منذ داعبتها إصبع الشيطان أرادت بدور التخلص من ثقل جسدها، ذلك العبء الثقيل تحمله كل يوم، اللحم السمين الذي يغطي ذراعيها وصدرها وبطنها وساقيها وبطني قدميها، تحلم في الليل بقوة تحمل عنها العبء، ذراعان قويتان تمتدان من السماء، تسحقان جسدها، يذوب جسدها بين الذراعين حتى يتلاشى اللحم.
انتهت المظاهرة وتفرقت الجموع، وظلت هي تمشي إلى جواره، تريد أن تمشي إلى جواره حتى نهاية العمر، تريد أن يحملها بين ذراعيه ويمضي بها حتى الموت. كانت صامتة وكان صامتا، يسيران جنبا إلى جنب، يخرجان من شارع ويدخلان في شارع، حتى توقف نسيم أمام باب بدروم في عمارة كبيرة، وقف صامتا مطرقا قليلا، مستغرقا في التفكير، ثم رفع عينيه إليها، صوته فيه بحة خفيفة، المقلتان الزرقاوان في عينيه تكسوهما لمعة تشبه الدمعة الحبيسة، كلماته متقطعة: بدور ... لا أعرف ما أقوله ... لكن أنا أحس.
أحس بك ... أحس مشاعرك القوية نحوي ... وأنا أبادلك هذه المشاعر ... لكنك من طبقة أخرى، يا بدور ... أنا أسكن في هذه الغرفة في البدروم ...
كان ذلك منذ سنين كثيرة، حين كانت بدور في العشرين من عمرها تحلم بالحب والثورة، حصلت على الليسانس في كلية الآداب، لم تكن تحب الأدب ولا النقد الأدبي، كانت تحب نسيم وتريده، تحلم به ولا تستطيع الحياة بعيدا عنه، تفضل أن تعيش معه في الغرفة بالبدروم على أن تعيش مع أبيها وأمها في الفيلا الكبيرة في جاردن ستي.
لا تذكر بدور ماذا قالت له وهما واقفان أمام باب غرفته بالبدروم، هل نطقت بكلمة: «أحبك»؟ ربما قالتها دون أن يخرج صوتها إلى الوجود، أو ربما خرج صوتها مثل هواء ساخن من صدرها ليس له صوت.
ظلت واقفة مترددة، يدها تستند إلى الباب الخشبي المشقق، يدها الأخرى تمسك الحزام المعلق على كتفها، تشد عليه كأنما لتحفظ توازنها، كأنما تقاوم جاذبية الأرض، تشد جسدها إليها، تخشى السقوط.
هو كان واقفا مترددا لا يتحرك، الهواء بينهما أيضا لا يتحرك، لا شيء يتحرك إلا أنفاسها. أما هو فلم يكن يتنفس، كان جامدا مثل تمثال.
لا تذكر كم من الوقت مر وهما واقفان عند الباب المغلق، لم يمد يده بالمفتاح ليفتحه، كان المفتاح في جيبه، لكن ذراعه لم تكن تتحرك، لا شيء فيه يتحرك.
ماذا كان ينتظر؟ أن يراها تستدير لتعود إلى بيتها، أن ترفع يدها عاليا وتصفعه على وجهه ثم تمضي. في عينيها يرى شيئا يشبه الدمعة الحبيسة، لا تسقط ولا تتبخر، أو النظرة المكتومة تحت الدموع، نظرة فتاة تشعر بالإهانة، فتاة تقدم نفسها لرجل فيرفضها، فتاة تمد يدها لإنسان تنشد الخلاص فلا تمتد يده إليها.
أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب، دخلت وراءه كأنما تمشي في النوم. وقفت ظهرها للحائط تلتصق بالجدار، تستمد منه الصلابة، تسربت برودة الحائط إلى جسدها الساخن، انتفضت وهي واقفة، سرت في كيانها قشعريرة رعشة البرد وخوف غامض.
Неизвестная страница