدِّين، وبعد:
فإنَّ العِلْمَ - كما يقولون - رَحِمٌ بين أَهْلِهِ، وقَلِيلٌ هم أولئكَ النَّفر الَّذين يتمسَّكون بهذا القول منهجًا وسُلُوكًا.
لم يكُن الأستاذ أحمد أحَدَ طلَّابي، وهم كُثُرٌ وفيهم الخير الكثير، لكنَّه دَلَفَ إليَّ ذات يوم بمخطوطة كتابه لأضع لها مُقدّمة، فقَرَأْتُ المخطوطة لأرى إنْ كانت المنهجيَّة سليمة والأهدافُ واضحةً، وإذا بي أَقِفُ على كلامٍ لرَجُلٍ طَلْقِ العِبَارة، له بَاعٌ في الأدب واللُّغة، قادر على صَيْدِ اللآلِئ، غوَّاص إلى المعاني، يُعبِّرُ عنها ببيان تَطْرَبُ له الآذان، وتستجِيبُ له الأفئدة، وتستهويه النُّفوس.
وتعتمد دراسته على منهجيَّة علميَّة بعيدة عن الهوى، يَرِدُ فيها الموارِدَ الصَّعْبَةِ الَّتي زلَّت فيها أقلامُ أقوام ساروا ورَاءَ الهوى؛ فلم تصفُ كتبهم من الأقذاء والأكدار، لكنَّ صاحِبَنا - بفضل من الله تعالى عليه - يَشْرَبُ منها ماءً عذبًا، ويفيضُ بما منحه اللهُ تعالى على الآخرين.
والكتابُ الَّذي بين يدي القارِئ ضمَّنه الكاتب فوائد وفرائد عديدة، حيث تحدَّثَ عن منهج الدُّعاةِ، وما ينبغي أن يتَّصِفَ الدَّاعية به من العِلْمِ والحِلْمِ والصَّبر والأناةِ ... وتحدَّثَ عمَّا يلاقيه الدَّاعية من المِحَن، وما يناله من الأذى، وهذا ليس غريبًا، فالله تعالى يقول: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)﴾ [لقمان].
ويُضيفُ الكاتبُ إلى هذا جُمْلَةً من المعاني والمبادئ المستنبطة من قصَّة يُوسُفَ
1 / 9
ـ ﵇ ـ، منها مبدأ الشُّورى، ومبدأ العدل، وأُسُسُ التَّقاضي، فعزيز مِصْر يخطِّئ زوجته، ويحكم بما أمْلَتْه العدالة وأصول التَّقاضي على زوجته، فيقول: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ... (٢٨)﴾ [يوسف].
وقد ضمَّن الكَاتِبُ بين دفَّتي كتابه من اللّطائف القرآنيَّة، واللَّمسات البيانيَّة ما لا يتَّسع المقام لذكرها، وحسبي أن أشَرتُ لبعضِها.
وقد انشَرحَ صدري على معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ... (٢٤)﴾ [يوسف] حيثُ وضَّح ببيان اللُّغة نفي ما توهَّمه بعضهم ممَّا لا يليق بالأنبياء من أنَّ يُوسُفَ - ﵇ - همَّ بالوقوع في الجريمة لولا أن رأى برهان ربِّه.
لقد وَقَفَ الكاتبُ وقْفَةَ تأمِّلٍ بعد ذكره المحن الَّتي مرَّ بها يُوسُفُ - ﵇ ـ، ومرَّ بمثلها وأكثر منها سيِّدُ الأنام محمَّد - ﷺ - فيما يؤولُ إليه أمرُ الصَّابرين الصَّادقين من الفوز والنَّجاح، وتحقيق الأهداف، جميلٌ هذا الرَّبط بين قصَّة يُوسُفَ - ﵇ - ومناسبة نزولها، وبديع ذلك البيان لمكانة سُورة يُوسُفَ بين أخواتها في القرآن.
