القمح باللبن والسمن. أخرج زربة نثارة القات من فمه، وبدأ يلتهم الفتة وترك قليلا منها للأطفال. في نفس الوقت ذهبت زوجته تعد العدة لسهرة الليلة، بعد أن حلبت بقرتها وأطعمتها مسبقا. قدمت له المداعة
18
عليها بوري كبير، فيه كمية لا بأس بها من التبغ يعلوه جمر متراص بعناية. وبدأ صوت المداعة يعلو ... سمع والد زربة صوت المداعة وهو في داره من الجهة المقابلة القريبة، فعرف أن ابنه وصل من المدينة. أخذ معه «أتريك» يعمل بالكورسين وذهب إليه، فأضأ بيت زربة بنور ساطع.
والده هو الابن الأكبر لإخوته الخمسة، طويل القامة، عريض المنكبين، يعمل بناء، ضحوكا، يحب فعل الخير، مسرف بالمال. عرف أهل القرية أن زربة عاد من السفر، وتوقعوا أنه أحضر قاتا معه كعادته حين يعود من المدينة. حضر تباعا حفاة الأقدام على ضوء النجوم كل من: سالم الحطاب، عبده غالب، عبد القوي قارئ الموالد، ناجي أحمد المقشش وراجح الوطواط، ما عدا عثمان سالم كان ينتعل حذاء مطاطيا، اشتراه ابنه من مدينة عدن.
6
ذهبت صفية إلى حجر الرحى مرة أخرى، وقامت بطحن مكيالين من القمح، بينما زربة يتحدث مع ضيوفه وهم يمضغون القات، ويناولون المداعة فيما بينهم من فم إلى فم. زودتهم صفية ببوري آخر؛ ليحلو سمرهم وأخذ كل يسرد ما عنده من خبر. تحدثوا عن محصول السنة الماضية، وكم باعوا من الذرة والدخن والأحطاب إلى قرية نجاد المجاورة لهم، فأهلها لا يمتلكون الكثير من الحقول، يعملون في التجارة والجزارة وبيع القات، تعلموا التجارة منذ نعومة أظافرهم، لديهم دكاكين صغيرة في بيوتهم، ومنهم من يعمل في شراء الفضة والمرجان والعقيق من النساء اللاتي أخذن يتخلين عنها كزينة، بعد ظهور بريق الذهب في حياتهن الآتي من الخارج، ويبيعون تلك التحف في المدينة للسياح الأجانب. أثناء تجاذبهم أطراف الحديث، كان ناجي المقشش يحدث نفسه بصوت مسموع، يمسح عينيه أكثر من اللازم . اقترب من النافذة وخيل إليه بزوغ الشمس، وصياح الديكة وسقسقة العصافير؛ حتى إنه رأى مجموعة من نساء القرية تجلب الماء فوق رءوسهن من السقايات والراعية حسناء تقود أغنامها إلى المرعى. قال لمن حوله: هيا، قوموا صلوا صلاة الفجر.
كان زربة والحاضرون يضحكون وهم يلاحظون المقشش مصرا على رأيه أن الوقت فجرا ولم يستطع أحد ثنيه عن رأيه. تأكد زربة من ساعة الصليب التي حول يده اليسرى، وجدها الساعة العاشرة ليلا. هذه عادة ناجي حين يمضغ هذا النوع من القات (جدة)، يجنح بعيدا في هلوسته كبعض الآخرين حين يمضغونه. ومن المألوف أن متعاطي القات أثناء تناولهم يدخلون في نوع من النشوة والنشاط واليوفوريا، وخيالات أحلام اليقظة، لكنهم يدركون أن ذلك خيال، يخرجهم من واقعهم المعاش والهروب منه، لكن ناجي كان يرى ذلك الخيال حقيقة. خرج ناجي المقشش قبل الآخرين مستنكرا أنهم لم يؤدوا الصلاة. وصل إلى بيته وذهب إلى الحمام يتوضأ، ثم اتجه عكس القبلة تماما وأدى صلاة الفجر. بعد تأدية الصلاة نادى زوجته لتعطيه نقودا للذهاب إلى سوق الثلاثاء، وراح يستعجلها لكي يعود قبل شمس الظهيرة، على الرغم من أن الليلة كانت ليلة الأحد. عرفت زوجته جليلة أنه مضغ قات جدة فذهبت تقدم له اللبن الرائب، وأخبرته بأن ينتظر قليلا إلى أن شعر بالنعاس ونام.
7
خرج الضيوف من دار زربة وهم يضحكون على ناجي، ودخل هو على زوجته يزيل ما تبقى من حزنه على صديقه ناصر؛ فالمتعة لديه تزيل الأحزان. نام حتى الساعة الثامنة صباحا، ولم يسمع صوت ديك صفية الذي ربته منذ سنتين حتى صار أكبر ديك في القرية، يذهب عصرا إلى القرية ولا يعود إلا قبل مغيب الشمس، بعد أن يقوم بواجبه نحو الدجاج.
تناول زربة وجبة فطوره على سطح داره، فتة القمح مع الحليب والسمن، وهو يشاهد الزرع المصفر وقد أينعت سنابله وحان قطافها. أكمل وجبته وأخذ قليلا من الشمة التي لا تفارق جيبه، ضغط عليها بين السبابة والإبهام وحشاها تحت شفته السفلى، وأخذ يفكر كيف يجلب القات لجلسة بعد الظهر، أما اللحم فهو يعرف أن الجزار مقبل الدسم من قرية نجاد سيتكفل بها. في الساعة التاسعة والنصف صباحا، أقبل ابن الجزار مقبل يحمل ثلاثة كيلو لحما، فالجزارون في تلك القرية أناس طيبون، حين يعود أحد من المدينة يتسابقون بإيصال اللحمة إلى بيته، دون أن يكلفوهم عناء المجيء إلى سوق قريتهم ثم بعد ذلك يلحون بطلب الدين. استلمت صفية اللحم وبعد نصف ساعة أقبل ابن الجزار شاهر ومعه اثنان كيلو لحما، فقالت له: سبقك ابن مقبل، يكفي ما معانا اليوم.
Неизвестная страница