Муж женщины из свинца и его красивая дочь
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
Жанры
إهداء
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
هذا سفر التي هي: مليكة شول
هذا سفر الذي هو: ملوال
هذا سفر الذي هو: رياك ...
هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة
هذا سفر التي هي: سلمى
سفر الخروج
إهداء
Неизвестная страница
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
هذا سفر التي هي: مليكة شول
هذا سفر الذي هو: ملوال
هذا سفر الذي هو: رياك ...
هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة
هذا سفر التي هي: سلمى
سفر الخروج
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
Неизвестная страница
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
أيها السيد المسيح.
بحق الجرح النازف في خاصرتك.
بحق قرنفلات دمك الزكي، عكر الليل على الجنود.
غارثيا لوركا
إهداء
ستخافون مثلي من لجب العسكر، ستمزقكم كلاب الحراسة وأسئلة الصبيات، ولن تنجوا إلا على راحة كفي.
إلى الشعراء:
الصادق الرضي، عاطف خيري وبابكر الوسيلة.
Неизвестная страница
إلى:
شكيري توتوكوه ...
فالموت يا صديقي لا يعني أنك مت.
عبده بركه
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
لم تدر مقدار الرعب الذي أصاب أباك، عندما هتفت في وجهه في ذلك الصباح منفعلة: أبي، لقد فقدت عذريتي بالأمس، فقدتها تماما.
وقبل أن يفيق من نوبة رعبه، أخذت تحكي التفاصيل، التفاصيل التي ما كان يسمعها، تذكر جعفرا، جعفر مختار، أشعل سيجارة، أطفأها.
قلت: لقد ذهبنا للرحلة، أمي مليكة أيضا كانت هناك، ذهبنا للرميلة، حدث ذلك بالأمس القريب، وكانت الرميلة كما هو معروف في مثل هذه الأيام - أيام العيد - مكتظة بالبشر من المدينة، والمدن المقاربة: رطانيون، أعراب، بجا، طلاب جامعيون في رحلات جماعية، مساطيل يدخنون البنقو تحت أشجار السنط، سكارى تفوح من أفواههم خمارات العرق، مستوحدون يبحثون عن الرفقة، بائعات الفول والتسالي والشاي، عمال وضباط المحلية يتحصلون ألف جنيه عن كل زائر، وخمسة آلاف جنيه عن كل عربة، عساكر الجيش المرابطون قرب الخزان على ضفاف البحيرة، يرفهون عن أنفسهم بمعاكسة البنات والنساء والداعرات، رجال الشرطة ، وخلق لا أول له ولا آخر، يأكلون ويشربون ويغنون ويرقصون، يلعبون الشطرنج على الرمال، يذبحون الخراف، يغتابون بعضهم بعضا، يصلون، يتناسلون في العشب، يتوقعون جعفرا، يشعلون النار، يتذكرون أيامهم الجميلة، يلعنون الحكومة، وكنت وزميلاتي نشوي لحما على النجيل تحت سنطات شائكات، وكنا كالعادة لا نفكر في شيء يفسدنا، لكننا نعلق على الأولاد والرجال وبعض البنات اللائي يتصرفن في الظاهر بعفة ونعلم ما يضمرن من خبث وفجور لئيم: على لبسهن، مشيهن، كلامهن، لبانهن، كعوبهن العالية، أوجههن المقشورة بالمساحيق والمراهم الكيماوية الحارقة، عطورهن، تصفيف شعورهن، نظراتهن، مناجاتهن، مصاحبتهن للأولاد، شذوذهن، أيديهن، سوقهن، وكيف يكن إذا اختلين بالأولاد الأشقياء، أسرهن، كنا ماكينات تعليق وضحك ولا شيء يعجبنا أبدا، وكنا ساحرات وجميلات، وكلنا نرتدي على الموضة الشائعة مناطيلنا الضيقة الساحرة، وبلوزات القطن ذات الأكمام القصيرة، التي تلتصق بصدورنا، تلك الملابس التي اشتريتها لي يا أبي قبل أسبوعين، إنها آخر صيحة في الموضة، لبستها رغم أنف رياك أخي، كنا أجمل البنات في الرميلة، كنا هادئات ولا نفكر في أمور ملتوية، حتى رجل الشجرة ما كان يخطر ببالي في تلك اللحظات، لكن حدث الأمر كما يلي: سمعنا جميعا نداء أحدهم، كان يقف على الشاطئ ويصيح بصوت أجش قوي قائلا: جعفر، جعفر محمد مختار، سوف يظهر على الجزيرة الآن، الآن سوف يظهر جعفر على الجزيرة، جعفر مختار، وفي لحظات قلائل تجمع كل الناس على الشاطئ المقابل للجزيرة، على الرمال البيضاء الباردة النقية الشهية، رمال الشاطئ، كل الناس، حتى بائعات التسالي والفول السوداني والشاي، كل شيء، الكلاب، والذباب، والأطيار، والبهائم، وحمير الأعراب الجربانة تفوح منها رائحة القطران، الجمال، أطيار الرهو، الأعراب، وقد جاءوا مهرولين من منازلهم التي تقع خلف الأشجار، أطفالهم خلفهم، نساؤهم خلف أطفالهم، في ثيابهن الزرقاء وأحذيتهن البلاستيكية القديمة، وعلى رءوسهن شعورهن، في بحيرة من الزيت والودك، كلابهن، كل شيء، وكل شخص، تجمعوا على طول الشاطئ المقابل للجزيرة، حيث أعلن أن جعفر مختار سيصل إليها بعد قليل، وهذا في ذاته، حدث يجب ألا يفوته أحد، فذهبنا وتدافعنا على رمال الشاطئ، لكن جعفرا لم يصل الجزيرة، وغابت الشمس، وكنا ننتظر قدوم جعفر، فأشعل الحطب للإضاءة وأتى بعض القرويين بفوانيس كيروسين، ووجه بعض السائقين كشافات عرباتهم نحو الجزيرة الصغيرة، كنا ننتظر جعفرا، وكان قربي أحدهم، لم أنتبه لوجوده، فكنت مثلي مثله، متشوقة لرؤية جعفر على الجزيرة الخضراء، لكنه تعمد أن يحتك بي، ثم تعمد أن يقرصني على فخذي، ثم تعمد أن يقول لي: إلى متى أظل أجري خلفك؟
عندها تعرفت عليه، كان أحد صعاليك المدينة المعروفين والمشتهرين بخداع الصبيات واللعب عليهن، ومعروف عنه أيضا أنه بذيء، وأنه لا يوق، لا ينقطع ولا ينغسل، قلت له: هيا نذهب بعيدا عن هؤلاء الناس.
وذهبنا يا أبي، اخترقنا غابة السنط الصغيرة، ذهبنا نحو بيوت الأعراب، كانت فارغة وأبوابها مشرعة، لقد ذهبوا على عجل لرؤية جعفر مختار، وتركوا كل شيء كما هو، قدور على النار، صيجان الكسرة تحتها الحطب، فوقها طرقات الكسرة تحترق، أطفال رضع على المراجيح، شيوخ مرضى على فراش الموت، طعام موضوع على المناضد، ملابس على طست الغسيل، كل شيء ترك كما هو، تجولنا بين حجراتهم، كنا نبحث عن حجرة بها سرير كبير، وملاءات نظيفة، ويا حبذا لو توافر لنا بعض العطر البلدي، وفعلا وجدنا حفرة دخان مشتعلة، وينطلق منها دخان الطلح عطرا وشهيا دافئا ومراودا، ربما جهزتها عروس وعندما سمعت نداء بأن جعفرا سوف يصل الجزيرة، تركتها موقدة، وذهبت حيث جعفر، خلعت ملابسي وجلست على حفرة الدخان، وقام هو بمساعدتي بالالتفاف بشملة الصوف الثقيلة، وأخذ ينتظرني إلى أن أنضج، كان كل شيء مدهشا في ذلك اليوم، وكل شيء ينتظر ظهور جعفر على تلك الجزيرة الخضراء الرائعة، لم تحدثني أمي مليكة شول مادنق عن الدخان، لماذا لم تقل لي: إنه شيء رائع زي دا، وإنه جميل، وإنه ساحر، وإنه شهي، وإنه يخترق المسام في جنون بهيج، وإنه يفتح المسام وينعش الجسد ويحرره من الموت، لم تقل لي يا أبي ذلك.
Неизвестная страница
كان أبوك لا يسمع شيئا، لا يعي، تذكر جعفرا، أشعل سيجارة، أطفأها، قال في نفسه: إنك من جيل يجب أن يكون ورغم أنفه أيضا، قلت له: انتزعني من حفرة الدخان انتزاعا، وما كنت أرغب أن أفارقها أبدا، كان نداء أن جعفرا سوف يحضر بعد قليل على الجزيرة الخضراء، يبدو أكثر حماسا من قبل وأكثر تأكيدا، كان تصفيق الناس وصفيرهم قويا، ونداؤهم لجعفر أقوى، قالوا له: أين تهرب منا الليلة؟ نحن هنا ساهرون وستأتي وسنلعب معك وسنسألك.
في حجرة الأعراب، شممت رائحة جعفر، نعم جعفر مختار، وسمعت صوته، نعم صوت جعفر مختار، نعم يا أبي، عندها أحسست بالخجل، الخجل القاتل، الخجل الذي لم تعلمني إياه، لقد أحسست به لزجا ومرا كالسم، وعندها نظرت إلى صعلوك المدينة، كان خائفا مرعوبا كفأر في كف قط، كان يقف بعيدا عند الباب يرتجف، لم يمسسني هذا الجبان، أقسم لك يا أبي لم يمسسني بشيء لكنني رأيت الدم ولمسته، الدم المختلط بالسائل الأبيض اللزج، لقد رأيته يسيل من تحتي يا أبي، فعرفت أنني لم أعد عذراء، عندما يسيل الدم مختلطا بالسائل الأبيض اللزج، يا أبي.
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
مثل قطة منعمة أمك.
تمطيت، أشعلت سيجارة، أطفأتها، حدثت نفسك بأنها مسكينة مسالمة، حاولت أن تغفو قليلا، حاولت أن تقول عكس ذلك، أي أن نهديها كدلو الجلد الفارغ، وأنها متيمة بأشياء كثيرة، وما والدك من بينها. سألت ابنتك منى: ماذا قال لك رجل الشجرة؟
قالت وهي تحملق في عينيك كأنها تبحث فيهما عن التعبير المناسب: لن أقول لك الآن، ولن أقول لك غدا أيضا؛ لأنني أعلم أنك سألتني لا لكي تعرف ماذا قال رجل الشجرة لي، لكن لأنه ليس لديك ما تسأل عنه، في هذه اللحظة بالذات، أليس كذلك يا أبي؟
فقلت لها مستسلما: نعم، نعم يا منى، إذا كانت أمك حية، إذا ...
أيضا، لم تدر ماذا تريد أن تقول، هكذا تغيب عنك الأشياء، تخاصمك اللغة، حتى لغة البنوة، لغة الدم واللحم والسقف الواحد.
أجهشت بالبكاء.
قوي إيمانك بأنه ما عادت الأشياء كما تريد ، إنها المشيئة الضد، أن تلتهم التنين ناره، أن يجد المسيح نفسه يهوذا الأسخريوطي، أو بروتس، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
Неизвестная страница
قلت لابنتك منى: تخيلينا الآن أنا وأنت في مقهى رفاعي - في ناصية الجامعة - نتفرس الطلاب، لم تخف اهتمامك بالذباب، وصفته وهو يتجمع على حافة كوب الشاي الفارغ، شبهت طنينه بأشياء شتى، منها ذكرى زوجتك الأولى نعمة بنت خالتك، تلك السيدة السمينة البيضاء. منها أيضا ... ومنها جعفر.
تعرف أنت تماما أن ابنتك منى تمتلك سحرا أنثويا طاغيا لا يستطيع الرجال معه صبرا. خلاسية جيداء يعانق ظهرها شعرها الأسود الكثيف في دلال وفوضوية، وتعرف أن جموح صدرها، دعج عينيها وغموض نظراتها، طريقة لبسها، كل ذلك يثير عواصف كانت موقوتة في الشباب، وأنه هنالك حتما من يقع في غرامها، لكنك ما كنت تدري حقيقة تفضيلات أبناء هذه الأزمنة، أو أطفال الريح - كما يسميهم جعفر - قالت لك وقد تماهت تماما في التخيل: ذلك المقعي تحت شجرة النيم.
