وكان أحد الأصفياء قد قال له: سفر سعيد وعود حميد.
فأشرقت في وجه السيد ابتسامة وضاءة كسته جمالا على جمال، وقال بصوته الحنان: أخي لا تذكرني بالعود، إن من يقصد بيت الله وفي قلبه خاطر من خواطر الحنين إلى الوطن حقيق بأن يبطل الله ثوابه ويخيب دعاءه وينفد سعادته. سأذكر العودة حقا إذا فصلت عن مهبط الوحي في طريقي إلى مصر، وأعني بها العودة إلى الحج مرة ثانية إذا أذن الرحمن وأعان. من لي بمن يقرني ما تبقى من العمر في البقاع الطاهرة، أمسي وأصبح فلا أرى إلا أرضا تطامنت يوما للمس أقدام الرسول، وهواء خفقت بتضاعيفه أجنحة الملائكة، ومغان أصغت للوحي الكريم يهبط من السماء إلى الأرض، فيرتفع بأهل الأرض إلى السماء، هناك لا يطوف بالخيال إلا ذكريات الخلود، ولا يخفق الفؤاد إلا بحب الله، هنالك الدواء والشفاء. أخي .. أموت شوقا إلى استطلاع أفق مكة، واستجلاء سماواتها، والإنصات إلى همس الزمان بأركانها ، والسير في مناكبها، والانزواء في معابدها، وإرواء الغلة من زمزمها، واستقبال الطريق الذي مهده الرسول بهجرته فتبعته الأقوام من ثلاثمائة وألف عام ولا يزالون، وثلوج الفؤاد بزيارة القبر النبوي والصلاة في الروضة الشريفة، وإن بقلبي من مكنون الهيام ما يقصر الزمان عن بثه، ولدي من فرص الزلفى والسعادة ما يعجز العقل عن تصوره. أراني يا إخوان ضاربا في شعاب مكة تاليا الآيات كما أنزلت أول مرة. كأنما أسمع درسا للذات العلية، أي سرور! .. وأراني ساجدا في الروضة متخيلا الوجه الحبيب كما يتراءى في المنام، أي سعادة! .. وأراني متخشعا لقاء المقام مستغفرا فأي طمأنينة! وأراني واردا زمزم أبل جوارح الشوق بندى الشفاعة فأي سلام! أخي لا تذكرني بالعودة، وادع الله معي أن يحقق لي المنى.
فقال له صاحبه: حقق الله مناك، ومتعك بطول العمر والعافية.
فضم السيد راحته المبسوطة على لحيته وقد تألقت عيناه بسرور وهيام وراح يقول: نعم الدعاء! والحق أن حبي الآخرة لا يدفعني إلى الزهد في الدنيا أو التململ من الحياة، لطالما لمستم بأنفسكم حبي الحياة والسرور بها، كيف لا وهي من خلق الرحمن؟ خلقها الله وملأها بالعبر والأفراح، فمن شاء فليتفكر ومن شاء فليشكر، ولذلك أحبها؛ أحب ألوانها وأصواتها، وليلها ونهارها، ومسراتها وآلامها، وإقبالها وإدبارها، وما يدب على ظهرها من حي أو يقيم عليه من جماد، هي خير خالص، وما الشر إلا عجز مرضي عن إدراك الخير في بعض جوانبه الخافية، فيظن العاجز المريض بدنيا الله الظنون، لذلك أقول لكم: إن حب الحياة نصف العبادة وحب الآخرة نصفها الآخر، ولذلك يهولني ما تنوء به الدنيا من دموع وأنات وسخط وغضب وغل وسخيمة، وما تبتلى به فوق هذا كله من ذم المرضى العاجزين. أكانوا يؤثرون لو لم تخلق حياتنا؟ أكانوا يحبون لو لم تخرج من العدم؟ أتسول لهم نفوسهم الاعتراض على الحكمة الإلهية؟ وما أبرئ نفسي، فلقد ملكني الحزن مرة على اقتطاع فلذة من كبدي، وتساءلت في غمرة الحزن والألم: لماذا لم يبق الله على طفلي حتى يتمتع بحظه من الحياة والسعادة؟ ثم شاء الله أن يهديني، فقلت لنفسي: أليس هو - عز وجل - الذي خلقه؟ فلماذا لا يسترده وقتما يشاء؟! ولو أراد الله له الحياة للبث في هذه الدنيا حتى يشاء الله، ولكنه استرده لحكمة اقتضتها مشيئته، فهو لا يفعل شيئا إلا لحكمة، والحكمة خير، فقد أراد ربي به وبي خيرا، وسرعان ما غلبني السرور بإدراك حكمته على حزني، ولسان قلبي يقول: ربي لقد وضعتني موضع البلاء لتختبرني، وها أنا ذا أجوز امتحانك ثابت الإيمان، ملهما حكمتك، «فاللهم شكرا»، وسار ديدني إذا أصابتني مصيبة أن ألهج من أعماق قلبي بالشكر والرضا، كيف لا والله يخصني بالامتحان والعناية، وكلما عبرت محنة إلى بر السلام والإيمان ازددت إدراكا لما في مقاديره من حكمة وما فيها بالتالي من خير، وما تستحق بعد ذلك من شكر وسرور، وهكذا وصلت المصائب ما بيني وبين حكمته على دوام لا ينقطع، حتى خلتني طفلا مدللا في ملكوته يقسو علي لأزدجر، ويخوفني بعبوس مصطنع ليضاعف سروري بالأنس الحقيقي الدائم، وإن الحبيب ليسبر محبوبه بالصد حينا، وإن عرف المحبوب أن الصد مكر محب لا هجر قال، تضاعف حبه وسروره. فما عدوت أن وقر في اعتقادي أن المصابين في هذه الدنيا هم أحباب الله وأولياؤه، خصهم بحب مقنع، ورصدهم غير بعيد، ليرى إن كانوا حقا أهلا لحبه ورحمته .. فالحمد لله كثيرا، بفضله عزيت من حسبوا أنني أهل للعزاء.
ومسح على صدره الواسع ببشر وانشراح وهو يجد من إلحاح التعبير عن مكنون صدره ما يجده المغني إذا سكر بحلاوة الطرب وتاه في سلطنة الفن، فاستدرك يقول بحرارة ووجد: يذهب أناس إلى أن هذه المصائب وأمثالها مما يبتلى به الأبرياء عنوان عدالة انتقامية، لا يفطن لحكمتها عامة الناس، وتراهم يقولون: إنه لو تفكر الأب الثاكل مثلا لوجد أن ثكله جزاء ذنب اقترفه هو أو أحد آبائه الأولين؛ ولكن لعمري، إن الله أعدل وأرحم من أن يأخذ البريء بالمذنب. وتراهم يستشهدون على صواب رأيهم بما وصف الله به نفسه من أنه عزيز ذو انتقام، ولكني أقول يا سادة: إن الله تعالى غني عن الانتقام، وأنه إنما أضاف هذه الصفة لذاته لينبه الإنسان إلى احتذائها، وقد سبقت إرادته بألا تستقيم أمور هذه الدنيا إلا بالثواب والعقاب، أما ذاته العزيزة الجليلة فسنتها الحكمة الربانية والرحمة الإلهية. ولو أنني اكتشفت تحت مصائبي عقابا أستحقه، أو وجدت وراء جثث أبنائي جزاء أستأهله، لاعتبرت حقا، ولازدجرت حقا، ولكن كان يبقى في النفس ضنى وفي العين دموع، ربما هتف قلبي المحترق: ضعيف أذنب وبريء هلك، فكيف العفو والرحمة؟! فأين هذا من مصيبة تستشف الحكمة والخير والسرور؟!