أسألُ اللهَ تعالى أن ينفعَ به، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأبرَّه وأوفاه، وأن يتغمَّدني اللهُ تعالى بعفوه ومغفرته وكرمه والمسلمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
أ. د. محمود علي السَّرطاوي
أستاذ الفقه المقارن
نائب رئيس جامعة العلوم الإسلاميَّة العالميَّة
١/محرَّم/١٤٣١ هـ
١٨/ ١٢/٢٠٠٩ م
1 / 10
المقدّمة
الحمدُ لله الكريم المنَّان، أنزل أعظم كتاب هو القرآن، على أعظم نبيٍّ هو سيِّدنا محمَّدٍ خَيْرِ الأنام، الَّذي أزال بيانُه عن الأذهان والأفهام كُلَّ إِبْهَام، أشرف الخلق عجمًا وعربًا، وأزكاهم حَسَبًا، وأطهرهم نَسَبًا، وعلى آله الَّذين اهتدوا بهداه، وعلى أصحابه الَّذين استمسكوا من الدِّين القَيِّم بِعُراه.
وبعد، فلا ريب أن علوم القرآن كثيرة، وفنونها غزيرة، وضروبها جمَّة جليلة، يجلُّ عنها القولُ مهما كان بالغًا، ويَقْصُر عنها الوَصْفُ مهما كان سَابِغًا.
ومن أعظم علوم القرآن قَدْرًا، وأعلاها أمرًا علمُ التَّفسير والتَّأويل، وقد رأيت مصنَّفات لا تحصى، فيها من الموضوعات والإسرائيليّات ما بين مختصر ومبسوط ما لا يُسْتقصى، وقد نال القصص القرآنيّ منها الحظّ الأوفى.
فقد تكلَّم في قصص القرآن خَلْقٌ كثير، فدرسوا معانيها ومبانيها، وتدبَّروا في تفسيرها وتأويلها، وتكلَّموا في نُكَتِها ولطائفها ... وسيظلُّ القرآنُ مَشْغَلَة الدَّارسين، وحديثَ الباحثين، جيلًا فجيلًا إلى يوم الدِّين ... ولكن كان خليقًا بالَّذين شانوا كتبهم بأخبار القُصَّاص وحكايات الوضَّاعين وخلافها، ألَّا يخوضوا كالَّذي خاضوا، وألَّا يزيدوا على كدرٍ كدرًا!
وقصَّة يُوسُفَ - ﵇ - أسَرَتْ عَبْر الزَّمان قلوبًا، وأبكت عيونًا؛ كيف وقد وُصِفَت بأحْسَن القصص، كيف وقد قصَّها الله علينا بالحقِّ من أنباء ما قد سبق! كيف وقد جاءت بألفاظٍ مُدَبَّجة، ومعانٍ متوَّجة، موشَّاة بألوان الفوائد والفرائد، غنيَّة بوجوه المعارف وشوارد الطَّرائف، مفعمة بالإيماءات النَّفسيَّة النَّفيسة!
1 / 11
وهي قصَّة تصافِحُ القلوب، وتَسْكُن بها الخواطر، وتُقْتَبَسُ منها اللَّطائف، وتُلْتَمَسُ منها الهداية في المواطن والمواقف، وتقتنص منها غُرَرُ المعاني بعد سَبْرِ المباني، وتحثُّ على التَّفكُّر والاعتبار، والاتِّعاظ والازدجار، والائتمار والانزجار.
ومعاذ الله أنْ أدَّعي أنَّني قد عرفت ما لم أُسْبَق إليه، وما لم أُزَاحم عليه، وما لم يَطَّلِعْ أحَدٌ عليه، وما لم تصل أنظارٌ إليه، فما أنا إلَّا بَنَانُ كَفٍّ ليس فيها سَاعِد، لي همَّة لكن لا مقدرة لي على بلوغ ما في نفسي من هوىً في علوم القرآن.
