زينب متزوجة اليوم، وبهذا تحتج كلما ذكرها بالماضي. ولكن ماذا يهمه لو كانت متزوجة. لا بد أن يأخذها بين ذراعيه، ويضمها لصدره، ويقبل كل موضع في جسمها. كلا. إنه لا يستطيع البقاء بعيدا عنها، وليس في طوقه أن يعيش من غيرها.
إن حياتى مستحيلة إذا لم أحس بها بين يدي. كفى خيالاتي وآمالي الماضية التي لم أخرج منها بشيء، ولا بد أن أعمل جهدي لمقابلتها وحيدة ، ثم أمسكها وأضمها إلى وآخذها لنفسي. ما دمت أحبها وهي تحبني فأنا لها وهي لي.
وما الذي يبعدها عنه، أو يمسكه عنها؟ ألأن بينها وبين حسن عقدا يقال إنه يربط أحدهما بالآخر؟ وهل تستطيع العقود مهما تكن أن تحرم الشخص من التصرف في قلبه، وأن يتركه حرا يذهب لمن يشاء؟ وما دامت الطبيعة قد كونت اثنين ليكونا معا فإن عبثا وحمقا أن ينظرا لغير ذلك الاجتماع، أو يهتما بما يكون من نظر غيرهما له، أو أن يعوقهما عن إتمامه عقد لا قيمة له في الواقع، وإن احترمه الناس وقدسوه! وظل زمنا في غرفته متهيج الأعصاب، مضطرب النفس، يصمم في كل لحظة على مقابلة زينب، وعلى أن يفتح لها قلبه، ويعترف لها بما يقاسي من أجلها فتقر هي الأخرى بحبها له، ثم يتعانقان ويبكيان، وهكذا يبقيان.. •••
انحدرت الشمس، وابتدأت السماء تعد نفسها لرداء الليل، وجعل كل شيء يدخل عالم الظلام رويدا رويدا، ثم سمع حامد من ينقر على بابه وينبهه للعشاء. ولكن أي طعام ذلك الذي يأخذه؟ وهل يستطيع أن يأكل أو يشرب قبل أن يحقق كل أمانيه؟
ثم سمع والده يسأل عنه، فهدأ من نفسه حتى لا يظهر عليه أثر، وخرج فحيا الموجودين، وجلس على المائدة وهو لا يكاد يأكل شيئا. فلما انتهوا من طعامهم انكفأ خارج الدار هائما، فأنذره الليل أن تلك ساعة هجود للعمال المتعبين طول نهارهم، وأن زينب هذه اللحظة في أحضان زوجها.
في أحضان زوجها؟! ما أقساك يا ليل! زينب في أحضان زوجها، وفي أحضاني أنا الأسى والألم؟! لم يارب جعلت يوم رأيتها بعض أيام حياتي؟! وهل من طريق الآن إليها؟
لا طريق في هذا الليل إلا أن ننتظر صبحه. فلما بزغت الشمس كان حامد نائما في مرقده بعد ليل أكده وجاء على قواه، ولم يقم إلا والنهار في ساعة الزوال أو يكاد. فأخذ طعامه وحده، ثم خرج إلى جهة المزارع حتى إذا كان على مقربة من أرض أبويا خليل جلس إلى ظل شجرة ينتظر أن تمر زينب كعادتها. جلس ولا تصميم عنده ولا عزم على شيء. ولو أنه رآها هاته اللحظة أمامه لما زاد معها على إلقاء التحية أو ردها، ثم يتبعها بنظره مدة من الزمان. ولكن السكون المطلق المحيط به وتحديقه إلى الجهة التي تجيء منها سمح له لأول ما رآها قادمة من بعيد أن يثبت على شيء، فقام متمهلا يروح ويجيء في ظل الأشجار حتى إذا كانت عنده، وألقت عليه تحيتها، سار إلى جانبها، ولم يمهلها أن فاتحها الحديث: انت نسيتي يا زينب أيام زمان؟
الله! ما هذا الذي لا تنتظر؟ وأي جديد حدث حتى جاء بحامد هنا يكرر لها هذا الكلام بعد أن تركها الزمان الطويل؟ أو لم يسألها مثل هذا السؤال مرة من قبل؟ وماذا عساه يريد منها؟
ثم أجابته: لا ما نسيتش لكن أنا اجوزت.
وقبل أن ينطق حامد بكلمة أخرى أحس بالمضاضة والذلة التي تصيبه من أي اعتراف أمامها بما في قلبه. بل ألا يكون ذلك خبلا وجنونا؟ ثم هل يحتمل ما يقول الناس عنه وما يلفقون من الأكاذيب؟
Неизвестная страница