وأثار رأيه اعتراضات كثيرة، فتمسك البعض بالنص، وأول البعض التفسير، ورد آخرون الانتقام إلى الرحمة. وكان كثيرون أقوى منه عارضة وأوسع علما، ولكنه لم يكن متهيئا للجدل، كان متفتحا فحسب للتعبير عما يضطرم في فؤاده من الحب والسرور، فجعل يبتسم ببراءة الطفل، متورد الوجه متألق العينين، وراح يقول بصوت رققه الهيام فكان أندى من مناجاة العاشقين: معذرة يا سادة، فإني أحب الحياة، بل أحب نفسي، لا كذات تتعلق بي، ولكن كفلذة من قلب البشرية، ونبض من الحياة، وخلق للصانع الأجل، وتجربة للحكمة الإلهية، وأحب الناس جميعا حتى المجرمين الشائهين؛ أليسوا يرمزون إلى عناء الحياة الممض في سبيل الكمال؟! .. أليسوا ظلمة تلقي عتمتها على بهاء الخير ضياء، ذروني أبح لكم بسر دفين، أو تعلمون ما الذي بعثني إلى الحج هذا العام؟
وصمت السيد هنيهة وعيناه الصافيتان تسطعان بنور بهيج، ثم قال يجيب نظرات الاستطلاع التي عكستها الأعين: لا أنكر أن الحج أمنية طالما نازعني الفؤاد إليها، ولكن قضت إرادة الله أن أؤجلها عاما بعد عام، حتى حسبتني قد بت أوثر الشوق إلى الحبيب على الحبيب نفسه، ولأشواق العبادات لذة كقضائها. ثم كان من أمر زقاقنا ما تعلمون، فشد الشيطان على أعين رجلين وفتاة من جيراننا؛ أما الرجلان فقادهما إلى قبر ينبشانه وغادرهما في السجن، وأما الفتاة فاستدرجها إلى هاوية الشهوات وغاص بها في حمأة الرذيلة. هناك زلزل قلبي زلزالا شديدا تصدعت له أضلعي، ولا أكتمكم يا سادة أن شعورا بالذنب داخلني لأن أحد الرجلين كان يقتات على الفتات، وقد نبش القبر لعله يجد بين عظامه النخرة لقمة يستسيغها، كالكلب الضال يلتقط رزقه من أكوام الزبالة، فلشد ما ذكرني جوعه بجسمي المكتنز ووجهي المتورد، حتى استحوذ علي الخجل وغلبني استعبار، وقلت لنفسي معنفا متقززا: ماذا فعلت - وقد آتاني الله خيرا كثيرا - لدفع البلاء أو التخفيف من وقعه؟ ألم أترك الشيطان يعبث بأهل جيرتي وأنا ذاهل عنه بسروري وطمأنينتي؟ ألا يكون الإنسان الطيب بتقاعده عونا للشيطان من حيث لا يدري؟ .. واستصرخني الضمير المعذب أن ألبي النداء القديم، وأن أشد الرحال إلى أرض التوبة مستغفرا، حتى إذا شاء الله لي أن أعود عدت بقلب طاهر، وجعلت من قلبي ولساني ويدي أعوانا للخير في مملكة الله الواسعة.
ودعا له الإخوان بصدق وحرارة، وواصلوا الحديث في سرور وحبور. •••
وأبى السيد رضوان بعد أن ودع بيته إلا أن يزور قهوة كرشة مودعا، فاقتعد مجلسه محوطا بالمعلم «كرشة» وعم كامل والشيخ درويش وعباس الحلو وحسين كرشة. وجاءت المعلمة حسنية الفرانة فقبلت يده وحملته السلام أمانة، وقد قال لهم السيد: الحج فريضة على من استطاع إليه سبيلا، يؤديها عن نفسه وعمن تقعد بهم الأعذار من الصادقين.
فقال له عم كامل بصوت الأطفال: صحبتك السلامة في الحل والترحال، وعسى ألا تنسى أن تجيئنا بسبحة من المدينة المنورة.
Неизвестная страница