لكن القضاء النازل لا محيص منه، وخير ما يعزى عنه الرضا به ونسيان محنته، كما أنه لا فائدة من التسخط عليه. لذلك مهد إبراهيم نفسه للعسكرية، وجعل يحلم بما قد يكون فيها من محاسن، وحين يرى البلاد الجديدة وما تقدم بأشكالها المختلفة أمام العين من الفروق الدقيقة ثم طباع هؤلاء المجهولين الذين تحكى عنهم حكايات تكاد تكون حديث خرافة. وتعلم ضرب النار والخروج مع إخوانه وبلدييه بكسوتهم المنتظمة، كل ذلك هون على نفسه بعض الشيء وجعله ينام قبيل الفجر.
وفي صباح الغد اصطحبه حسن إلى داره فودع عمي خليل وزوجته وبناته في حين ذهب حسن ليغير بعض ثيابه ويصلح من أمره. وطلعت زينب مع زوجها للغرفة ثم تركته ونزلت مسرعة وكلها تهتز ولا تكاد تملك نفسها ويكاد البكاء يخنقها، وشعرت بمقدار مرارة تلك الساعة القاتلة، ساعة الفراق بين المحبين.
لم يعد سبيل لمرآه بعد هذه اللحظة. لذلك نادت به إلى قاعة في الدار كأنما تريد أن تحدثه في بعض أمرها، وما إن انفردت معه حتى أخذته إليها تعانقه وقد انهلت دمعتها وأحس في وجودها بهزة الحزن، وراح هو الآخر إلى عالم الآلام. هل يفترقان إلى الأبد!؟ ما أشد تلك الساعة على نفسيهما! وهذا العناق بينهما، عناق الوداع حيث يذهب أحدهما إلى فلوات كلها المخاوف والآخر إلى ما لا يدري، إلى الأبدية والفناء.
خارت كل قواهما فأسند كل رأسه على ركبته ودمعهما يسيل ولا ينطقان. وفي تلك الساعة الأخيرة تجسمت قداسة الوداع وهيبة اللقاء الأخير.. وبقيا على ذلك حتى سمعا صوت حسن نازلا من فوق فعانقته ثانية وقبلته، وبصوت مختنق يجهش بالبكاء المر قالت له الكلمة الأخيرة: مع السلامة.
ثم بقيت في القاعة والباب مقفل عليها، وحولها ظلمة المكان تترك أحزانها مطلقة العنان، فراحت بكلها تائهة منقبضة الصدر قد أثقلها أسى من ذلك الذي يعتادنا حين تتناوبنا هموم كثيرة لا ندري من أين أتت لأنها آتية من كل مكان!
وأخيرا، وقد بلغ منها اليأس مبلغه، هزت رأسها ونظرت بعيونها الملأى بالدمع إلى ما حولها كأنما تريد أن ترى ذلك الأثر الذي خلف إبراهيم مكانه، تلك البقعة الطاهرة المحبوبة التي كان جالسا فيها لآخر ساعاته معها. ذلك التراب الميمون الذي كان يلامس. فرأت منديلا محلاويا كبيرا قد وقع منه فانحنت إليه وأخذته فمسحت به دموعها، ثم قبلته مرات ووضعته على قلبها الآسي الحزين.
ومن محاجرها الجميلة تحت حواجبها الدقيقة تساقط الدمع مرة أخرى. ولو أنها نظرت إلى وجهها هاته الساعة في المرآة لأصابها الذهول لما أظهره الألم عليه من الشحوب، وما غادر خدها الأسيل من تورده البديع. لكن أنى لها أن تفكر في هاته الساعة في المرآة أو في نفسها أو جمالها؟ إنها نسيت كل شيء إلا آلامها القاتلة.
أما حسن وإبراهيم فقد سارا معا إلى المحطة حيث وجدا كثيرين ينتظرونهما. وفي تلك اللحظة الباقية على مغادرة صديقه لهم جعلوا يحدثونه، وكلهم آمال طيبة من أجله، ويرجون عودته سالما. فلما أحسوا جميعا بالقطار آتيا من بعيد سلموا عليه وعانقه بعضهم، وضمه حسن إليه طويلا. ثم إذا شيخ البلد قد أتى فأخذ نفر القرعة في يده وصعد معه في عربة السكة الحديد فازدحم الجمع على نافذتها. فلما أعلنت القاطرة بصفيرها قيامها ودعوه جميعا بكلمتهم الأخيرة، وأرسل هو على هاته الأراضي المقدسة المحبوبة نظرة الوداع مملوءة آلاما وآمالا.
الفصل الثالث
1
Неизвестная страница