وأنا أعلم أنَّ لعلمائنا الأوائل في هذه العلوم عطاءً غَدَقًا، وما أنا بأهل أن أنطق بلسانهم، فكيف لي أن أبلغ مراتبهم، فليس الصَّحيح إذا مشى كالمقعد، وليس البَحْرُ العَذْبُ الفرات السَّائغ الشَّراب كالماءِ الملح الأُجَاج، فما أنا إلَّا طالبُ علمٍ أراد أن يَشْغَلَ نفسه بالعلوم الَّتي تقرِّب إلى الله، وتُعِينُ على الوصول إلى رضاه.
فالمؤمن لا ينشغل بالدُّنيا عن الآخرة، ولا يُلْهِه الأَمَلُ عن الأَجَل، فالله تعالى يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)﴾ [الحديد] وإنَّما المؤمن يبيع نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، وينفق عمره في الدَّعوة إلى الله على بصيرة اتِّباعًا للنَّبِيِّ - ﷺ - وأصحابه ﵃، وطاعة لله تعالى إذ يقول لنبيِّه - ﷺ ـ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... (١٠٨)﴾ [يوسف].
فهذه الآية من سورة يُوسُفَ رَسَمَتِ المنهج الحقَّ لكلِّ متَّبعٍ للنَّبِيِّ - ﷺ - أن يكون داعيةً إلى الله على بصيرة، والأمَّة اليوم قد بَعُدت عن عهد النُّبوَّة؛ فشاع في بعض جوانبها بُعْدٌ عن المنهج النَّبويِّ.
1 / 12
وقد رأيت كثيرًا من النَّاس عن سبيل الدَّعوة ناكِبين، ولأصحابها كارهين، ولعملهم قَالِين، فالنَّجاةَ النَّجاةَ بالالتزام بالكتاب والسُّنَّة، والدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ...
واتِّباع الرَّسول - ﷺ - أَمَرَ اللهُ به كُلَّ إنسان في العُسْر واليُسْر والمنْشَط والمكْرَه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)﴾ [النّور]
ومن ثمرات اتِّباع الرَّسول - ﷺ - محبَّةُ الله تعالى وغفرانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)﴾ [آل عمران] فالآية تقتضي أنَّ محبَّة الله تجب لنا بعد اتِّباع الرَّسول - ﷺ ـ، ومن أَجَلِّ ما نتَّبع به الرَّسول - ﷺ - أن نكون دعاة إلى الله على بصيرة، فالبِدَارَ البِدارَ.
وقد بيَّنت سورة يُوسُفَ لنا بعض ملامح الدَّاعي إلى الله، فهو يحتاج إلى أن يكون على حظٍّ وافر من العلم، والحلم، والحكمة، والأخلاق، والصَّبر، والأمانة ... كما بيَّنت لنا بعض وسائل الدَّعوة إلى الله، ومنها ذكر القصَّة لما لها من أهميَّة وأثر وهدى على حياة الدَّاعي إلى الله والمدعوّ، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... (٣)﴾ [يوسف] وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ... (١١١)﴾ [يُوسُف]
فالحاجة ماسَّة لاستخدام هذا الأسلوب القرآنيّ النَّفيس من قِبَل الدُّعاة إلى الله تعالى لتأثيره البالغ في النُّفوس: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى
1 / 13
اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ... (٢٣)﴾ [الزّمر].
وقصَّة يُوسُفَ تُذَكِّرُ بقول النَّبِيِّ - ﷺ - لمَّا سأله سَعْد أيُّ النَّاس أشدُّ بلاءً؟ فقال - ﷺ ـ: " الأنبياءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ" (^١) ولذلك ابتُلي نبيُّ الله يعقوب - ﵇ - بفقد حبيبه وحبيبتيه، وابتُلي يُوسُفُ - ﵇ - بإخوته فصار طريحًا، ثمَّ ابتلي بالسَّيَّارة فصار مملوكًا، ثمَّ ابتلي بامرأة العزيز فصار سجينًا ...