كان متواضعا عاديا كصفقة العشر، فقيرا، وليس هنالك ما يميزه عن غيره، غير أنه يجلس تحت شجرة، يتمعن بعمق وخصوصية، الفراغ.
أما أنت؟
فما اخترت أمها مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء ذات الأرداف الخصبة، المشحونة بالأطفال والأناشيد، ما اخترتها من تحت شجرة باباي، أو رأيتها تنحني لتجني ثمار البافرا وهي تغرد بصوتها العذب فسحرتك فتزوجتها، لا، لكنك وأنت تمارس تفاهات الحياة وتجلو صدأ أحزانك وجدتها، فتاة على هامش الخمارة بالعشش، ما كانت مليكة شول مادنق سكرى، ولم تك بغيا، لكنها صبية على هامش الخمارة تقدم قداح المريسة، وكئوسها القرع للندماء، وما كانت أيضا طفلة خالية من التجارب بريئة كقوس قزح، فلقد قالت لك فيما بعد: بعد الأسر ونحن في الطريق إلى مدينة آمنة، كنا جميعا من النساء والصبايا، قتل الرجال أو فروا مع جيش الغابة، أو انضموا إلى جيش الحكومة، عندما أدركنا الليل ونحن في الطريق اقتسمنا الجند، كل خمسة من الجنود نصيبهم امرأة واحدة، إلا أنا، كنت صغيرة ولم أبلغ الحلم بعد، ولي جسد هزيل، ولم تنم لي أثداء، قال الضابط لي: أنت صغيرة، سآخذك معي إلى الخيمة، حتى لا يلتهمك الجند المسعورون.
وفي خيمته قال لي: أنت جميلة رغم صغر سنك، وستكونين امرأة ساحرة في المستقبل، وأنا سأتزوجك على شرط ألا تصرخي هذه الليلة! سأكون معك في غاية اللطف.
وأرتك مليكة خرقا مدمية، لا تزالين تحتفظين بها أنت في دولابك الخاص، تخبئينها عن أطفالك.
قالت ابنتك وهي تحملق في فراغات رجل الشجرة، البنيات يحببن الرجل الخاص، الخاص جدا، قالت: إنه فقير وما عنصري، وعنده قلب كبير، أتدري يا أبي إنه في إمكان أية بنت أن تحب الرجل الذي يحبها، فقط عليه أن يحبها بصدق، ورجل الشجرة هذا يحبني، يحبني بصدق. وابتسمت من عمق في نفسها بعيدا.
وأخذت تحكي لابنتك المراهقة كيف أنكما اصطحبتما رجل الشجرة المنعزل العادي إلى المنزل، بكامل خصوصيته وصدق مشاعره المتخيلة تجاه ابنتك منى، وأنك أخليت لهما البيت، وادعيت الذهاب إلى السوق لشراء البرتقال، وقلت إنك ستتأخر قليلا؛ لأنه سيقابلك في الطريق جعفر، وطلبت منها ألا تدع رجل الشجرة يدخل إلى غرفتها، وأن يظل مقعيا بالديوان، يجتر أحلامه ويغزل أناشيد الشجرة، وطلبت منها ألا تطل من النافذة لتعاكس المارة، ألا تحدث الأغراب بالتلفون أو تفكر في أمور ملتوية، لكنك أيضا لن تنكر كيف عدت وتخيلت أمامها بكل وقاحة وشوارعية، لكن بما أمكن من سعة أفق، كيف أنها أغوت رجل الشجرة.
وألفت حوارا ذكيا، انتهى بها عارية في فراش رجل الشجرة، لتطفئ جموح شبقها، تذكرت جعفرا، قلت لها: إن الرجل الحر يستطيع أن ينام جاريا، والمرأة الحرة تقدر وهي في ذروة البؤس والألم أن تبكي بعين واحدة، وبالأخرى تبحث عن نشوة حقة. قالت: إنه أنت، وإنه جعفر، جعفر مختار.
Неизвестная страница
ثم أضافت: هل المرأة تحب الرجل أكثر مما هو يحبها؟
قالت أيضا: لكن أمي مليكة تحبك وتبكي إذا تأخرت خارج المنزل لمنتصف الليل، وأنت لا تهتم.
لكنك كعادتك تهرب من الأسئلة هروب الجندي الذكي من ميدان المعركة، وكم مرة تخفيت من أسئلة زوجتك مليكة ، عندما حاصرتك بحقائق مرة وأخرجت رأسك من الرمال، ما رأيك في الحرب؟
قل لي الآن: هل أنت مع جيش الحكومة أم مع جيش الغابة؟ عشرات السنين وأنا أسألك نفس السؤال.
فأخذت تحدثها عن الحب وأريتها ذكرك، حدثتها عن ابنيكما رياك ومنى، وقلت لها المستقبل فيما يقررانه، وحاولت أن تضاجعها، وعندما تذكرت أنها حائض حدثتها عن الزواج بفوضوية، وحصرته في نصيب الفرد من الدخل القومي وحرية اعتناق الأفكار، وعندما دخل عليكما فجأة ابنكما رياك وضبطك ورأسك في الرمال خوفا من أسئلة زوجتك الملحة، صرخت فيه: أنت سطحي وقشري وهش كرماد القصب.
تمطيت، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرا، خرجت من المنزل، خرجت خلفك مليكة، خرج خلفك رياك، كنت لا تدري إلى أين أنت ذاهب، لكنه الإحساس القوي الذي دائما يراودك بأنه هنالك من ينتظرك، رجل لا تدري، امرأة لا تدري، قدر لا تدري أم شيطان! المهم أنه ينتظرك في مكان ما، بشوق ما، بقلق ما، بصبر ما، بشيء، وعندما تأخرت عليه أو لم تصله، زهج منك، وصرخ في انتظارك قائلا: صبرا ود الحرام.
فابتسمت في تفاهة نفاد صبر، وتخيلت أنك ناقشته في مسألة تخص ابنتك الجميلة منى، سكرتما معا، تذكرتما جعفرا، جعفر مختار، فمرت في خاطرك وأنت تقذف كئوس الخمر بعيدا في عمق حلقك أطياف شتى، أطياف لا تعرف لها اسما أو عنوانا، أطياف سوداء، سوداء كجسدك، كنت تبحث عن مليكة بين المسافات الصغيرة التي تفصل ذرات السواد عن بعضها البعض، تجدها نائمة تحلم بالعصافير، قرود الموز، أباب دير والأناناس، تقبلها، تنفلت من تفاهات أشواقك، تذوب في موتها، تفاهات حياتها الأبدية، تعيدك أغنيات الكأس إليك، كنتما متفائلين كقردين في شجرة باباي، تذكر أنه قال لك بوضوح: منى ابنتك شبقة هذه الجرو الصغير، وضحك كما لا يضحك المساطيل. في عمقك بينك وبين ضميرك، تعرف أنك رجل صالح، رجل تقي، تحفظ أسماء الله الحسنى، أسماء أطفال المدينة كلها وألقابهم، تكره الحرب، ولا تعرف كيف تستعمل سكينة المطبخ، لم تنم وفي رأسك سؤال مقموع، تصلي في غرفتك، ممددا على التراب، مثلك مثل رجال شتى يعتقدون أن الله لا يهتم بهم لتفاهتهم وضآلة وجودهم، أو لا أحديتهم، فأنت تقول عن نفسك: إنك لا أحد.
بصقت على الأرض، كانت مليكة تصرخ خلفك دائما: اسمعني يا محمد الناصر ومت، اسمعني ومت.
هذه الفتاة الدينكاوية الحسناء سوداء كقلب الأبنوس، أسنانها أقمار تائهة فيه، حدثتك عن خطيبها الأول قبل الخروج مباشرة، دووت منقار، وكيف أنها قضت معه جلسة الونسة: جاءنا وكنت أنتظره في كوخ هيأته لنا والدتي، وكالعادة كنت شبه عارية، وهو كذلك، تحدثنا كثيرا، تكلم أكثر من اللازم، ليظهر لي براعته في الحديث ومقدرته على الإقناع، وحدثني عن مواقف له تنم عن شجاعة لا نظير لها، وكرم ومروءة، وظل ساكنا ومؤدبا في شأن الجسد، حتى يظهر شهامته وعفته وتأدبه، لم يمسسني بلغة فاضحة، أو يحاول أن يطفئ في جمرا ملتهبا كان يحرقه.
وأنت أنت!
Неизвестная страница
كنت حزينا وهادئا كتمثال من عفن الخبز، كان جعفر فيك، جعفر مختار، تذكرته عندما تكلم ابنك رياك بصوته الجهوري القوي، الذي حينما يتكلم كأنه يستعير طبولا مسحورة.
إذا لم تقف لن نمضي وراءك أكثر.
هذه الفتاة المخلوقة من ليل قدسي، الرشيقة كغزالة ترقص في الريح، كم أنت تحبها وتدللها! ما كانت تخبئ عنك شيئا، إلا ما يجب إخفاؤه، كوله جارتها الحسناء آمنة بك، كسؤالها الملح عن فحولتك، كقولها المباشر أو غير المباشر.
هل تهتم أنت بها؟
قلت لابنتك منى ذات مرة وأنت في قمة تناقضك: لو كانت أمك حية لما أضافت لك شيئا.
وقلت لها أيضا: إن الرجل يحب ثلاثة أشياء في فتاته ... ولم تقل لها ما هي هذه الأشياء الثلاثة، لكنها خمنت أحدها وقالته لنفسها: أن ترى أن أهم ما في هذا الكون هو الله؛ لأنه خلق زوجها، هذا المتفرد الذي يحبها، وأهم ما يجعل زوجها متفردا وعظيما ولا شبيه له في الأزواج هو حبه لها، أما الشيء الثاني، فلم تستطع منى تخيله، لكنها تخيلت الشيء الثالث وقالته لنفسها أيضا في سرية كاملة: أن تصبح طفلته المدللة وأمه المدللة.
وأنت دائما لا تدري كيف استطاعت ابنتك منى أن تتعلم الحكمة منك، أو من جعفر، جعفر مختار، وأنتما مثل كتابين مكتوبين بحبر مسحور، يعمي كل من يحاول أن يقرأه، تحدثت ابنتك منى عن البساطة وعن أقوالك المعقدة أحيانا، والساذجة جدا أحيانا أخرى، عن خالها مجوك وجمجمة جدها بدولاب أمها القديم المغلق منذ وفاتها، الدولاب الأسود المصنوع من قلب الأبنوس، جمجمة جدها ماجوك المجني عليه، مخترقة بطلقة بندقية، حدثتك عن خالها وقوله: إنه فتر من حرب جيش الحكومة، أو كما عبر عنه هو في رسالة سابقة: جيش أخي ملوال.
وأنت أنت.
لا تعرف، أتقف مع ماجوك، وهو الأخ الأصغر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الغابة، ضد جيش الحكومة، أم تقف مع ملوال، وهو الأخ الأكبر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الحكومة ضد جيش الغابة؟ أما مليكة فقد قالت لك بوضوح: أنا مع الاثنين، بنفس القلب، وبنفس الحب والحقد، قلبها في الغابة مصوبا جحيما أبديا ضد ماجوك، وهو يحلم بالأطفال والخريف، أما روحها فتحميه من رصاص جيش الحكومة، خاصة رشاشة أخيه، وقلبها جحيم مستعر ضد جيش الحكومة، طالما كانت هي أخت الاثنين، والأمر ليس كما يبدو لك من التعقد والحيرة؛ الله واحد، ولا نستطيع أن نقول: إنه يقف مع جيش الغابة وينصره، ويقف في ذات اللحظة وذات الصراع مع جيش ملوال وينصره؛ وذلك لأنني أحب الاثنين؛ لأنه حيثما وجد نصر، توجد هزيمة، أن ينتصر أخي يعني أن يهزم أخي، أن ينتصر الاثنان يعني أن يهزم الاثنان، فما أكبر الحزن! لكنك كما تعرف نفسك لا تقتنع بالإجابات السهلة والأسئلة المجانية؛ لذا أجبتها بابتسامة غامضة، وأنت تحدد لها بالدقة العلمية أنك لست المسئول، ولن يلومك أحد ولم يؤنبك ضمير؛ لأن ضميرك دائما في جانبك، أو كما يقول جعفر، جعفر مختار: ضمير الرجل الحر، ضمير مسالم ووديع.
