أما السيد محمود الذي كان مشغولا طول نهاره مع المهندس وجاء منه بوعد وبتصريح كتابي ليديروا مدة البطالة، فلم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله مستريحا بعد عناء يوم قضاه ما بين سفر ومناهدة طويلة مع ذلك المستخدم الذي هو من أشد طوائف المستخدمين تعلقا بالحكومة وخدمتها حيث يخيل إليه أن لا عمل من الأعمال الحرة في حاجة إليه ، وهو مع ذلك أجرؤهم على العبث بقوانينها ولوائحها.
لم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله بل أخذ معه صديقا له وقاما ذاهبين إلى المزارع العطاش المسكينة، فقام حامد معهما وساروا مع القمر حتى وصلوا فوجدوا جماعة المستأجرين نياما على شاطئ الترعة ينتظرون قضاء الله وقضاء الحكومة في أرزاقهم وفي عيشهم، وكأنما الآفات الكثيرة التي تنهال عليهم من غير حساب تقذف بها السماء الرحيمة ليست كافية لشقائهم فتتقاضاهم الحكومة الضرائب لتزيدهم شقاء. والبائسون يحسون بتعسهم هذا، والمسنون يأسفون على الزمن القديم قليل الحاجات قليل المتاعب، والقمر الناحل في سمائه يبسط عليهم شعاعه الذي طالما التحفوه.. التحفوه من يوم كان عمرهم سبع سنين يحضرون للحصاد، ومن قبلها تجيء بهم أمهاتهم معهن أطفالا فينزلن لعملهن ويدعنهم لرحمة الرؤوف الرحيم.
فلما مروا بأول تابوت إذا بصاحبه جاثم إلى جانبه مكوم في دفيته فناداه السيد: سالخير يا بو محرم.. اصحى الميه جايه.
فقام أبو محرم العجوز حتى أيس من الحياة وسلم على القادمين يدا بيد ثم قال: يخي مية ايه عاد.. القطن بقي يا رحمن يا رحيم.. والله كانوا الناس زمان مبسوطين.. كنا نستنى النيلية لما تجي وبعدين نبدر وخلاص تطلع الغلة تتلتل.. حقه وفي التصفية كنا نصيد سمك.. سمك ايه، الدنيا، وليامدي الواحد ينشف ريقه على ما يحصلوه حبة منه ... اللي فات باين ما يرجعش..
ثم أعاد حكاية الماضي حين كانوا ينالون كثيرا من الخير من غير ما نصب ولا لغوب، ولم يتسخط إلا على الكرباج وتشدد الحكام في الضرائب، وكأن هذا الفاني سيودع الأرض في أيام معدودة يهزأ في لهجة الجاد من دعوى الحكومة الحاضرة إصلاح الحال وتنظيم الري وإسعاد الفقير.
هكذا سار السيد محمود يوقظ الناس واحدا بعد واحد، فإذا فتحوا عيونهم ورأوا قرار الترعة لا تزال شقوقه واسعة انبهتوا لم يوقظهم المالك في تلك الساعة من الليل، ولكنه لا يلبث أن يخبرهم أن يستعدوا فالماء على وشك أن يصل إليهم.. فلما بلغوا أحد كبار المستأجرين جلسوا عنده وشربوا قهوة معه ولم يتركوه حتى جاءت تباشير الماء تتقلب على الطمي الناشف وتتسرب في الشقوق ثم تسمع بعيدا بعيدا.
تركوه إلى قطعة من زراعة السيد محمود نفسه، فيها أرز لم يظهر سنبله بعد. وقد يبست أوراقه من العطش، فلم يجدوا بها أحدا فنادوا بعامل وبالبهائم من عزبة قريبة، وانتظروا معه حتى مطلع الصبح، وحامد يسير في الغيط من جانب لآخر، ويرى ذلك النبات المائي تنحدر منه الحياة، وتفقد أوراقه الخضراء لونها البديع الزاهي، فتصبح ذابلة باهتة ثم تتحول ناشفة وتسقط إلى الأرض.
فلما أشرقت الشمس أراد السيد أن يرجع إلى البيت وقد اطمأن على الماء وعلى الزرع، ففضل حامد أن يبقى في المزرعة إلى جانب التابوت يزن بنغمات متشابهة دائمة تضيع ساعات النهار وسط ضوضاء الوجود، فإذا ما أقبل الليل ودخل الكون إلى سكونه وجدت نفسها، وتقلبت مع النسيم يسمعها المدلج وسط اللا نهائية الهائلة من الأرض المستترة بثوبها الأسود، فيطمئن على البهيمة المجدة في سيرها.
وجاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس وأرسلت على الأرض نارها، وحامد يلعب النوم برأسه الساهر طول ليله قد انزوى في عش هنالك بقي فيه نائما مرتاحا.. ثم فتح عينه فإذا الشمس ساقطة إلى مغربها قد احمر قرصها في آخر السماء الصافية، فلون ما حولها ببعض لونه.. والترعة الصغيرة إلى جانبه يعلو فيها الماء ثانية بعد أن كان قد هبط قبيل الظهر.
تلفت حوله فإذا العامل الذي معه ليس موجودا، وإلى مسافات بعيدة لا تلمح العين شبحا، والثور الذي في التابوت يضج مبطئا، والشمس مسرعة إلى مكمنها، والسماء يقتم لونها رويدا رويدا.. وكأن الجو إذ يظلم قليلا تتسرب فيه عفاريت المساء والجن الساكنة هذا الفضاء الكبير من الأرض. ثم لمع في السواد بعض النجوم، ولكن الليل المقدم يأتي ولا قمر معه يجعل اللمع غير ذي جدوى، والشياطين تجري في الهواء أمام عيون هذا الوحيد المستوحش، وكأنها تريد أن تدخل العش معه، وينظر فلا يرى إنسا، ثم وقف الثور وسكت كل صوت حوله، وابتدأ الوجود الأخرس يدوي والصراصير تصفر فتملأ الفراغ بصراخها، والليل يقدم دائما.
Неизвестная страница