لكنَّ سنَّة الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المحسنين، وأن ينجِّي المتَّقين: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾ [النَّحل] فقد ردَّ اللهُ على يَعْقُوبَ بَصَرَهُ، وجمع بينه وبين يُوسُفَ بعد غُرْبةٍ دامت أربعين عامًا، ونجَّى اللهُ يُوسُفَ من الجُبِّ، والكيد، والسِّجن، وَرَفَعَهُ أعلى الدَّرجات، فما بعد المَعْسَرة إلَّا المَيْسَرة، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾ [الشَّرح] وعند انسدادِ الفُرَجِ تبدو مطالعُ الفَرَجِ، ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧)﴾ [الطَّلاق].
ما أحوج القَلبَ إلى قَصَصِ القرآن! ففيه عبرة لكلِّ إنسان، وغِنىً عن قَصَصِ وأَنْبَاء أَبْنَاء هذا الزَّمان! وهذا كتاب في قصَّة من قَصَصِ القرآن العظيم قدره، الدَّائم خيره، الجزيل نفعه، التَّامّ نوره، الواضح بيانه، القاطع برهانه ... سمَّيته (غرر البيان من سورة يُوسُفَ ﵇ في القرآن) جمعته من رياض التَّفاسير حسب الأصول، وحرَّرته من مختلف تفاسير أهل النُّقول، والله أسأل أن ينفع به فهو خير مرجوٍّ ومأمول.
_________
(^١) أحمد " المسند " (ج ٣/ص ٨٧/رقم ١٤٩٤) وإسناده حسن لأجل عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ.
1 / 14
وما بي من حاجة لبيان قيمته العلميَّة، وما فيه من مزايا قلَّ أن توجد في كتاب واحد، فقد جَهَدْتُ جَهْدي على أن يأتي هذا الكتاب جامعًا لأشتات العلوم، ومنثور الفنون، وسائغًا لأرباب الفُهُوم، على أنَّه لم يأتِ ليبلغ الغاية والنِّهاية فيها، وإنَّما لينبِّه لها ويذكِّر بها.
وحرصت على إعفائه من الإسهاب والإطناب والتَّطويل والتَّثقيل، مع الاقتصاد في اللَّفظ، والوفاء في المعنى.
وقد هذَّبت لفظه، وذهَّبْتُ نَظْمَه، وضَمَّنته من بديع الكلام وحلوه، ودُرِّيِّه ودُرِّه، وجمعت فيه نثير الجُمان، ودُرر البيان، لأعيد لهذه اللُّغة في القلوب هيبتها، ولكن أنَّى لمثلي أن يُحاكي وشْيَها البليغ، وحبكها البديع!
وكنت وضعت كتابًا للنَّشء قبل عقدين من الزَّمان، ثمَّ رأيت أن أضع كتابًا للعامَّة والخاصَّة من ذوي البصائر والأذهان والحذق والإتقان، لتتمَّ الفائدة، وتكمل المنفعة، على أنَّني لم أنتهِ به إلى غاية ليس وراءَها مُريدٌ من كلِّ وجه؛ فالقرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، وسيظلُّ لابسًا حُلَلًا من الجزالة والفصاحة، لا تنالها أقلام الأدباء ولا البلغاء.
وقد تنقَّلت بين مناهج التَّفسير ومراحله، وربطت بين الماضي والحاضر ما استطعت سبيلًا، فإنَّ هذه السُّورة وغيرها فيها أخبار أقوام قامت عليهم الحُجَّة، فقد أرسل اللهُ لهم ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ... (١٦٥)﴾ [النّساء] وفيها من العجائب والغرائب، والدَّقائق والخفايا، ما يقعد بالألفاظ عن استيفاء الغاية، فجَمَعْتُ ما تيسَّر وتقدَّر عبرةً لمن يتذكَّر، وقد أثْبَتُّ الكتب الَّتي أفَدْتُ منها في خاتمةِ البَحثِ، دون إيرادها في داخله؛ لتصَرُّفي في
1 / 15
العِبارةِ.