منى قد تحتقر خيالاتك وجنونك وعبثك، وهذا لا يعني أنها غير معجبة بك، أو تحتقرك في شخصك، وحكاية رجل الشجرة ما كانت لتقنعها أو تشبع فيها شبقا، لولا أنها وجدت رجل شجرة في بيت الجيران القريب، ولدا مدللا، لا يعرف شيئا عن الآلية، ولا الخطر النووي، أو الأسطول السادس الأمريكي، لم يسمع به إطلاقا، أو يفهم في الاقتصاد، ولم يسمع عن كاتبة صينية تسمى كان شو، مثلما تثرثر أنت معها، لا يعرف لكنه يستطيع أن يحبها، أن يخليها تلحس شفاهه، وهي مسترخية مخدرة تحت صدره، قائلة في حلية رومانسية: أرجوك، أرجوك. صرخت زوجتك نعمة ابنة خالتك قائلة: ما كانت حياتك كلها نساء، لكنك تعشقهن، تحلم بهن كثيرا وتحب أن تردد قول جعفر، جعفر مختار: المرأة كالهواء، إذا حرمت نفسك منه اختنقت، كلما سنحت لك فرصة لقول ذلك، وترى من حق كل شخص أن يشبع حاجاته من الجنس الآخر، في حدود الممكن وفي إطار حريته، وما زلت تبحث لابنتك عن رجل حر يشبع جموح شهوتها، كما لو كان كل الرجال مثلك، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، رأيته ذات مرة ينام معلقا على فرع شجرة لالوب، أيقظته، مشيتما إلى قرية عند حنية النهر، تجولتما بين الأكواخ الصغيرة القديمة الهشة، لعبتما مع شيخ عجوز السيجا، حكى لكما عن شباب في القرية بعقلية الأطفال وأجساد الشيوخ وقال: ربما نحن الآن في آخر الزمان، ضحك جعفر، جعفر مختار، وهو يؤكد له باختصار شديد أن ذلك في مصلحة الوطن في المدى البعيد، وحاول أن يشرح له ذلك بشكل أوضح، لكن الشيخ لم يعره انتباها؛ لأنه كان على وشك أن يهزم، كنت تجري في جدية ورعب نحو الذي ينتظرك، إلى الأمام، إلى الأمام، وكان صوت مليكة يتبعك هاتفا: اسمعني، اسمعني ومت.
Неизвестная страница
أما ابنك رياك فعاد أدراجه إلى المنزل ونام، دائما ما كانت الطرق السهلة مقفلة أمام زوجتك مليكة، فلم تستطع يوم الكارثة أن تودع أمها، ولو بنظرة سريعة خاطفة، ولو بهمسة، أمها العجوز، ولم تستطع أن تقبل خد والدها الأعجف وعظامه البارزة، لم تتمكن من تلبية ندائه: اديني حقة التمباك.
لم تستطع أن تأخذ من جدتها العجوز ذات السن الواحدة آخر حكمة تخامر عقلها القديم، فكانت القذائف كالصواعق، والرصاص كالمطر تنشد موسيقى الرعب في سماء القرية الوادعة الجميلة النائمة على أحلام الغزلان والسناجب، المموسقة بتغريد الطيور وزقزقة العصافير. مليكة لم تسمع في حياتها أروع من زئير أسد الأبقار، وما كانت تتخيل أن هنالك صوتا أكثر رعبا وعنفا من زئير هذا الأسد الأحمر، جدها بونا لا يعلم أيضا أن في هذا العالم الذي يمتد من غابات ما بعد الغابات إلى بلاد العرب، يمكن أن يوجد صوت أقوى وأعنف من زئير أسد الأبقار الأحمر الغاضب في ليلة هادئة، وأنت تعرف جيدا أن مليكة شول انتزعت من ديار ما كانت تود مغادرتها، لتصبح في حضنك دافئة مباركة، ولو أنك تعرف جيدا خلفية الصراع في الجنوب كنت تقنع نفسك بأنها لا تنوي غير إرهابك، عندما كانت تريك جمجمة والدها الذي أرسلها لها ماجوك بعد حريق القرية، وهو يحمل حربته ويدخل الغابة، كنت تمشي نحو الذي ينتظرك، وأنت موقن أنه هنالك، في نهاية المسافة ينعس في انتظار طويل، أو يصرخ في وجهك الغائب: أيها الأبله!
ما كنت تدرك له وجها، جسدا أو علامة، وما كنت تستطيع أن تتخيله كشخص ما، أو شيء ما، لكن أقل ما يمكن أن تصفه به أنه كطنين ذبابة تحلق في وجهك، عميقا كحلم مليكة شول مادنق، يجلس على حجر بضفاف النهر، أو على ماء النهر، أو يطير كالغراب محلقا في السماء، أو يقبع في وكر كيمامة، أو يجلس في ركن قصي في سجن مظلم رطب على أذنيه غراب أسود يبتسم، أو قملة، أشعلت سيجارة، أطفأتها، سألت رجلا عجوزا له وجه قديم مهمل، قلت: هل رأيت يا شيخنا القديم، الجميل وأنت تجلس هنا، هل رأيت امرأة، امرأة مرت بهذا الطريق قبل عام؟ أو رأيت رجلا، هل رأيت شيئا ينتظرني؟ هل أنت تنتظرني؟
فابتسم الشيخ العجوز القديم بعينيه؛ لأنه ما كان بإمكانه فتح فمه ليريك أسنانه المتآكلة، وفمه ملآن باللالوب، وأخيرا عندما استطاع أن يبتلع حصاة ثلاث لالوبات، ويبصق واحدة، بالتالي يصبح فمه فارغا، قال لك: أنت حزين يا بني ...
ثم حشا فمه باللالوب مرة أخرى، واندس في شيخوخته، كنت تعرف إجابته مسبقا، لكنك فقط كنت تريد إثارة دهشته، أو كسب عواطفه، حقيقة أنك لا تدري، حقا لا تدري! لأنك لست في حاجة لإثارة دهشة هذا الرجل العجوز، النائمة في ضوء أيامه السوداء، لست في حاجة لكي توقظ دهشته، تلك الباردة الكسولة، من عهر وسنها، لكي تثبت لنفسك أنك موجود، وبإمكانك فعل شيء تجاه شيء ما، ولو مجرد إثارة دهشة! دهشة صغيرة خرفة، كما أنك لست محتاجا لعاطفة هذا الشيخ الهرم، الذي رغم قدم كتفيه وأدواته التناسلية ما زال يختلف إلى منزل جارته العانس ليحتسي وإياها فنجانا من القهوة بالقرنفل أو الهبهان، يخطر بباله أن يراودها عن نفسها، لكنه دائما ما يعدل عن رأيه في اللحظات الأخيرة الحاسمة، فيحدثها عن الرجال الإنجليز، حرب الصحراء الليبية أو مجاعة «سنة ستة» يقول لها كيف أنه كان فحلا تعشقه النساء، يسألها: هل لديك عشاء؟
يخرج وهو نعسان، ينام قرب معزاته وحماره المكادي، ليحلم بأطفاله الذين لا يدري وطنا لهم، لكنه لا يزال بإمكانه أن يتذكر هيئتهم وأسماءهم، فهم بنتان وولدان، وخامسهم كلبهم، وهو جرو، يذكر إلى الليلة كيف سرقه من أمه الشرسة، فأنت لست محتاجا إلى مثل هذه العاطفة الشائخة المعقدة والمرهقة من جراء تجوالها في البلاد بحثا عن لحمة تخصها؛ لأن مليكة شول مادنق أعطتك كل ما تمتلك من عاطفة، وما لا تملك أيضا، وباعترافك أنت وجعفر تأكد قولها.
قلب المرأة الجنوبية يمكنه أن يسع عشرة من الأفيال الأفريقية، وأن هذا القلب كله مملوء بالحب لرجل واحد ووطن واحد، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
صليت، حاولت أن تشرب شيئا باردا، أو ليكن صاليا كالجحيم، أشعلت سيجارة، أطفأتها، السماء كانت زرقاء، حاولت أن تحصي أكبر عدد من النجوم ممكن، ضحكت، تبولت تحت حائط هرم، تذكرت قصة قصيرة لكاتب يقول في المقدمة إنه حداثي، وإن طرائق كتابته تحتاج إلى ثقافة وسعة أفق وفهم لبعض مذاهب النقد الحديثة، بصقت. بصقت مرة أخرى، فكرت في العجوز الهرم القديم الجالس أمام منزله المهمل، وجهه القديم الجاف، شاربه الكث الأبيض، فكرت فيه وقلت في نفسك: لماذا لا يترك هذا الشيخ ما تبقى له من عمر قرب مربط حماره ويموت؟ لماذا يصر على الحياة؟ لكنك لم تسأل نفسك: لماذا تصر أنت على الحياة أيضا؟
لم تر ماجوك، لكن مليكة أرتك صورته، وأيضا الجمجمة التي أرسلها، جمجمة والده المثقوبة بطلق ناري التي هي الآن بدولاب مليكة شول مادنق، الأسود المغلق منذ وفاتها، وكنت تتخيله دائما ماسكا بجمجمة والده وهو يرقص رقصة شيطانية غاضبة، رقصة حرب حقيقية، هل يرعبك ماجوك؟ قلت لها: تخيلي أن بحرا من دماء السحالي يمر من هذه الناحية، دماء سحالي بارد لزج ونقي، تخيلي أن امرأة كانت تمر من هنا بهذا الطريق منذ مليون سنة، امرأة خصبة حرة، نقية كالخيال، امرأة كالقرنفل، تخيلي أن جيشا من الدهشة سكن هذا الطريق، جيشا سيفه أعور، تخيلي أن بئرا من العصافير ذات الأرياش الذهبية والغناء البنفسجي. عصافير ...
وغلبك الاسترسال في الاستعارة فأحسست بضآلتك وعقم روحك وقلت لها وأنت تبرد تدريجيا كريح شتوية: إن أحدهم ينتظرني في مكان ما، زمن ما، شجر ما، ينتظرني حاملا بندقية صيد آلية أو رشاشة توجه بالليزر أو حمامة مشوية، وفي فمها غصن زيتون ذابل. ربما ينتظرك وفي قلبه سلام حقيقي لست تدري، كنت بليدا كالنائم، تعبا كلحظة الحزن، قصيرا كالدهشة، سكيرا إذا، كنت تظن أن أمك تلك المرأة القصيرة البدينة الغنية الشحيحة هي السبب الأول والنهائي فيما أنت فيه على كل حال، قابضة على لا وعيك، محركة وعيك بشيطانية كما لو كنت بيدق شطرنج بين أناملها السمينة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت مرات عديدة أن تتعلم التدخين لكنك حتى الآن لم تحدد موقفا سلبا كان أم إيجابا.
Неизвестная страница
وأنت تجري نحو الذي ينتظرك. تتذكر جعفرا، جعفر مختار، تشعل سجائرك وتطفئها وتقول لنفسك كلاما أنت نفسك لا تفهمه، إلى أن أمسك بك رجلان، رجلان قويان بليدان، ولا تدري أن مليكة هي التي استأجرتهما، ألقياك على الأرض، سحباك سحبا كجوال الفحم إلى منزلك، ومليكة هي التي أوحت إليهما أن يربطاك، أنت تعي حقيقة أنك لست بالمجنون، ولا كنت تدعي الجنون في يوم ما، لكن في الغالب أن علاقتك بأمك هذه العلاقة المشوهة هي محصلة ما أنت فيه، هي لا تحبك ولا أحبتك في يوم من الأيام، حتى في أول نظرة ألقتها عليك وأنت طفل صغير، ترفس في الهواء كالجرو، وتتلوى ما أحست أنك ابنها، جرو لكلبة ضالة بالته في زقاق مظلم وواصلت جريها نحو الجيف المتقيحة، ولما لم تفق بعد أمك من آلام المخاض، صرخت في وجهك الصغير وعينيك المغمضتين: أنت غلطة العمر، ثم أخذت تنادي: أبعدوا عني هذا المسخ، أبعدوه.
