آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعا - كما انتهى مجده الغابر - ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة.
سكنت حياة النهار، وسرى دبيب حياة المساء. همسة هنا وهمهمة هناك: يا رب يا معين. يا رزاق يا كريم. حسن الختام يا رب. كل شيء بأمره. مساء الخير يا جماعة. تفضلوا جاء وقت السمر. اصح يا عم كامل وأغلق الدكان. غير يا سنقر ماء الجوز. أطفئ الفرن يا جعدة. الفص كبس على قلبي. إذا كنا نذوق أهوال الظلام والغارات منذ سنوات خمس، فهذا من شر أنفسنا.
بيد أن دكانين - دكان عم كامل بائع البسبوسة على يمين المدخل وصالون الحلو على يساره - يظلان مفتوحين إلى ما بعد الغروب بقليل. ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسيا على عتبة دكانه - أو حقه على الأصح - يغط في نومه والمذبة في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة، مركزها على الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل، وصدر يكاد يتكور ثدياه، لا ترى له رقبة، فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم، أخفى انتفاخه معالم قسماته؛ فلا تكاد ترى في صفحته لا سمات ولا خطوط ولا أنف ولا عينان، وقمة ذلك كله رأس أصلع صغير لا يمتاز عن لون بشرته البيضاء المحمرة. لا يزال يلهث ويشخر كأنه قطع شوطا عدوا، ولا ينتهي من بيع قطعة بسبوسة حتى يغلبه النعاس. قالوا له مرات: ستموت بغتة، وسيقتلك الشحم الضاغط على قلبك، وراح يقول ذلك مع القائلين، ولكن ماذا يضيره الموت وحياته نوم متصل؟!
أما صالون الحلو فدكان صغير، يعد في الزقاق أنيقا، ذو مرآة ومقعد غير أدوات الفن. وصاحبه شاب متوسط القامة، ميال للبدانة، بيضاوي الوجه، بارز العينين، ذو شعر مرجل ضارب للصفرة على سمرة بشرته، يرتدي بدلة، ولا يفوته لبس المريلة اقتداء بكبار الأسطوات!
لبث هذان الشخصان في دكانيهما، في حين أخذت الوكالة الكبيرة المجاورة للصالون تغلق أبوابها وينصرف عمالها، وكان آخر من غادرها السيد سليم علوان، يرفل في جبته وقفطانه، فاتجه صوب الحانطور الذي ينتظره على باب الزقاق، وصعد إليه في وقار، وملأ مقعده بجسمه المكتنز، يتقدمه شاربان شركسيان. ودق الحوذي الجرس بقدمه فرن بقوة، وانحدرت العربة ذات الحصان الواحد إلى الغورية في طريقها إلى الحلمية. وأغلق البيتان في الصدر نوافذهما اتقاء البرد، ولاحت أنوار المصابيح وراء خصاصها، وكاد المدق يغرق في الصمت، لولا أن مضت قهوة كرشة ترسل أنوارها من مصابيح كهربائية، عشش الذباب بأسلاكها، وراح يؤمها السمار. هي حجرة مربعة الشكل، في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها، وعدة أرائك تحيط بها. وعند مدخلها كان يكب عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها. وتفرق نفر قليل بين مقاعدها يدخنون الجوز ويشربون الشاي. وعلى كثب من المدخل تربع على الأريكة رجل في الخمسين يرتدي جلبابا ذا بنيقة موصول بها رباط رقبة مما يلبسه الأفندية، ويضع على عينيه المضعضعتين نظارة ذهبية ثمينة! وقد خلع قبقابه على الأرض عند موضع قدميه، وجلس جامدا كالتمثال، صامتا كالأموات، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأنه في دنيا وحده.
ثم أقبل على القهوة عجوز مهدم، لم يترك له الدهر عضوا سالما، يجره غلام بيسراه، ويحمل تحت إبط يمناه ربابة وكتابا. فسلم الشيخ على الحاضرين، وسار من فوره إلى الأريكة الوسطى في صدر المكان، واعتلاها بمعونة الغلام، ثم صعد الغلام إلى جانبه، ووضع بينهما الربابة والكتاب. وأخذ الرجل يهيئ نفسه، وهو يتفرس في وجوه الحاضرين كأنما ليمتحن أثر حضوره في نفوسهم، ثم استقرت عيناه الذابلتان الملتهبتان على صبي القهوة سنقر في انتظار وقلق. ولما طال انتظاره، ولمس تجاهل الغلام له، خرج عن صمته قائلا بصوت غليظ: القهوة يا سنقر!
والتفت الغلام نحوه قليلا، ثم ولاه ظهره بعد تردد دون أن ينبس بكلمة، ضاربا عن طلبه صفحا. وأدرك العجوز إهمال الغلام له، ولم يكن يتوقع غير ذلك. ولكن جاءت نجدة من السماء، إذ دخل في تلك اللحظة رجل وقد سمع هتاف العجوز ولاحظ إهمال الصبي، فقال للغلام بلهجة الآمر: هات قهوة الشاعر يا ولد.
وحدج الشاعر القادم بنظرة امتنان، وقال بلهجة لم تخل من أسى: شكرا لله يا دكتور بوشي!
فسلم الدكتور عليه، وجلس قريبا منه. وكان الدكتور يرتدي جلبابا وطاقية وقبقابا. هو دكتور أسنان، إلا أنه أخذ فنه من الحياة بغير حاجة إلى ممارسة الطب أو أية مدرسة أخرى. اشتغل في بدء حياته تمورجيا لطبيب أسنان في الجمالية؛ ففقه فنه بحذقه وبرع فيه. وقد اشتهر بوصفاته المفيدة، وإن كان يفضل الخلع غالبا كأحسن علاج. وربما كان خلع الضرس في عيادته المتنقلة أليما موجعا؛ إلا أنه رخيص؛ بقرش للفقراء وقرشين للأغنياء (أغنياء المدق طبعا)، فإذا حدث نزيف - وليس هذا بالأمر النادر - اعتبر عادة من عند الله؛ وترك منعه أيضا لله! وقد ركب للمعلم كرشة صاحب القهوة طقما ذهبيا بجنيهين بغير زيادة. وهو يدعى في الزقاق والأحياء القريبة بالدكتور، ولعله أول طبيب يأخذ لقبه من مرضاه.
جاء سنقر بالقهوة للشاعر كما أمر الدكتور، فتناول الرجل القدح وأدناه من فمه وهو ينفخ ليطرد حرارته، وراح يرشف منه رشفات متتابعات حتى أتى عليه، ثم نحاه جانبا. وذكر عند ذاك فحسب سوء سلوك صبي القهوة معه، فحدجه بنظرة شزراء وتمتم ساخطا: قليل الأدب.
Неизвестная страница