وتوخَّيت الحقَّ المبين من كلام علمائنا أهل التَّفسير والتَّأويل، وقمت مضْطرًّا غير باغٍ ولا عادٍ بشيءٍ من التَّصحيح والتَّعديل.
كما حاولت أن أنفي عن كتاب الله تعالى تخرّصات الخرَّاصين الَّتي ألصقت بهذه السُّورة العظيمة من ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... (٥١)﴾ [الأعراف] ومن الَّذين قال الله فيهم: ﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)﴾ [الكهف].
وإلى الله أرغب أن يجعل هذا الكتاب خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله نافعًا لمن نَظَر فيه أو أعانني عليه النَّفع العميم، وأن يجعله في صحائف أعماله يوم الدِّين ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ... (٣٠)﴾ [آل عمران]
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المؤلِّف
أحمد الشّوابكة
* * *
1 / 16
سُورَةُ يُوسُفَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ [يوسف]
حُسْنُ المطلع
من سحر البيان وقطع الجُمان وبدائع القرآن ما يسمَّى حسن المطلع، وهو أن يُفْتَتَحَ الكلامُ بكلام يُشْعِرُ بجودة البيان؛ لأنَّه أوَّل ما يحدِّق به الطَّرف، وأوَّل ما يدور في الذِّهن، فيتعيَّن أن يجمعَ الكلامُ بين الجزالةِ والعذوبةِ، والرَّصانةِ والسَّلاسةِ، وهذا ما جرى عليه القرآن.
وهو في القرآن نوعان: خفيٌّ وجليٌّ، فالخفيُّ ما افتتحت به السُّور من الحروف المفردة والمركَّبة، ومن ذلك سورة يُوسُفَ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ [يوسف] والجليُّ ما لم يبدأ بالحروف المقطَّعة، وهو غالب على مطالع سور القرآن.
سَبَبُ التَّسمِيَة
هِيَ مَكِّيَّة بالإجماعِ. وسمِّيَتْ " سُورة يُوسُف " لأنَّها تَنَاولَتْ قِصَّةَ يُوسُفَ مَعَ إخْوتِه بالتَّفْصِيل، وتكَرَّرَ فيها اسمُ يُوسُفَ خمسًا وعِشرِينَ مَرَّة. ومن عجيب الموافقات أنَّ سورة يُوسُفَ هي السّورة الثَّانية عشرة في ترتيب المصحف، ووقعت في الجزء الثَّاني عشر، ورقم السّورة والجزء يناظر عدد أبناء يعقوب - ﵇ ـ.
سَبَبُ النُّزُول
نَزَلَتْ سُورَة يوسف بَعْدَ اشْتِدَادِ الأزْمَةِ على النَّبيِّ - ﷺ - في مَكَّةَ مع قريش، وبَعْدَ عامِ الحُزْنِ الَّذي فَقَدَ فِيهِ النَّبيُّ - ﷺ - زَوْجَتَهُ الطَّاهِرَة خديجة ﵂
1 / 17
وعمَّهُ أبا طالِب، الَّذي كان ظَهِيرًا ونصيرًا له.
وفي سَبَبِ نزولها أخر ج الحاكم عن سعد بن أبي وقّاص، قال: " نَزَلَ القُرآنُ على رَسُولِ الله - ﷺ ـ، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رَسُولَ الله، لو قَصَصْتَ علينا، فأنزل اللهُ تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ " (^١) [يوسف] (^٢).