وكأنها ما حبلت بك ستة أشهر ويومين، عانت فيك ما عانت، كأنها ما هيأت فراش أبوك في أمسية مثيرة، أغوته ببهاء الدلكة وعطر الصندل، أشعلت فيه نار الرغبة وهي تبدي له جموح جسدها في ضوء الشموع الناعسة، كأنها ما صرخت حين اشتعال لحظة اللذة في أعماقها وغور اشتهائها، كأنها ما نامت ليلتها تلك تحلم بك تكبر فيها، تنبت فيها، تحيا في دمها، أنت أيها المرفوض، ألم تقل لك: ما كان أحد من آبائك يرغب فيك ... كلهم كانوا ينشدون اللذة، فقط اللذة لا أكثر، إذا.
اذهب إليها واطلب منها أن تسامحك، أن تغفر لك خطيئة ميلادك، خطيئة أن تصر على الحياة وتظل باقيا إلى الآن، قل لها: أعيديني نطفة دافئة في صلب من تظنين أنه أبي، قل لها: ابصقي على وجهي ما يكفي من لعنات لكي أمسخ ذرة غبار فأهيم في فضاء لا نهائي، أو حدثها عن جعفر وأنت لا تدري ماذا يعني جعفر لأمك، جعفر مختار، لكنك لا تستطيع أن تقول لها شيئا ولا تقدر على مواجهتها بما تظن أنه الحقيقة، مدعيا أن لكل إنسان حريته الشخصية كاملة غير منقوصة، يكره من يشاء، يعز من يشاء، ولا يسأل إلا في حالة واحدة: إذا لم يكن حرا بقدر حريته، إذا كان عبدا في أعماقه، لكنك تحبها، تحبها جدا، وهذا حق شخصي لا تلام عليه، كما أنه من حقك الشخصي أن تطلق نعمة بنت خالتك؛ لأنها لم تسعك - أو على حد قولك - رغم أن أنها سمينة جدا، إلا أنها كانت أضيق من حلمي، وأنه أيضا من حقك الشخصي أن تتزوج مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء التي يسع قلبها عشرة من الأفيال وخرتيتا واحدا، ومن حقك الشخصي أن تتفاخر أمام الآخرين بأنه لا أب لك، أترى ما يقول الناس عنك في خلواتهم الخاصة، في مكاتبهم، مدارسهم، بيوتهم، في أفراحهم وأتراحهم؟ إنه رجل فاجر، وأيضا ابنته الجميلة، وعندما ينظرون إلى ابنك رياك يستعجبون قائلين: كيف لرماد أن ينجب جمرة؟
ولم تتمكن من إقناعهم بأن لكل رجل أخلاقه الخاصة النابعة من ذاته، من وعيه بالوجود ونظرته للعالم، وعيه بالعلاقة المعقدة لوحدات الزمن، وحدات المكان والإنسان، بفهمه لشفرات السلوك البشري من خلال ثقافته الحرة وامتلاكه لحريته بإرادته، إذا أنت ترى نفسك أكثر البشر صلاحا وتقوى، هل تريد أن تقول للآخرين قولك لابنتك منى: إن الداعرة امرأة فاضلة إذا كانت مقتنعة في حقيقة وعيها بأنها لا تمارس شيئا رذيلا أو نابيا، إذا لم تتناقض مع نفسها في فضيلة ما تفعل، هي إذا تؤسس لأخلاقها الخاصة جدا ويجب احترامها، هي إذا تؤسس لفضيلتها الإلهية، ويجب أن ينظر إليها كفيلسوف، إذا مثل الشعرة من العجين تنسل نقية من خطايا المجتمع؛ لأن خطاياه هي نتيجة نقضه لأخلاقه التي ارتضاها، أخلاقه التي أسسها، التي ليست أخلاقها، بالتالي ليست ملزمة بها، وبهذا الفهم يا محمد الناصر تصبح فيلسوفا صغيرا رعديدا لكنك بلا شك بك ما يكفي من الشجاعة لكي تصبح أول من يطبق نظريتك، وآخرهم أيضا؛ لأنه لا أحد يقبل أن يسمعك، لا أحد سوى ابنتك الجميلة منى، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تكوم رماد السجائر أمامك.
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، احتسيت قهوة مرة، قفزت إلى ذاكرتك آخر لحظة قضيتها مع مليكة، قبل موتها المفاجئ بالنسبة لك؛ لأنه أبدا لم يكن مفاجئا بالنسبة لمليكة ذاتها، أحسست بدفء صوتها المبحوح، وهي تهمس في أذنك: سأظل أشتاق إليك، سأظل أجري خلفك لأعيدك إلى المنزل، وأنت تجري بحثا عن الذي ينتظرك، سأظل أمطرك بالأسئلة، هل ستهرب من سؤالي أبدا بعد أن أموت؟
ولم تستطع أن ترد على همسها إلا بدمعات ساخنات قطرت من عينيك اللتين رأتا كثيرا من تصدعات الإنسان، عاصرتا مليونا من أعاصير الموت وعذابات الضحك والمسخرة، ثم انفجرت بالبكاء، مثل طفل جائع، ولم تتخيل نفسك أنه بإمكانك أن تبكي في يوم ما بهذا العمق، بهذه الحرية، أنت لم تحب في حياتك غير مليكة شول، فتاة الدينكا الحسناء، ذات الأرداف المملوءة بالأطفال والبافرا ولن تحب غيرها، حاولت أن تتذكر آخر لحظة حب قضيتها في فراشها، آخر قبلة، آخر همسة، آخر آخر، كان الرجلان قد أحكما وثاقك بحبل متين، قلت لهما: اتركاني، قالت لك مليكة: لا.
فتحدثت إلى ابنك رياك وابنتك منى بكل موضوعية فأفهمتهما حقيقة الإنسان أو الشيء الذي ينتظرك دائما في مكان ما، في زمان ما، قالت مليكة بشكل مؤكد: أنت موهوم ...
هي تفهمك أكثر من نفسك وتعرفك عندما تريد شيئا وتقول غيره، وعندما لا تريد شيئا وتبدو وكأنك تريد العالم كله، وأنت غامض بقدر وضوحك، مخبول بقدر عقلك، صغير بقدر كبرك، أنت قوي بقدر ضعفك، لكنك لست بشأن ما تعتقد أن تكون ولا بفهم ما تعتقد، ولست ضئيلا بما يجب لكي يتجاهلك الله. رأت منى في رجل الشجرة كثيرا ما كانت تفتقده فيك، وأهم ذلك الشجرة ذاتها.
أن تكون رجل شجرة؛ لأنك عندما التقيت مليكة لست أكثر من رجل حانة، أو ذلك الجالس قرب زجاجة العرق الزرقاء، هل تدري أن رجل الشجرة يفترش صدر ابنتك منى يوميا؟ نعم، أنت تعرف ذلك لكنك تتجاهله، مثلما تجاهلت حبوب الحبل المختفية التي كانت تخص مليكة، مثلما تجاهلت تساقط صدرها وارتخاء شفتيها وجفافهما وغيابها المتكرر عن المنزل، وكنت تختلق لها الأعذار، هل سافرت مع صديقتها في سياحة قصيرة؟ ربما تأخرت الليلة في الاستذكار، كم تبقى لامتحانات نهاية العام؟
وتحت باب الحرية الشخصية أيضا طالبت بالبحث عن الذي ينتظرك، صليت على عجل، قرأت سورة الكافرون.
Неизвестная страница
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، اعتذرت لك مليكة عما بدر منها من استئجار رجال أشداء لاصطيادك وربطك، قالت لك: لأننا نحبك ولا نريد أن تضيع، ثم أقرأتك جواب ملوال المرسل إليها من جبهة الحرب، ورأيت اسمك مكتوبا بخط ركيك لكنه واضح، يقرئك السلام والتحية ويقول لك: احتفظ بسلبيتك بشأن الحرب؛ لأنها ما أضحت حربا بين بشر، إنها حرب أشباح.
وكتب في موضع آخر: تعتبر الحرب بالنسبة لي انتهت، وما يحدث الآن هو مجرد قتال، قتال عنيف لا فهم له. وكتب أيضا بين قوسين كبيرين لأخته مليكة: إن الله مع الجانبين. هل كان يخاف على قلب أخته؟ استطعت أن تخفي ارتباكك ورماديتك وخوفك من عيني مليكة، سألك ابنك رياك عن أمور شتى، بشجاعة وصدق وصبر عظيمين، رغم أنك لا تزال تعتبره ولدا ساذجا بسيطا مندهشا بالظواهر، ولدا ورقيا ريحيا، منى يعجبها فيك أنك تحاول دائما أن تجد فهما للحياة خاصا بك، فهما لا يستطيع ابتلاعه غيرك وجعفر، يعجبها فيك ثقافتك، حريتك وسعيك المتواصل نحو نقطة أبعد عن مرمى البصر، تواضعك وأشياء أخرى تحبها لكنها لا تستطيع أن تقولها لك، وهي تراقبك عن كثب وأنت، وأنت تلاحظ بدقة انكسار جموح نهديها، نموها العقلي، خربشة أظافر الآخر على كتفها وظهرها، ذكاءها الاجتماعي ووعيها، تذكرت جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت أن تقرأ القصة القصيرة ذات المقدمة التنديدية، لاحظت أن اللغة فيها باردة ومملة ومتعبة جدا، بصقت.
أنت تحب كتب الفلسفة والديانات، الباراسايكولوجي، تحب أن تجلس على شاطئ النهر وحيدا، تقرأ الكون من حولك، وتحاول ما أمكن أن تقرأه نفسك، منذ أن ماتت مليكة شول مادنق، سبعة أعوام وأنت لم تشته امرأة، حاولت مرة أن تعانق ضفائر سيدة عطرة، لكنك وجدت نفسك عاجزا عن فعل شيء، كنت باردا كفحم في مخزن رطب مهجور، تذكرت قول مليكة لك: لن تستطيع أن تتزوج امرأة بعدي.
قلت لها ضاحكا حينها: غير صحيح؛ لأن الرجل لا يهتم كثيرا بمسائل تبدو لكم معشر النساء مهمة، فالرجال يتزوجون ويتزوجون، وقد لا يذكرون نساءهم الأول.
في الحق أنت لا تؤمن بما تقول، ربما في ذاتك كنت تود أن تقول عكس ذلك، لكن مليكة الجميلة فهمت ما أردت أن تقوله بالضبط ولخصته لك في جملة واحدة. لأني أحبك يا مليكة، فأنا رجل أمامك أنت فقط، رجل لك أنت وحدك، حية كنت أو ميتة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، أطرقت تفكر في خطاب الموازنة وإمكانية زيادة الدخل القومي بزيادة توظيف مدخلات الإنتاج وإيجاد حل سلمي للحرب أو إسقاط النظام القائم، بل إسقاط كل التاريخ، وإسقاطك أنت نفسك في نوم ثقيل مرعب. دخل إليك رجلان من الجيران، قال لك أحدهما: بالأمس مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظن البعض أنه والدك؟ قلت لهما: وهل أنا أبحث عن أب؟ قال أحدهما: إذا عرفنا لك أبا فربما استطعنا أن نستنطق البعض بأنهم شهدوا عقد قران أمك، بالتالي تصبح ابنا شرعيا. قال الآخر: مسألة مجاهرتك بأنه لا أب لك وافتخارك بذلك يسبب لنا ولكل الجيران مأزقا أخلاقيا، وأيضا لابنك الصالح رياك. فضحكت، حاولت أن تتبول، لكنك عدت من المرحاض كما ذهبت إليه.
قلت لهما وأنت لا تزال تتفجر ضحكا: إذا قدما لي التعازي، لقد كان أبي بالتأكيد رجلا صالحا أفنى عمره في حبه لكم.
ولا تدري لماذا ذهبت إلى والدتك في ذلك اليوم، حيث بادرتك قائلة وأنت تلج حجرتها: محمد الناصر، ماذا جاء بك؟
قلت لها وفي فمك ابتسامة صغيرة: لقد مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظنه البعض والدي. قالت ولم تبرح مرقدها بعد: أنت تبحث عن أب؟
فقلت لها: بل هم الذين يبحثون عن أب لي، يريدون شرعنتي، وإنهم يظنون أنفسهم موتى في مأزق أخلاقي!
