وقال له الدكتور بوشي ضاحكا: ستعود إلينا إن شاء الله من الموسرين، ولا بد عند ذاك من خلع أسنانك المسوسة هذه وتركيب طقم ذهبي يليق بالمقام.
فابتسم الحلو، وكان يشعر نحو الدكتور بامتنان؛ لأنه هو الذي أسفر بينه وبين أم حميدة، ولأنه هو أيضا الذي باع له أدوات صالونه بثمن لا بأس به كي ينتفع به في سفره. وكان عم كامل واجما ساهما، يحز الفراق الوشيك في فؤاده، ولا يدري كيف يلقى غدا الوحشة والوحدة، بعد أن يذهب الشاب الذي شاطره العيش أعواما طويلة، والذي أحبه كأنه فلذة كبده. وكان كلما أثنى أحد على الحلو أو توجع لفراقه اغرورقت عيناه حتى ضحكوا منه جميعا.
وقرأ الشيخ درويش على رأسه آية الكرسي وقال له: أصبحت الآن من المتطوعين في الجيوش البريطانية، وإذا أظهرت بسالة فليس بعيدا أن يقطعك ملك الإنجليز مملكة صغيرة ينصبك عليها نائب ملك، ومعناه بالإنجليزية
Viccroy
وتهجيتها:
V i c c r o y . •••
وفي الصباح الباكر غادر الحلو البيت حاملا بقجة ثيابه، كان الجو باردا شديد الرطوبة، ولم يكن أحد من أهل الزقاق قد استيقظ إلا الفرانة وسنقر صبي القهوة، ورفع الشاب رأسه إلى النافذة المحبوبة فوجدها مغلقة، فودعها بنظرة عطف وحنان أذابت الطل على خصاصها. وسار متمهلا مطرقا حتى بلغ باب دكانه فألقى عليها نظرة أخرى متنهدا، وعلق بصره بلافتة ثبتت على الباب قد كتب عليها بخط كبير «للإيجار»، فانقبض صدره وأوشكت عيناه أن تدمعا.
وحث خطاه كأنما ليفر من عواطفه، فما إن ترك الزقاق وراء ظهره حتى شعر بأن قلبه يفارقه إليه.
14
كان حسين كرشة الذي أغرى عباس الحلو بالخدمة في الجيش البريطاني. ولما أن سافر الشاب إلى التل الكبير، وخلا منه الزقاق - حتى دكانه اشتراها حلاق عجوز - جن حسين جنونا واجتاحته ثورة عنيفة تفور مقتا للزقاق وأهله. أجل كان من زمن بعيد يعلن كراهيته للزقاق وأهله، ويتطلع لحياة جديدة، ولكنه لم يستبن سبيله، ولم يعزم عزمة صادقة على تحقيق أحلامه، حتى ذهب الحلو، فجن جنونه. وكأنما كبر عليه أن يجدد الحلو حياته وينأى بنفسه عن الزقاق القذر، وهو باق فيه لا يدري كيف يتخلص منه، فأجمع عزمه على تجديد حياته مهما كلفه الأمر. وبفظاظته المعهودة قال لأمه يوما وقد امتلأ بعزمه حتى فاض عنه: أصغي إلي، لقد عزمت عزما لا رجعة فيه، فهذه حياة لا تطاق ولا داعي مطلقا لتحملها قسرا!
Неизвестная страница