وأبو الفتاة قد انتهى القوم بإقناعه وكاد يقبل، وابتدأوا بذلك يقدرون المهر، وانقسموا بعضهم على بعض في التقدير، ثم تراضوا جميعا ولم يبق إلا كتب الكتاب، وأن يروح لذلك من يجيء من زينب بتوكيل أبيها في عقد زواجها.
ها هو ذا الأب قد تصرف في يد ابنته برأيه وباعها مساومة، وبقي أن تجيز هي عمل شخص أعطته الطبيعة من السلطان أنه أبوها، فهل تقدر الفتاة من بعد ذلك على رد ما عمل؟ هل ترضى هي بفعلته هاته وقد عدتها من قبل باب نحسها وشقائها، وتعطيه عن طيب نفس ذلك التوكيل الذي يطلب أو هي واقفة دون ذلك؟
عرفت زينب أن سيطلب توكيلها، فكأنما سقطت عليها هموم السماوات، واستولت عليها الأحزان من أعماق الأرضين، وأصبح ذلك السواد النازل من علو مصائب هابطة وأهوالا وشقاء، أو كأنما يرسل النسيم إلى قلبها بسهام الويل والتعس، بدل أن يحيي منها أملا يقضي عليه أبوها ووافقته في قضائه أمها.
لكن القوم لم يكتبوا الكتاب في ذلك اليوم بل اكتفوا بقراءة الفاتحة وأجلوا إتمام العقد لشهر من الزمان. •••
مضى شهر من الزمان كانت زينب فيه إما تسمع ما تكرره لها أمها من الكلام، أو هي بين يدي إبراهيم تذرف الدمع، فيضمها إليه وقلبه ينفطر حزنا، ويقبل صدغها فيجد في تلك القبلات ما يزيد في وجده وأساه. وكل يوم يمر يزيد ما بنفسيهما حتى لتفكر من جديد أن تهب كل وجودها له لينجوا معا إلى حيث لا يعلم الناس: إلى مجاهل قاصية يقضيان فيها حياة عاملة كحياتها اليوم، وتخلص بذلك من عذابها الأليم. ليأخذها إبراهيم حيث يشاء فهي لا تريد غيره.
فإذا هي خلت إلى نفسها تقطعت نياط قلبها أسى، وداخلها اليأس، وتحدرت دموعها، ثم تراها أمها فتلومها على ما هي فيه وتعمل لعزائها، ولكن أنى لها أن تتعزى؟ إنها لتود أن تخرج هائمة على وجهها تتقاذفها الأكوان وتتناولها يد القدر، فإنها مهما تكن قاسية في معاملة الفقير فهي ألين من يد أبويها وأحنى عليها منهما . وهل هي واجدة إلا شقاء بشقاء، ونصبا بنصب؟!
ويضمها إبراهيم لصدره كلما جلست إليه، ثم يجاهد هو الآخر لعزائها فلا تجد في ذلك إلا تشديدا لآلامها وإحلالا لليأس موضع كل رجاء من قلبها، وكادت تذهب بها أحزانها إلى الجنون، وتخرجها من بين الناس إلى حيث لا يعلم بأمرها أحد.. بل لقد همت بذلك أكثر من مرة فتنفرد في المزارع طول نهارها تنتقل من غيط إلى غيط وتجلس كلما أثقلها الهم، ثم يثور كل وجودها فلا تستطيع إلا أن تهيم، فإذا أمسى الوقت وتطوحت الشمس داميا قرصها إلي الغيابات النائية، والتهب الغرب بحمرة الشفق، لم تستطع إلا أن ترجع إلى تلك الدار التي ضمتها كل أيامها ثم تريد أن تقذف بها عما قريب.
ترجع فتجد أهلها وعليهم أثر الرضا والسرور، فإذا انفردت بها أمها لم تن عن أن تعيب عليها ذلك الذي تراها فيه من الوحشة وإظهار الأسى، وتحكي لها حكايات من زوجهن أبوهن وهن لا يعلمن من أمر ذلك بشيء، وكيف أصبحن من بعد زواجهن سعيدات، وأن الأب ليس إلا باحثا عن خير ولده موفقا بما عنده من المعرفة إلى ما يبغي! •••
مضى شهر من الزمان، وجاء خليل وحسن والمأذون وأصحابهم. وجلسوا جميعا بين تحيات أبي محمد وإكراماته. كذلك كان عند زينب وأمها جارات من أصحابهن جئن يشاركن العائلة في سرورها. وهل بعد كل هاته الضجة القائمة يبقى لزينب من كلام؟ لذلك لم تجب بكلمة ما حين جاء القوم يطلبون توكيلها أباها في عقد زواجها، بل بقيت صامتة لا تنطق بكلمة ولا تنبس بحرف ... ثم كان أن أخذتها نفسها فلم تقدر أن تمنع دموعها التي سالت على خدها.. واستبطأ الأب رسوله فنادى به واحد ممن حوله، ولما علموا أنها تبكي قال المأذون، وهو يهز رأسه وعمامته الكبيرة: حيث إنها دموع باردة فهي دموع الفرح!
ثم بالصيغة التي يحفظها عن ظهر قلبه، والدعوات التي يتلوها في مثل موقفه، وضع يد العروس في يد وكيل عرسه واستتلاهما من بعده الكلمات التي تزوج .
Неизвестная страница