إذا ينتظرونك لكي تبعثهم، أو على الأقل إخراجهم من هذا المأزق الأخلاقي، إذا اذهب وقل لهم : إن أباك هو الشيطان نفسه، الشيطان الذي يتبول في مناخيرهم كل ليلة وهم نيام، ويزني بنسائهم وبناتهم، ألم أقل لك ذلك من قبل؟ ماذا تريد مني؟ اذهب واسأل جعفرا، جعفر مختار، إذا شئت، ثم أضافت بكل برود: أنا حرة، لقد قالوا: إنك أيضا حر.
Неизвестная страница
فقلت لها وتخنقك العبرات: هناك فرق دقيق جدا بين الحرية والعبودية، فالمسألة مسألة فهم ووعي، الحرية في العقل، العقل يا أمي!
قالت بنفس برودها: أعلمك جعفر هذه الحكمة؟ فعندما تركتك ليس بإمكانك فعل شيء سوى الصراخ وكثرة التبول!
أشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرا، مثل هرة منعمة أمك، حادة الطبع ربما تعاني بطريقة أو بأخرى من مرض عقلي، ثرية، لا تهتم بشيء سوى نفسها، ونفسها فقط، وأنت ابن غير شرعي، ابن حرام، كما قال لك رجل صعلوك تشاجرت معه في خمارة في أيام المراهقة، المهم سفاحا أنجبتك من صلب رجل ربما التقيت أنت به في زمان ما أو في مكان ما، ولا ذنب لك في ذلك، ليست أمك هي المسئولة ولا حتى والدك، وأنت تختلق لهما الأعذار كعادتك، ولا تحب الخوض في هذا الشأن لأنه شأنهما وليس شأنك، فأنت وجدت بطريقة ما في هذا الكون، تحمل على كتفك مسئولية أن تحيا، وفلسفة أن تكون، ولا يهم بالنسبة لهذا الكون الكبير أن تكون ابنا شرعيا أو غير شرعي، قال لك جعفر، جعفر مختار: أنت تكره التحدث عن علاقة ميلادك، فأنت رجل حزين ومصدر حزنك عقلك، وما عليك إلا أن تعري نفسك أمام أفكارك، لتكون أكثر حرية وتجاوزا للأشياء، هذه الأشياء الصغيرة جدا والتافهة. لم تصدق نعمة زوجتك وابنة خالتك أن أحدهم ينتظرك وتحدثك قائلة: هذا الشهر كله دعنا نبحث عنه، فإذا لم نجده يجب عليك أن تعترف بسوء عقلك، ولا تقل لي مرة أخرى شيئا من هذا القبيل.
أحدهم ينتظرني، أحدهم يفعلني، أحدهم، أحدهم، أو تجري في الشوارع تبحث عن شبح لا وجود له في الواقع، سنمشي في كل الشوارع نبحث عنه. قلت لها: ربما يجيء بعد أن نغادر الشارع.
قالت: سنؤجر من يأتي خلفنا يبحث عنه حتى إذا جاء بعدنا وجده.
قلت: إذا جاء بعد هذا الأخير أيضا؟
قالت: سنستأجر من يأتي بعد الاثنين، إذا ماذا تقول؟
قلت: هب أنه وجده فكيف يعرف أن هذا الشيء هو الذي ينتظرني، الذي ينتظرني أنا بالذات؟ لأن من ينتظرني ربما كان شيئا مفاجئا، يوجد حيث لا يتوقع، وربما يوجد الآن بيننا، ربما يجلس خلف المنزل معطيا ظهره للحائط وهو يتبرز، أو يزرع بعض الفجل، ربما يقف الآن تحت الشمس يتقاطر من جبينه العرق في موقف الأتوبيس يتوقع قدومي بعد كل لحظة، وعندما أتأخر عن المجيء يلعنني في سره، أو يغني لحنا أجنبيا! ربما أكل الآن ما في جيبه من تسالي وآخر الأغاني الرخيصة التي بجعبته، وملت شفتاه الصفير، وأصبح فارغا كوجه رجل مغيب عن حقيقة الصراع اليومي والعلاقات أحيانا، كنت تظن أنه ينتظرك من أجل نفسه، لتجدد فيه قدمه وذكرياته، أيامه المخبأة خلف غيمة من الوهم، يريدك أن تؤسس له حياة جديدة مستقبلا حقيقيا بوعي حاضر، أو غير ما تعتقد! ربما كان نبيا مليئا بالأشياء الجميلة يحمل إليك بشارة وجودك، يجدد قدمك، يحررك أكثر ويزكيك أمام الريح، يصقل تجاربك، إنه على كل في انتظارك، قد يكون بعيدا جدا، بعيدا في آخر شبر من الكون، جالسا على كرسي يحتسي قهوة المساء، وحواليه بنيات حسان يعزفن القيثارة ويغنين له عنك وعن الحرب وابنتك الجميلة منى، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تمنيت لو كانت مليكة شول قربك الآن تضع الإفطار لابنيكما، وهي تغني ما لم تسمعه من أغنيات أهلها، في غابات المانجو والباباي، كنت ستسألها: لماذا لم أتمكن من الانفكاك منك، من شوقي إليك؟ وتخيلت ابتسامتها البسيطة المتواضعة العميقة، التي تظهر بياض أسنانها وورد شفتيها، وكيف أنها ستمتلئ بالنشوة النسوانية المثيرة، سألت رجلين جاءا من الحي وطلبا منك أن تقوم باستلام ما تركه الرجل العجوز؛ لأنك وريثه الوحيد.
من أين جاء هذا الرجل العجوز؟ ومن قال لكم إنه أبي؟ وكيف يوصي لي بممتلكاته وهو لم يرني في حياته؟
لكنك عندما أخذت تنقب حاجياته القديمة وجدت جواز سفر وبطاقة عسكرية بها اسم ربما شابه اسما قالت لك أمك يوما: إنه اسم أبيك، سكرت، حاولت أن تنام، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
Неизвестная страница
هذا سفر التي هي: مليكة شول
طالما لم تتزوج البنت، يا ابنتي مليكة، طالما لم تتزوج البنت فإنها ستظل قلقة إلى أن تصطاد المحب، لكنها ستظل قلقة إلى أن يخطبها، لكنها ستظل قلقة إلى أن يتزوجها، من ثم يبدأ هو مشوار القلق نيابة عنها، وهذه هي مشيئة دينق الرب الواحد الكبير، هكذا تكلمت جدتك نياندنق: إن القلق امرأة وخلق دنق الرجل حمارا لحمل القلق عنها، لجامه الحب، عصاه الأطفال، كلما كثر الأطفال كلما كثرت العصا التي تنهال على ظهره ضربا دافعة إياه على السير قدما، وعلى ظهره امرأة أو القلق! وكلاهما واحد.
هكذا كانت تعلمك جدتك العجوز نياندق وتقول لك: غدا عندما يقع شاب في شباك جمالك ويعرف قيمتك، سيحمل عنك هذا القلق الذي يحرق قلبك الآن.
ولو أن القلق الذي كنت تعانين منه لم يكن أبدا في شأن مستقبلك أو في شأن الرجل، كان قلقا ينبع من غور قصي في ذاتك، فيك أصيل، وكأنه عضو خلقه الرب فيك، قلق لا فكاك منه، ومهما قوي ظهر الرجل حمار قلقك الذي ينتظر، فإنه لا يستطيع معه صبرا أبدا.
جدتك نياندنق ذات السنوات التسعين والسن الواحدة، مات في حضنها خمسة رجال، ولا تزال حية كساق المهوقني، قوية تزأر بصوتها الجهوري فتسمع القرية من الغابة إلى النهر، من التوج إلى شجرة النمور الثلاثة، ما بعد المستنقع الكبير أباب دير، قيل إنها كلما مات أحد أزواجها احتفظت بصوته، جدتك القاسية على نفسها، عاشقة الصبايا، زهور الموز، كما تسمي صبيات الدينكا الحسناوات، ذوات السوق الطويلة الملساء، سوق الزرافات، أعناقهن الجميلة المحلاة بالعاج والودع والخرز الملون، المجلوب من بلاد نيجيريا ويوغندا وأفريقيا الوسطى، المتوارث، البنيات الراقصات الرقيقات، بأذرعهن المرسلة كأغصان أشجار المانجو، كانت تجالسهن، تحكي لهن عن الماضي الغابر الجميل، عندما كانت تتحدث الأشجار والحيوانات مع البشر، وكانت الشمس والقمر والسماء جميعا تسكن الأرض، قبل أن يطردهم الرب أو ينفيهم بعيدا في الفضاء. وكانت تسقيهم العادات والتقاليد والقيم النبيلة في كئوس من الأحاجي والقصص، وأيضا الشعر المغنى. كانت نياندنق عرابهم، فما كنت أنت مليكة شول مادنق التي أنشأتك جدتك على إيقاع حكمة السلف، وعلم الأب الأكبر دينق، تحلمين في يوم ما بحياة مثل التي تعيشينها اليوم، حياة صاخبة بجنون زوجك محمد الناصر، حيث لا ثابت! وأنت التي كنت تهيئين لأن تصبحي زوجة دينكا مثالية، لدووت منغار، تقدسينه تحترمين زوجاته الأخريات، كاحترامك لأخواتك، تنجبين له كثيرا من البنات، ذوات السيقان القوية الطويلة، بعض الأولاد، تحلبين أبقاره، تصنعين له السمن والمريسة، عرق الموز في الأعياد والمناسبات الكبيرة، عند القيلولة، تنتفين شعر عانته بالرماد، تقشرين له قصب العنكوليب، إذا آب للفراش تستجيبين لغزله، مثل دجاجة خجلة تنزلقين من بين كتفيه الكبيرتين القويتين، ثم تستسلمين له طاعة، كلك رغبة وكلك تمنع، في هدوء القرية ووداعتها، موسيقاها الاحتفالية، مهرجانات أباب دير المقدسة، بين أشجار الباباي والمهوقني والمانجو تخلفين له أجيال الدينكا القادمة، تغزلين جلابيب الفجر بأغنيات الخلود، خلود الوطن كله، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي سفنك، عندما أتى خبر الحرب مع رياح الخريف.
قال الشيوخ من بين أسنانهم القديمة الهرمة وهم يبصقون التمباك على الأرض: دعوه، فقد لا تؤكده الأمطار.
فنمتم في فراغات الطمأنينة، تطردون الخوف مع ريحكم خارج الجسد، وعندما عاد خبر الحرب مرة أخرى محمولا على قطرات المطر، باردا ومدهشا كالصقيع، قال الشيوخ وهم يضعون مرة أخرى عجين التمباك بين شفاههم الغليظة ولثتهم الحمراء: دعوه فقد لا تؤكده الأعشاب التي ستنبت عندما ترتوي الأرض.
لكن!
ما إن رفعت الشجيرات الصغيرة وعشيبات الخريف رءوسها من صدر التراب، حتى فرقعت السماء بمدافع الهاون والراجمات، ولو أن الماجوك الكبير أكد.
لا يمكن أن ينزل الشيطان بقريتنا، فقد خصنا الرب دينق بالأمن والسلام، إلا أن الشيطان الآن يتبول على رءوسكم حمما وشظايا من الحديد والنار لا عهد لكم بها فتدهشكم ولما تفيقون من دهشتكم بعد تشردكم ولما ترجعون من تشردكم بعد، تقتلكم، وحتى الماجوك الكبير الذي بإمكانه أن يتنبأ بكل حوادث التاريخ التي سوف تحدث منذ ميلاده إلى موته، الذي تنبأ بهجرة الأفيال إلى بلاد بعيدة، وموت أسود الأبقار، وأيضا استطاع أن يعرف قبل وقت كاف من موت رث الشلك، بأن رجلا عظيما سيسقط كما يأفل النجم، فاليوم يفاجأ مفاجأة كاملة ببول الشيطان المتدفق من السماء حمما وشظايا، على مراقد أطفاله، مربط الأبقار، بول من النار ولم يدر هل يحمي أطفاله، أم يحمي أبقاره، أم يحمي نساءه، أم يحمي بنيه، أم يحمي جيرانه، أم يحمي رعيته، أم يحمي نفسه، وكيف؟
Неизвестная страница
بأي تميمة؟ بأي طوطم؟ بأي دعاء؟ أو بأي رقصة؟
فقد تميمم، تطوطم، تدعى، أيضا رقص قبل أن تسقط على رأسه الأصلع القديم قذيفة هاون فتمزقه إربا إربا، مليكة شول ما كنت تصدقين أن رب العرب جيرانكم، سيسري بهم في لياليكم المقمرة، إلى أروقتكم الصغيرة البريئة فيحرقونها، وهم يصرخون بكلام لا تعرفونه: الله أكبر، الله أكبر.