وقد نزلت في أواخر العهد المكّيّ تسلية للنَّبِيِّ - ﷺ - ففيها الإلماح إلى تشابه واقع النَّبيّين، فقصَّة يُوسُفَ مع أخوته أشبه بقصَّة النَّبِيِّ - ﷺ - مع قريش، فإذا كان يُوسُفُ قد تآمر عليه أخوته، وفكَّروا في قتله أو إبعاده وإخراجه، وقالوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ... (٩)﴾ فإنَّ في ذلك تثبيتًا لفؤاد النَّبيِّ - ﷺ - يوم تآمرت عليه قريش في دار النَّدوة، وقرَّروا: حبسه، أو قتله، أو إخراجه من مكَّة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾ [الأنفال].
وغيابة الجبِّ في محنة يُوسُفَ قبيل الرَّحيل به لمصر، فيها تسلية للنَّبيِّ - ﷺ - وهو في غار ثور قبيل الهجرة للمدينة.
وسجن يُوسُفَ بمصر ظلمًا وعدوانًا، فيه ذكرى للنَّبيِّ - ﷺ - وأصحابه وهم في شعب أبي طالب بعد أن حاصرتهم قريش وقاطعتهم ظلمًا وعَدْوًا، وهذا كلُّه يفصح عنه قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾ [هود].
وسجنهم ليُوسُفَ - ﵇ - وتماديهم في ظلمهم له رغم ظهور الآيات الدَّالة على
_________
(^١) الحاكم " المستدرك " (م ٢/ص ٣٤٥) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، ووافقه الذَّهبي.
(^٢) الآيات الَّتي تُرِكَت بعد ذلك دون تخْرِيجٍ هي من سُورِة يُوسُفَ.
1 / 18
براءته وصدقه، كما أفصح عنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)﴾ يذكِّر في تمادي المشركين في غيِّهم في حقِّ النَّبيِّ - ﷺ ـ، مع رؤيتهم الآيات الدَّالة على صدقه - ﷺ - كما أفصح عنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا ... آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)﴾ [الصّافات].
ومن التَّشابه بين واقع يوُسُفَ - ﵇ - وواقع النَّبيِّ - ﷺ ـ، أنَّ الله تعالى مكَّن للنَّبِيِّ - ﷺ - بأرض المدينة كما مكَّن ليُوسُفَ بأرض مصر:
تَلْقَى بكل بلادٍ إن حَلَلْتَ بها ... أهلًا بأهلٍ وجيرانًا بجيران
ومن التَّشابه أنَّ الله تعالى جمع بين النَّبِيِّ - ﷺ - وأهل مكَّة بعد غربة وعناء، كما جمع بين يوُسُفَ - ﵇ - وأهله بعد غربة وشتات، وعفو النَّبيِّ - ﷺ - عن أهل مكَّة، يشبه عفو يُوسُفَ - ﵇ - عن إخوته.
فإذا كان للنَّبِيِّ - ﷺ - في الأنبياء ما يثبِّت به فؤاده، أفلا يكون لنا في النَّبِيِّ - ﷺ - خاصة وفي الأنبياء عامة ما نثبِّت به الأفئدة، ونطمئن به النُّفوس، ونصلح ما في الصُّدور؟!
من أوجه التَّناسُب بين سُورة يُوسُفَ وما قبلها وما بعدها
من أوجه الشَّبه والتَّناسق بين سُورَة يُوسُفَ وسُورة هود التي سبقتها، أنَّ سُورةَ هود ذُكِرتْ فيها قصَّة إبراهيم - ﵇ - وقد بُشِّرَ فيها بإسحاق ومن ورائه يعقوب، فبعد أن ذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم مع الملائكة، قال: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)﴾ [هود] ونحن نعلم أنَّ سُورة يُوسُفَ تدور حول يعقوب وأبنائه الَّذين هم أحفاد إبراهيم - ﵇ ـ.
