فقالت المرأة وهي تتمالك انفعالها: الله يكرمك، الله يسعدك، الله يشرف قدرك. أنت يا سيدي الملاذ والمأوى، وسأدع هذا الأمر بين يديك وأنتظر، وربنا بيني وبين هذا الرجل الفاجر.
وسكن الرجل خاطرها بما وسعه من كلم طيب، وكان كلما ذكر كلمة طيبة دعت له المرأة وانهالت بالشتائم على زوجها، وراحت تسرد عليه طرفا من فضائحه، حتى أوشك صبر الرجل أن ينفد! ثم ودعها مكرمة وهو يتنهد من الأعماق! وعاود جلسته مفكرا. كان يتمنى بلا شك لو لم يقحم في هذا الأمر، أما وقد وقع المحذور فلا معدى عن إنجاز وعده. ونادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه المعلم كرشة، فمضى الغلام على عجل، وانتظر ساكنا، وذكر أنه يدعو لحجرته - لأول مرة - فاسقا، فلم يدخلها قبل ذلك إلا الفقهاء والصوفيون، وتنهد من الأعماق ثم قال لنفسه: «إن من يهدي فاسقا خير ممن يجالس مؤمنا.» ولكن هل يبلغ هداية الرجل حقا؟ وهز رأسه الكبير واستشهد بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}. ومضى يتعجب من غواية الشيطان للإنسان، وكيف يشذ به عن فطرة الله السوية. ثم قطع عليه حبل تأملاته دخول خادمه معلنا حضور المعلم، فأذن له، ونهض لاستقباله. وجاء المعلم كرشة بجسمه الطويل النحيل، وألقى على السيد من تحت جفنيه الثقيلين نظرة تجلة واحترام، وانحنى على يده مسلما، ورحب به السيد رضوان ودعاه للجلوس، فجلس الرجل في المكان الذي كانت تجلس فيه زوجه قبل هنيهة، وملأ له قدحا من الشاي. كان المعلم آمنا مطمئنا لا يتوجس خيفة، ولا يدري شيئا عما دعا السيد إلى استدعائه. والحق أن من بلغ مبلغه من الذهول والشرود خليق بأن يفقد كل قدرة على التوجس والحيطة والحدس. وقد قرأ السيد في عينيه نصف المغمضتين الطمأنينة فقال له بهدوء مبتسما: شرفت دارنا يا معلم.
فرفع المعلم يديه إلى عمامته وقال: شرف الله قدرك يا سي السيد.
فقال السيد: لا تؤاخذني على دعوتك في أثناء عملك، فقد رأيت أن أحادثك في أمر هام كما يتحادث الإخوان، ولم أجد لذلك مكانا أنسب من البيت.
فأحنى المعلم رأسه وقال بأدب جم: إني طوع أمرك يا سي السيد.
وخاف السيد الاسترسال في المجاملات فيضيع الوقت سدى، وتطول مدة غياب المعلم عن عمله، فأراد أن يخوض الموضوع بلا تردد، ولم تكن تنقصه الشجاعة ولا تعوزه الصراحة، فقال بلهجة جدية: أحب أن أحدثك كما يتحدث الإخوان، أو كما ينبغي أن يتحادث الإخوان إذا كان رائدهم المودة والإخلاص. والأخ المخلص من إذا رأى أخا له يهوي تلقاه بذراعيه، أو وجده يتعثر أقاله من عثرته، أو حسبه في حاجة إلى النصح محضه النصيحة.
وفترت حماسة المعلم، وأدرك في تلك اللحظة فحسب أنه وقع في فخ، فلاحت في عينيه المظلمتين نظرة ارتياب، وتمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول: نطقت بالحق يا سي السيد.
ولم يخف على السيد شيء من ارتباكه وارتيابه، فقال بلهجة جدية أيضا لطفتها نظرته الوديعة الصافية: أخي، سأصارحك بما في نفسي فلا تؤاخذني على صراحة، فما استحق الموجدة من كان هدفه الإصلاح وباعثه المودة والإخلاص. والحق يا أخي أني رأيت في بعض سلوكك ما ساءني، وما لا أعده خليقا بك.
وقطب المعلم كرشة منزعجا، وجعل يخاطب السيد في سره قائلا: «ما لك أنت ولهذا؟!» ثم قال متصنعا الدهشة: أساءك سلوكي حقا يا سي السيد؟! .. معاذ الله.
ولم يعبأ السيد دهشته المتصنعة واستدرك قائلا: إن الشيطان ليجد أبواب الشباب مفتحة فيلجها خفية وعلانية ويعيث فسادا، ومع ذلك فنحن لا نتسامح مع الشباب مفتح الأبواب، ونلزمه أن يغلق أبوابه في وجه الشيطان، فماذا يكون الحال مع الشيوخ الذين وهبهم العمر مفاتيح العصمة؟ ماذا يكون الحال لو رأيناهم يفتحون أبوابهم طواعية ويدعون الشيطان بأنفسهم؟! .. هذا ما ساءني يا معلم كرشة.
Неизвестная страница