عندما عرفت معناه بعد أعوام سألت نفسك في براءة سلحفاة، هل نحن كفار؟ مثلنا مثل الشياطين وأرواح الظلام، يرمي بنا في الحياة القادمة في النار! سألت أيضا زوجك محمدا الناصر: لماذا حرقت القرية وقتل الماجوك، لكنه كالعادة أجابك بقبلة عميقة، امتص فيها شفتيك، كأنه يود ابتلاعهما، لقد كنت تقدرين موقف أخيك ملوال، أخوك الأكبر عندما انضم لجيش الحكومة في 1982 من أجل وحدة الوطن، من أجل أن تنام عصافير غابات المانجو في الجنوب، من أجل شتلات البرتقال في الغرب، من أجل أن يرعى بعيرا بين أشجار الأراك في الشرق، من أجل أن تنضج ثمار الباباي، لكي يفطر بها الأطفال، الأطفال السمر وهم يقبلون الشمس غدا، غدا القريب من أجل تمرة في الشمال، تمرة يتقاسمها أطفال الخلاوي وهم يرتلون سلام الله، كان يرى - هذه وجهة نظره - أن لا سبيل إلى الوطن الآمن إلا من خلال الجيش المركزي، جيش الحكومة! وهذا نفس ما كان يراه أخوك الأصغر ماجوك، الذي انضم إلى جيش الغابة، من حقك أن تسألي محمدا الناصر، أو جعفرا سؤالك لنفسك: لماذا يحارب جيش الحكومة باسم الله والدين؟ هل أخي ملوال - وهو يؤمن بالماجوك وكجوره - الآن يحارب مع جيش الحكومة، هل هو يحارب باسم الدين أيضا، بأي دين؟ أم هو يحارب باسم الماجوك، كيف؟ هب أن ملوال قتل في هذه الحرب، أيدخل الجنة، أم يدخل النار؟ هل يموت شهيدا أم يموت كافرا؟ إذا ضد من يحارب ماجوك؟ إذا ضد من يحارب ملوال؟ ضد من يقف الله؟ مع من يقف؟ وأنتما تعرفان أن أخي ماجوك الذي بجيش الغابة هو المسلم الوحيد بالأسرة كلها، لكنك يا مليكة يا امرأة الرصاص والبافرا لا تجدين من يستمع لصرخات سؤالك غير رأس واحدة، مدفونة بالرمال، رأس محمد الناصر أحمد، زوجك، أما جعفر مختار نفسه فإنه دائما ما يؤكد لك أن أطلقي علي الرصاص، ولا تسأليني سؤالا لا إجابة له، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، قلت لنفسك: جعفر يعرف كل شيء، لكنه لا يفرط في سبيله لأحد، كان صوت محمد الناصر يأتيك من داخل مكتبته: الشاي، الشاي يا مليكة.
ثم فاجأك كعادته: أريدك الآن! في هذا الآن بالذات. - هل جننت؟ - لماذا لا تذهبين معي للفراش؟
قرأت من ذاكرتك خطاب ملوال، وأنت بين ذراعيه توقفت كثيرا عند عبارته: أنت تعرفين يا مليكة أنني ما أزال في دين دينق، ومعي في الجيش الأرب، وهم مسلمون والأغلبية، ومعنا مسيحيون وهم من قبائل النوبة والجنوب أيضا، لكن ما يحدث في هذه الحرب حيرني يا مليكة أختي، أهي حرب للمسلمين ضد جيش الغابة؟ أهي للمسلمين ضد المسيحيين؟ أهي حرب للمسلمين والمسيحيين ضد المسلمين والمسيحيين؟ أهي حرب ضد الغابة، ضد الصحراء؟ أهي حرب سياسية؟ أهي حرب؟
حقيقة أنا محتار يا أختي مليكة، إن هذه الحرب غير مفهومة إطلاقا، أنا خائف، خوف لا أفهمه أيضا، فاجأته وهو في ذروة نشوته: ما هو رأيك في الحرب؟
فضمك بشدة إلى صدره، أصدر مواء باهتا، عرق قليلا ، قبلك، كان القذف عنيفا وقويا، قعقعة الرشاشات لا تزال تضج في رأسك، تراخت ذراعاه، ثم نام.
عندما رأيته أول مرة قرب زجاجة العرق، في تلك الأمسية، ما كنت تصدقين حتى ولو همست في أذنك عرافة قائلة: ذلك الرجل ذو البشرة الصفراء النحيف، بشعره الكث، المبعثر، نظراته القلقة، سيجارته المطفأة دائما، سيكون زوجك، وستنجبين له بعد سنة من الزواج رياك، ثم بعد عامين آخرين ابنة خلاسية جموحة أجمل من جداتها كلهن، شماليات كن أو جنوبيات، فاجأك قائلا: هل تتزوجيني يا مليكة؟
قلت بعفوية: لا، لا ...
قال لك وقد فاجأه عنف رفضك: لماذا؟ هل أنا قبيح إلى هذه الدرجة؟
Неизвестная страница
قلت كالمنومة لكن بصدق كبير: لا، لا.
أنت عرب ونحن دينكا.
نحن دينق وأنت محمد.
نحن جنوب وأنت شمال.
ضحك، ما زلت تتذكرين تلك الضحكة التي زعزعت إيمانك بكل ما تعلمته من جدتك ذات السن الواحدة والأعوام التسعين، نياندنق، ضحكته التي تخافين منها وتعشقينها، في ذات اللحظة، تهربين منه خلف بيوت الخيش والطين اللبن وأكواخ الصفيح، وتسلمينه مفاتيح لذتك، في ذات الوقت الذي ما كنت تدرين فيه هل الذي أمامك الشيطان أم هو الملاك؟ أم مجرد ضحكة، ضحكة دمرت كل الثابت والمعروف المعطى البديهي والمؤمن به؟ ضحكة شردت بلادة طمأنينتك وغربتك للأبد، أولا كان الاختلاف: أين وكيف يتم عقد القران؟ في الكنيسة أم في الجامع، أم عند الكجوري الذي هو راعي القبيلة بالمدينة؟ وكان رأيك واضحا: أنا لا أذهب إلى الكنيسة ولا إلى المأذون، أنا ديني هو دينق.
لكنه كان ذكيا وخبيثا في ذات اللحظة، عندما أقنعك بأنه سيتزوجك مرتين: عند كبار قبيلتكم وشيوخكم والكجوريين، ولو أنه أضاف: لكنني لا أستطيع أن آتيك ولو ببقرة واحدة، فأنا فقير، لا أملك ديكا، ثم قال إنه سيتزوجك مرة أخرى عند المأذون زواجا إسلاميا بشريعة محمد، فقبلت، قبل أقاربك الفكرة مؤكدين أنهم لا يتنازلون عن الأبقار، يعتبرونها دينا في عنق محمد الناصر وفي عنق أبنائه من بعده إلى حين يتم دفعها.
فقال مبتسما: لا بأس أن يدفع الأحفاد نصيبهم من مهر جدتهم مليكة، هذا غاية العدل، في الحق يا مليكة شول مادنق، كنت ستوافقين على الزواج من محمد الناصر بدون قيد أو شرط لأنه لا وقت لديك للعقيدة، العادات والطقوس، فقد كنت فقيرة مشردة، لاجئة، تعلمت في هذا الواقع أن بلدا غير بلدك، امش فيه عريان.
لا تنكرين أيضا، حبك الجنوني له، حتى إنه عندما قال لك: أنا لا أعرف لي أبا، وأمي امرأة غنية ومجنونة تكرهني، ربما أنا أحبها ولا ألومها على شيء، لا أعرف عن حياتها شيئا غير الهوامش، لم تتمكني من فهم قوله، أو ما كنت في حاجة لفهم ما يقول، طالما لا يوجد شيء يمنعه من الزواج بك، عندما قال لك: أنا متزوج من امرأة سمينة بيضاء البشرة، أمها أخت أمي.
قلت له: الدينكا أيضا مزواجون، سأحترمها كأخت لي كبيرة، كما علمتني نياندنق سأطيع أوامرها، وسأخدمها، إلا أنه عندما فاجأك ذات يوم قائلا: لقد طلقت اليوم نعمة زوجتي.
لا تنكرين فرحتك الكبيرة حينها، التي لا تحدها حدود الأخلاق أو التربية والتقاليد، فرحتك التي تهدمت تحت مناكبها كلمات نياندنق، وآلاف الحكم التي تمجد امرأة الزوج الكبيرة، قلت في نفسك: الآن، الآن أمتلك رجلا كاملا، رجلا لي وحدي، ثم قلت وبعينيك غنج حلو: هل ستتزوج امرأة أخرى؟
Неизвестная страница
قال مسالما كحمل يشتم عشبة برية غريبة: أنت المرأة التي كنت أبحث عنها في النساء، حتى في نعمة نفسها.
ثم حدثك عن جعفر، جعفر مختار، عن مدن كثيرة زارها، وجعفر في الشرق والغرب والشمال، أيضا في الجنة، قال لك: لا يعرف أحد عمر جعفر بالضبط، لكنه يقول إن عمره يتجدد بشكل مستمر إذا التقى امرأة جميلة أحس في قرارة نفسه أنه كان يبحث عنها، وعمره يتساقط بشكل مستمر إذا اكتشف أن المرأة الجميلة التي التقى بها قبل قليل كانت المرأة الزيف، المرأة التي كان يهرب منها، فقلت له بكبرياء وغرور: إذا عمرك سيتجدد الآن؟
قال مندهشا: أحقا ما تقولين؟
حدثك عن بلد لا نساء فيها، عن بلد كلها رجال، عن رجال ينجبون الأطفال، نساء لا يلدن، وقال لك: هذه بلاد لا يحلم بها جعفر مختار، فتأكد لك أنه قد نعس، وحكى لك عن أشياء مما اعتبرتها فيما بعد كراماته، وما يدل على أنه رجل صالح، قام، تبول، اكتفى بشبح ابتسامة وهو يقول لك: ماذا يعجبك في؟ قلت له: الإنسان، قال لك: أتدري ماذا يعجبني فيك؟ قلت وأنت تضحكين من أعماقك: أعرف.
لكنك فيما بعد وددت لو أنك قلت له: لا أدري.
حدثني بما يعجبك في، ربما كان ما يعجبه فيك أمرا مخالفا لما في رأسك، هل كنت تعرفين أن هنالك شيئا بعينه يجذبه إليك؟ كانت جدتك نياندنق تقول لك دائما: رجل الدينكا يحب المرأة ذات الساقين الطويلتين والأذرع الفروع اللينة، والعنق الطويل لأنها ستنجب له أولادا أقوياء، لهم قامات مديدة كأشجار المهوقني، أقوياء يصرعون أقوى الثيران، بقبضات أيديهم.
أشعل سيجارة، أطفأها، صلى المغرب، ذهبتما لسينما القصر حيث شاهدتما فيلم الشبح الأمريكي، قال لك: جعفر رجل جميل، إنسان سيحبك كثيرا؛ لأنه بلا شك يعرف عنك الكثير.
لكني لم أره من قبل ولم يرني.
هذا ما يؤكد أنه يعرفك، فكلما كان عنك بعيدا هو قريب منك، بصورة لا تتصورينها، أنا أعرفه جيدا؛ لذا أجهله جدا؛ لأنه صديقي فهو أغرب الناس عندي!