ومن أوجه وضع سورة يُوسُفَ بعد سُورة هود أنَّ سورة هود تضَمَّنت على مجموعة من قَصَصِ الأنبياء ابتداءً بقصَّة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم
1 / 19
لوط، ثم شعيب، ثم موسى وهارون، وبعد هذه السُّورة التي اشتملت على هذه القصص الحسنة المجملة كلِّها، جاءت سُورةُ يُوسُفَ تقصُّ علينا أحْسَنَ القَصَصِ المتَّصلة المفصَّلة؛ لتُثْبِت إعجاز القرآن في المُجْمَل والمُفَصَّل، والإيجاز والإطناب.
كما جَمَعَتْ بين السُّورتين سُنَّةُ الله تعالى في نجاة رسله والَّذين آمنوا برحمة الله وفضله، فممَّا ورد من ذلك في سورة هود، قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)﴾ [هود] وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤)﴾ [هود] وفي سورة يوسف، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)﴾ فسبحان منزل الكتاب، وناصر الأحباب!
ومن أوجه التَّناسب أنَّ سورة هود حدَّثتنا عن عداوة وحسد الأباعد للأنبياء، وسورة يُوسُفَ حدَّثتنا عن عداوة وحسد الأقارب لنبيِّ الله يُوسُفَ - ﵇ ـ، وكلاهما تسلية للنَّبِيِّ - ﷺ - الَّذي لقي من عداوة الأقارب والأباعد ما يعلمه الله.
أمَّا سورة الرَّعد فوجه وضعها بعد سُورَةِ يُوسُفَ أنَّ سُورة يُوسُفَ خُتمت بالحديث بإجمال عن آيات الله في السّموات والأرض، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)﴾ [يوسف] ثمَّ جاءت سُورة الرَّعد، وافتتحت بالحديث عن هذه الآيات الكونيَّة بالتَّفصيل، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ
1 / 20
النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)﴾ [الرَّعد].
وفي سورة يُوسُفَ الحديث بإجمال عن شرك النَّاس بالله، قال تعالى: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ... (٤٠)﴾ [يوسف] وقال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)﴾ [يوسف].
وفي ختام سورة الرَّعد جاءَ تفصيلُ ذلك، قال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤)﴾ [الرّعد] وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)﴾ [الرّعد] وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣)﴾ [الرّعد].
وقد عدّ العلماء العديد من وجوه التَّناسق، ولا يوجد نَسَقٌ أبدع من نَسَقِ القرآن، فكلّ سورة كالآية في سياقها، لها ارتباط قي سبَاقِها ولحَاقها.
1 / 21
براعةُ التَّخلُّص
من أساليب القرآن الرَّفيعة وفنونه البديعة براعة التَّخلُّص وحسن الاستطراد، وهو أن يكون في ابتداء الكلام إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله، وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود.
ومن شرطه أن يكون الانتقال من معنى إلى معنى ببديع حسن، وعذوبة سبك، وحسن رصف، وبيان يزيد المعنى فصاحة وحسنًا، بحيث يكون المعنى الَّذي انتقل إليه أقرب إلى النَّفس من المعنى الَّذي انتقل عنه، وبحيث لا يشعر السَّامع بالانتقال من المعنى الأوَّل إلَّا وقد تعلَّق به المعنى الثَّاني المقصود؛ لشدَّة الالتئام بين المعنيين، وفائدته الانتقال من فنٍّ إلى فنٍّ، وجعل أجزاء الكلام يأخذ بعضه برقاب بعض.
وحيث قصد التَّخلُّص فلا بدَّ له من توطئة وتمهيد، ومن بديعه قوله تعالى موطِّئًا للتَّخلُّص: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ فوطَّأ بهذه الآية إلى قصَّة يُوسُفَ ﵇، والمخاطب إذا سَمِعَ هذا الوصف لهذه القصَّة تطلَّعت نفسه إلى معرفتها، وتشوَّفت إلى تأمُّلها.
1 / 22