عندما بدأت تفهمينه صمت قليلا، ثم توضأ فصلى صلاة العشاء، كالعادة تناول النشا الذي أعددته له من الذرة والعسل، ثم أخذ يصلي مرة أخرى، بعد أن فرغ من صلاته الأخيرة بدأ برنامج تعليمك أصول الدين الإسلامي، كعادته كان حرا وهو يقول لك: ليس واجبا عليك أن تدخلي الإسلام، أنا أعلمك من أجل ألا تجهلي شيئا مهما في حياتنا اليومية في هذا البلد، أما معرفتي أنا بكجوركم لا يلزمني الإيمان بها واعتناقها، كنت تجلسين أمامه كتلميذة نجيبة تحب معلمها وترهبه في الوقت نفسه، عندما سألته عن دين الأولاد؟ قال: دعيهم يكبرون أولا، يثقفون أنفسهم، ثم يختارون دينهم أو ديانتهم، نحن أنجبنا أجسادهم، والله هو الروح، وهو الجسد أيضا وله شأنهما، فلن نقيد أحدا بخياراتنا، دينهم لهم هم، ملكهم وهم ملك الله، ثم أضاف: إن احترامنا لأنفسنا يحتم علينا احترامهم، ثم قال لك ذات يوم: هل تتحرجين إذا حدثتنا منى عن فتاها رجل الشجرة؟
Неизвестная страница
ونادى ابنته منى، جلست قربه بأدب محاولة جذب فستانها القصير لأسفل بعض الشيء، وكان بوجهها قناع أبيض من كريم لا تعرفانه، له رائحة قريبة جدا من رائحة الكبريت، وكانت نفاذة وكريهة فسألها: ماذا بوجهك، هل هو كبريت؟
قالت في دلال: إنه خلطة من كريمات كثيرة، من بينها الكبريت وبعض مراهم العيون والفيتامين. - إذا ما فائدتهما؟
قالت بصراحتها المعهودة: كل البنات يفعلن ذلك، إنه يجعل الوجه أبيض وناعما وشجعني على ذلك رجل الشجرة، رجل الشجرة نفسه، نعم يا أبي؛ لأنه أكد لي أن جمالي سيتضاعف إذا فعلت ذلك، وأنه سيحبني أكثر. - وهل ستواصلين في ذلك؟
قالت وفي فمها ابتسامة صغيرة: لست أدري، دعني أرى النتائج ولو أن رائحته التي تشبه الفساء تشعرني بالغثيان.
فقلت لها أنت: ماذا لو كانت بشرتك سوداء تماما كبشرتي هذه، هل كنت ستغسلين وجهك بحامض الكبريتيك؟
وحاولت أن تنصحيها بعدم فعل هذا، إلا أنه قال لك: دعيها، ولو أن لونها أصلا في تناسق تام مع ملامحها، وأنها جميلة من غير كريمات، إلا أنه شأنها، والوجه وجهها، دعيها لتتعلم من التجربة، ليس من حقنا حرمان أحد فرصة أن يجرب، أن يكتشف الأشياء بنفسه، وليس أيضا من حقنا أن نسألها: ماذا عن يديها ورجليها؟ ماذا عن بقية جسدها أو من اشترى لها الكريمات؟
ضحكت ابنتك الجميلة وهي تقول: أنا أشكرك يا أبي، ولو أنك تحاول أن تسألني، إلا أنك سألتني الآن، وأنت تعرف معظم الإجابات، فقط أريد أن أقول لك: إن رجل الشجرة الذي اشترى لي هذه الكريمات، ولو أنني أعرف أنك لا تمانع في شرائها لي، إلا أن رجل الشجرة طلب مني ألا آخذ منك ثمنها، وأنه أبسط ما يقدمه لي من هدية هذا الكريم العفن، وإكراما له أنا أستخدمه الآن.
حينما ثرت أنت واتهمت محمدا الناصر وجعفرا بأنهما أفسدا منى، أفسداها تماما، وقلت له بشكل قاطع: ليس للأطفال حرية، فهم لا يعون شيئا ولا تجارب لهم، ولا يفهمون ولا يعرفون ما يضرهم ويصلحهم، وأننا مسئولون عنهم، لكن رد عليك بكل ثقة: لذا دعينا نعطيهم الفرصة للمعرفة، والتجربة هي سبيل المعرفة، ليس الكلام وليس الضرب، كما أن منى لم تعد طفلة، ولا حتى رياك طفلا، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، وكنت بحجرة النوم عندما كان هو وزوجك يلعبان الشطرنج بالصالون، بين الحين والآخر تسمعين غناءهما، كان غناء حلوا، ولم تسمعي به من قبل، قلت لنفسك: ربما ألفه جعفر ولحنه محمد الناصر، لكن في الحقيقة لم يؤلفه ولم يلحنه الاثنان، لكن رجلا راعيا بقرب النهر، هو الذي قام بتأليفه وتلحينه أيضا، وسرقه منه جعفر وأتى به إلى محمد الناصر، ولو أن محمدا الناصر رفض غناء اللحن في بادئ الأمر، مدعيا بعدم شرعيته لأنه مسروق، إلا أن جعفرا أقنعه بأن الراعي نفسه قام بسرقته من أغنامه، قام جعفر بتحليل نغمات اللحن ورجعها إلى أصولها التي لم تكن سوى ثغاء ونباح ونهيق حماره العجوز الأزرق، مضافا إليه حفيف الريح وزقزقة ود أبرق، واقتنع محمد الناصر وغنى اللحن، ثم أخذا في الرقص، وأيضا ما كان محمد الناصر يريد أن يؤدي رقصا مسروقا، لكن جعفرا حلل له الرقصة، أعاد حركاتها إلى أصولها الأولى، ولم تكن سوى بصبصة ذيل كلب الراعي، ونوس غصن كان يظلله دائما، ورفسات حماره بالجوز في الهواء، عندما يشبع من ثمار شجرة المسكيت، واقتنع محمد الناصر ورقص، ثم أخذا في إنشاد الكلمات شعرا، وأيضا ما كان محمد الناصر يريد أن ينشد شعرا مسروقا، لكن جعفرا أقنعه بالإنشاد، بعد أن قام بتحليل الكلمات وبنية النص، وردهما إلى أصولهما من الطير والقرآن والماء، تذكرت جعفرا مرة أخرى، كان الوقت منتصف الليل عندما استيقظت على إحساس بأن ماء رجل قد قذف فيك، وكان محمد الناصر نائما يشخر بانتظام، فتأكد لك أن ذلك من فعائل جعفر، وقلت لنفسك لا بد أنه الآن يستمني في بيته؛ لأنك تدركين أن جعفرا إذا استمنى على صورة سيدة ما، فإن ماءه سيدركها أينما كانت، فأيقظت محمدا الناصر، وأريته ماء جعفر الذي ما زال يسيل منك، فضحك وهو يقول: خائن، سأنتقم منه غدا.
ثم نام ليعود إلى شخيره بعد لحظات وجيزة، كنت تعرفين أي نوع من الانتقام سيطبقه محمد الناصر على جعفر، لا شيء، فقط سيجبر محمد الناصر جعفرا على غناء أغنية هابطة ورقص إيقاعها المستهلك، ثم يذهبان إلى شاطئ النهر ليلتقيا بالراعي العجوز وأغنامه وولد ابنته المشاغب الكسول، أو يلعبان الشطرنج وهما يغنيان لحنا مسروقا آخر، لقد كان جهدك عظيما يا مليكة شول في أن تجعلي من ابنتك منى سيدة مجتمع فاضلة، مربية تربية قبلية محافظة، كنت تودين أن تخلقي منها سيدة دينكاوية في ملامح شمالية، إلا أنها كانت دائما منجرفة خلف والدها محمد الناصر، بجنون فعلي، إنها تحبه وترى فيه مثلها الأعلى، ولا ترى فيك غير سيدة قديمة من بقايا عصور ما قبل التاريخ، ولو أنها تحبك أيضا لكن أبدا لم يقنعها أسلوبك في الحياة، ذلك الأسلوب المحافظ. قلت لمحمد الناصر: ما هو رأيك في الحرب؟
دفن وجهه بين نهديك يشمم عبقك الأنثوي القوي وهو يقول لك بصوت طائش ويتحسس بأنامله الخرزات المنظومة حول خصرك: إن الله مع الجانبين، إنه على كل شيء قدير.
Неизвестная страница
لكنك أيضا لم ترحمي ضعفه، فقصصت عليه قصة الجدي وأسد الأبقار الجائع، التي حكتها لك جدتك نياندنق، كان أسد الأبقار العجوز يعاني من جوع مستطير لازمه ثلاثة أيام بلياليها الباردة الطويلة، فكان تعبا ومرهقا ليس لديه أي مقدرة لمطاردة فرائسه، بل هو نفسه قد يصبح فريسة لحيوان جبان، مثل الضبع، إذا علم بأن لا قدرة للأسد العجوز، فدعا الأسد العجوز ربه أن يرزقه مأكلا، أثناء ما هو يجرجر أقدامه بين شجيرات الغابة، إذا به يرى جديا جريحا تحت شجرة، فعندما نظر الأسد إلى الجدي، حاول الجدي أن يهرب، لكنه لم يستطع لأن قائمتيه الخلفيتين مكسورتان، فدعا ربه دعاء سريعا بأن ينقذه من الأسد العجوز الجائع، ثم سألت جدتك: تخيلي ماذا ستكون نهاية القصة؟ ولا تتسرعي في الحكم، متبعة العاطفة.
قلت: لا أعرف كيف تكون النهاية.
قالت لك وهي تبتسم ما أمكن: هذا ليس بامتحان للرب، لكن إما أن يكفر به الأسد إذا تمكن الجدي من الهرب، رغم جرحه وقائمتيه المكسورتين، وإما أن يكفر الجدي إذا تمكن الأسد العجوز من التهامه رغم دعواته الصادقة النابعة من رعب حقيقي ومؤكد، إذا بقدر كفر الأول يكون إيمان الآخر، قال لك محمد الناصر: أرجوك لا تسأليني مرة أخرى، وإلا سأعتبر سؤالك لي عن الحرب ليس سوى دعوى صريحة لمطارحتك الفراش، وهذا يتنافى مع تقليديتك ومحاولتك أن تظلي امرأة خجولة، هل اتفقنا على ذلك؟ فقلت له بإصرار: لا.
قال: فلنعتبر ذلك إعلانا للحرب من جانب واحد، وإعلانا للحب من جانب آخر، فأعدك بأنني لن أكسر بندقيتك، وأرجوك ألا تقتلي حمائمي. لم تهمتي كثيرا بقوله، أو لم يحرك فيك قوله ساكنا، واعتبرت أن ذلك ليس إلا أسلوبا جديدا للهرب ودفن الرأس في الرمال. طلقة جيم ثلاثة طائشة جرحت ماجوك في رأسه وكادت أن ترسله إلى سلفه، في حياتهم الأخرى تحت الأرض، إلا أن أرواحهم المباركة دفعت به مرة أخرى نحو الحياة الدنيا فعاش، لكنه ظل طريح الفراش لشهرين بمستشفى الميدان المتنقل تحت قعقعة الرشاشات، قذائف الهاون، ورعب الصمت الموقوت.
وعندما أرسل إليك طالبا أن تزوريه بالميدان؛ لأنه يريد رؤيتك أنت بالذات قبل أن يموت لم تذهبي، فكنت خائفة من أن تتهمي بالتخابر مع جيش الغابة، وأيضا تخافين الموت، وأشياء أخرى مخبأة فيك مدفونة في عمق سحيق، وما أكثر ما هو مدفون في صدرك الناهد يا مليكة شول مادنق، حسناء الدينكا!
كان دائما ما يحكي لك عن جعفر، وفي الحق أنت لا تعرفين جعفرا جيدا، وما هو جعفر بالنسبة لمحمد الناصر، هل هو صديقه أم هو أخوه، أم هو أبوه، أم ابنه؟ من ابن من؟ من منهما أكبر عمرا؟ لأن لا أحد بإمكانه تقدير عمر جعفر، مجرد تقدير، غير أن جميع الناس يتفقون على أنه ليس طفلا، وليس مراهقا، كما أنه ليس عجوزا هرما، قد بلغ من الكبر عتيا، لكنك كنت متأكدة بما لا يدع مجالا للشك، أن محمدا الناصر زوجك، هو تلميذ وفي لجعفر، ولو أنه قال لك ذات مرة: أنا تلميذه وأيضا أستاذه!
الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، ولا أثر لرياك، فما كانت من عاداته أن يتأخر لهذه الساعة من الليل، فكنت قلقة بشأنه، ولو أن محمدا الناصر كان يقول لك: البلد آمن، ولا يوجد آكلو لحوم البشر بالمدينة، وحتى إذا وجدوا فإن ابنك رياك ليس من النوع الذي يؤكل هكذا بسهولة، كقطعة موز مقشرة، فقد يكون في صالة للهو، أو مع أصحابه يغازلون النساء.
فقلت له نافية: أنت لا تعرف رياك جيدا، فإنه في الآونة الأخيرة أصبح أكثر أبناء الحي استقامة، يكفي أنه يؤدي صلواته كلها في الجامع.
قال لك ضاحكا: الآن يبدو أنك أصبحت مسلمة، أليس كذلك؟
فقلت له: ألم تعلماني أنت وجعفر أن أقيس كل فرد بسبيله التي ارتضاها، وأخلاقه التي أسسها لنفسه؟
Неизвестная страница
إنه يشبه خاله ماجوك في تدينه، وأيضا في ملامحه، كما هي في صورته التي أرسلها لك مؤخرا من يوغندا، حقيقة إنه دائما ما يذكرني بخاله، أخي ماجوك.
قال لك مداعبا: أخاف أن يهرب للغابة هو الآخر. - لا أظن.
أما رياك فيميل إلى أفكار تنادي بها الحكومة، لقد حدثني بذلك هو نفسه، فإنه لا يرى في خاله ماجوك سوى رجل خان وطنه. - أحقا ما تقولين؟
ولم يقل شيئا آخر في شأن رياك، وفضل أن يقول لك إنه - أي محمد الناصر - حاول أن يتعلم تدخين السجائر، لكن لسوء حظه - أو لحسن حظه - فشل في أن يجذب نفسا واحدا إلى داخل رئتيه، ولو أن جيبه لم يفرغ من علبة السجائر المملوءة، وإن كانت سيجاراتها جميعا مشعلة ومطفأة، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرا، جعفر مختار، قال وكأنه تذكر شيئا مهما: أذكر أنني وجعفرا كنا نسير بشوارع المدينة، عندما لفت انتباهنا - كما لفت انتباه الجميع - رجل وسيم جدا، يصطحب امرأة في غاية القبح والدمامة، يمسكها من يدها ضاغطا على أناملها الغليظة، بحنان فائق واضعا على شفتيه ابتسامة ساحرة، فقال لي جعفر: انظر هذا أكثر رجل أناني في العالم.
قلت مندهشا: إلا أنه أكثر الناس تضحية، ألم تلحظ تلك المرأة القبيحة التي رغم وسامته يصطحبها غامرا إياها بحنانه وإنسانيته وابتسامته، قال جعفر وفي فمه نصف ابتسامة: إنه ليس وسيما، هذا هو السبب الذي جعله يمسك بهذه المرأة الدميمة، إنه يريد أن يبدو وسيما لا أكثر، خذ عنه هذه المرأة وانظر إليه فإنك لن تجده أكثر وسامة من قرد الطلح! - لكن لم نجرؤ على أخذها منه، له جسم رياضي قوي، كان في ريعان شبابه، مما جعلنا نخمن أنه يجيد الكاراتيه وفنونا قتالية أخرى.
قلت له: هل تقصد أن ابننا رياك تبنى آراء الحكومة للتحسين من صورته هو؟
فقال لك ناكرا: هذا حدث لنا بالفعل بالأمس القريب أنا وجعفر حقيقة، حاصرته بالسؤال: إذا ما هي المناسبة التي دفعتك لقول هذا؟
قال مبتسما: فقط كنت أود أن أحجيك، أحجيك لا أكثر، ألا تحبين الأحجيات؟
حياتكم الخاصة لغز محير لدى جميع سكان الحي، بل المدينة جميعا، حتى جيرانكم الأقربين لا يعلمون علم اليقين في مسألة ما تخصكم، حتى إبراهيم عبد الله ضابط الجيش جاركم الذي ما داخلتكم أسرة من المدينة كما داخلتكم أسرته، خاصة ابنه عبد الله، الذي اكتشفت مؤخرا أنه رجل الشجرة الحقيقي، حتى هو لا يعرف عن أسرتكم شيئا مؤكدا، ولا عن منى التي يحبها، غير القشور: أسماءكم، أبوابكم ونوافذكم، ألوانكم، ملامح وجوهكم، ملابسكم، لكن اللباب فهو مجهول وعصي الاستدراك، أنتم ثرثرة النساء في الأفراح والمستشفيات والمواصلات العامة: ما دينهم؟ منى مسيحية، منى لا دينية، مليكة شول مادنق تعبد الكجور، محمد الناصر مسلم لكنه زنديق، إذا كان هنالك خليفة مسلم لشنقه كما شنق الحلاج والأستاذ محمود محمد طه، أما رياك، كانوا يقولون عنه يهودي، وذلك قبل انقلابه الأخير، الذي أسماه أهل الحي بعده ب: الإمام رياك رياك ، نفس الأشخاص الذين حاولوا من قبل تزوير أب لزوجك محمد الناصر، حاولوا تزوير أب لابنك رياك؛ لأنهم يرون أن محمدا الناصر الزنديق لا يصلح كأب لرياك التقي، فأسموه رياك رياك، ثم حاولوا تغيير اسم رياك إلى اسم عربي، لكن رياك أقنعهم أن اسمه هو اسم عربي، وهو مشتق من كلمة ريا التي تعني رائحة، والكاف ضمير، إذا ترجمة اسمه هي عبيرك أو عطرك، فأخذوا ينادونه: رياك رياك، بدلا من رياك محمد الناصر، حتى تستريح ضمائرهم ويخرجون من مأزق أخلاقي آخر دفعهم رياك إليه بسلوكه الديني القويم، وفهمه السياسي الذي يتماشى والخط الحكومي العام، قال البعض عنك: مليكة شول جاسوسة، وليس كما يعرف أن محمدا الناصر التقطك من حانة بالعشش، كنت حينها تقدمين كئوس المريسة للندماء. - لا. - لكنك كنت جاسوسة تعملين لحساب جيش الغابة، تسكنين بقشلاق الجيش، تنامين في استراحة ضباط الجيش، وسكنات رجال الاستخبارات الحربية، يضاجعون جسدك، وأنت تناكحين أفكارهم، وذاكرتهم وأدراجهم، ومع مائهم يدفعون إليك بالخطط العسكرية، وترحلين لتفعلي العكس، في معسكرات جيش الغابة، فعلت ذلك عند حصار مدن توريت، والناصر، وجوبا، فكنت سببا في إبادة كتائب بأكملها من جيش الحكومة.
فعلت ذلك في حامية فارينق، وكنت سببا في سقوطها في أيدي جيش الغابة، ومرة أخرى في نملي. - كذب كذب! - وأنت يا مليكة شول مادنق، أيتها الدينكاوية الفارعة الطول كزرافة، ممتلئة الردفين بأطفال خلاسيين، أيتها الزنجية الحسناء، ليس بقلبك الذي يسع عشرة من الأفيال الأفريقية غير دينق، ثمار البافرا، والباباي، أباب دير، و...
Неизвестная страница
محمد الناصر.
بقلبك الوطن، هذه البلاد الكبيرة، المخيفة.
بعد تلك اللحظة الحاسمة، لحظة سماعك انفجار القذائف في ساحات البيوت، في التوج واللواك، في الأكواخ الصغيرة المبنية من أحطاب التك والخيزران، في أوعية السمن وخمارات العجين، بيت الماجوك الكبير، في رأسه الأصلع القديم المشحون بالقيم والمثل والحكم، المشحون بجمال الإنسانية، في صحاف اللبن، في قرع المريسة والكنومورو، في صدور الأطفال الصغيرة البريئة، في قلوبهم، في تلك اللحظة هربت، هربت ومن تبقى من المجزرة إلى أمكم الغابة، لكن ما كان بوسع أمكم التي استبيحت هي الأخرى في تلك الليلة، ما كان بوسعها أن تحميكم، فقد زيفت مخابئها، خيرانها وأعشابها المتشابكة، إلى كمائن لاصطيادكم، وفعلا وأنتم تهربون نحو خور الخرتيت الآمن، إذ تدخلونه فقد دخلتم مصيدة جيش الحكومة، فنقلتم في شاحنات كبيرة نحو مدن قيل لكم: إنها آمنة، بالشمال حيث رأيت لأول مرة مساحة لا يحدها البصر من الأرض الرملية الصفراء، لا نبات فيها غير عيدان شوكية لها أشكال مخيفة، وعرفت أنها تسمى الصحراء، وشاهدت غابات من البرتقال والموز والمانجو محاطة بأسوار من السلك الشائك، سألت؟ قيل لك: إنها جناين.
وعندما سألت: لماذا محاطة بهذه الأسلاك، ألا توجد بها أفيال وزرافات قد تؤذيها هذه الأسلاك الشوكية؟ فقيل لك: هنا لا حيوانات، حتى القرود لا توجد، وإذا وجدت فإنها تباع للزينة والتسلية، نعم يا مليكة شول، هذه البلاد التي استقبلتك باغتصابك وأنت لم تبلغي الحلم بعد، هذه البلاد الغريبة، هي أيضا امتداد لوطنك، امتداد لما بعد الغابات والأفيال والزرافات، امتداد لما بعد الدينكا والشلك والنوير واللكويا، امتداد لما بعد جون وتابان وأكول وتريزا وشول وأشول ودينق، امتداد لما بعد التوج واللواك وأباب دير، ليست هذه هي المرة الأولى التي ترين فيها العرب، ولو أنها المرة الأولى التي هم فيها بهذه الأعداد الكبيرة، والسحنات المختلفة المتباينة الغريبة، فقد رأيت في السابق المندوكرو، وهم يعملون بالتجارة، وكان يعمل في خدمتهم أخوك ماجوك، وهم الذين أدخلوه في دينهم الإسلام، وكانوا يسكنون بالمدينة الكبيرة، وهم طيبون ومسالمون ويحبون الناس ولا يؤذون نملة، يصلون ويشربون عرق الموز وعرق الطعمية، يأكلونه باشتهاء، ويدخلون في دينهم من أراد، ولقد حدثك ماجوك عن دينهم فقال: دينهم فيه محبة ولا فرق بين مندوكرو وأي مواطن آخر، لكنهم يقولون: إن شرب المريسة والعرق حرام، ويصومون أياما كثيرة في السنة، وهذه أصعب الأشياء في دينهم، وليس هنالك ما يفوقها صعوبة غير الطهارة، ولو أنهم كانوا يتزوجون منكم ويزوجونكم بناتهم، إلا أن الأمر في هذه المدن الجديدة مختلف، فهنا أنت مواطنة من الدرجة السادسة ولا يمكن أن يتزوجك مواطن محترم له مكانة ما، ويستحيل أن يرضى أحد سكان هذه المدن إعطاء ابنته كزوجة لأحد أبنائكم مهما علا شأنه عندكم، ولو كان ابن ملك الدينكا، أو حتى ولو كان الماجوك نفسه، أو كان ثريا يمتلك مراحات من الأبقار لا تعد، ولو استحم ببول عشر من الثيران وخضب رأسه به، هنا لا يساوي شيئا.
قلت: ولو اتبع دينهم ولبس جلابيبهم وقرأ مدارسهم وعرف معرفتهم، وتطهر كما فعل أخي ماجوك؟
قيل لك: حتى ولو قشر جلده.
وعرفت أيضا أن بعض المتطرفين منهم يسمونكم علانية: عبيدا.
حقيقة أحسست حينها بالمرارة، مرارة الاغتصاب.
فقلت إذا: كيف يصبح هذا المكان الغريب امتدادا لبلدي؟
مليكة شول مادنق، لقد رأيت بأم عينيك أتم - ابن زعيم قبيلتكم مشار - رأيته يعمل خادما في المنازل، يغسل الملابس لرجال مثله ويكويها، بل يكنس الأرض وغرف النوم لنسائهم، يقشر البصل، يغسل ملابسهم الداخلية، ثم ينام في المخزن مع الكلب والفئران.
Неизвестная страница