أضاعَ الخوفُ أنفسَ ما يُعانِي ... وما عذرَ المُضيعَ لما عَناهُ
فأصبحَ لا يلومُ بما جناهُ ... منَ التَّفريطِ إنسانًا سواهُ
أسرَّ ندامةَ الكُسَعيِّ لمَّا ... رأتْ عيناهُ ما صنعتْ يداهُ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنِّي لأخشَى أنْ أموتَ فُجاءةً ... وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليكِ كمَا هيَا
وإنِّي ليُنْسيني لقاؤكِ كلَّما ... لقيتكِ يومًا أنِي أبثَّكِ ما بيَا
وقالُوا بهِ داءٌ عياءٌ أصابهُ ... وقدْ علمتْ نفسِي مكانَ دوائيَا
فهذا يخبرُ أنَّ لقاءها هو الَّذي يمنعهُ من شكوى ما يجده إلاَّ أنَّه يشفق من ضرره على نفسه ولا يُبقي بكتمانه على غيره على أنَّه قد قصَّر عنه كثير من أهل هذا العلم في قوله: إنَّ لقاءها يحدث في قلبه حالًا لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه إذ لو كان الهوَى قد استوفى منه حقَّه وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئًا ولا ينقصه.
كما قال يزيد بن الطثرية:
ولمَّا تناهَى الحبُّ في القلبِ واردًا ... أقامَ وسُدَّتْ بعدُ عنهُ مصادرهْ
فأيُّ طبيبٍ يُبرئُ الحبَّ بعدَما ... يسرُّ بهِ بطنُ الفؤادِ وظاهرهْ
وكما قال ذو الرمة:
ومَا زلتُ أطوي الشَّوقَ عنْ أمِّ خالدٍ ... وجاراتِها حتَّى كأنْ لا أُريدُها
فما زالَ يَنمِي حبُّ ميَّة عندنا ... ويزدادُ حتَّى لمْ نجدْ ما نزيدُها
ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:
إذا أزهدَتْني في الهوَى خِيفةُ الرَّدى ... جلتْ ليَ عنْ وجهٍ يُزهِّدُ في الزُّهدِ
فلا دمعَ ما لمْ يبدُ في إثرهِ دمٌ ... ولا وجدَ ما لمْ تعيَ عنْ صفةِ الوجدِ
وأحسن علي بن محمد العلوي الكوفي حيث يقول:
قالتْ عَييتَ عنِ الشَّكوى فقلتُ لها ... جهدُ الشَّكايةِ أنْ أعيَا عنِ الكلمِ
أشكُو إلى اللهِ قلبًا لو كَحلتُ بهِ ... عينيكِ لاختضبتْ منْ حرِّهِ بدمِ
لا تُبرِمي فاقدَ الدُّنيا وبهجتَها ... وما يسرُّ بهِ منها بلا ولَمِ
على أنَّه من طلب لآدميٍّ مثله بما لم يطالب الله عباده فأخلق بأن يكون ظالمًا وقد مدح الله ﵎ قومًا فقال:) الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قلوبهمْ وإذا تُليتْ عليهمْ آياتهُ زادتهمْ إيمانًا (فلم يعبهم تعالى بأن كان ذكره بحضرتهم وظهرًا عليهم ما لم يمكن قبل موجودًا منهم ومن أحسن ما قيل وأعرفُ من الشِّعر في هذا المعنى:
تفديكِ نفسِي لستُ أدرِي أيُّما ... أيَّامكمْ مِن أيِّها أشجاهَا
في حبِّكمْ شغلٌ لقلبِي شاغلٌ ... عن كلِّ نائبةٍ يخافَ رَداها
ومن جيد ما قيل في نحو الفصل الأول:
جعلتُكَ دنيائِي فإنْ أنتَ لم تجُدْ ... عليَّ بوصلٍ فالسَّلامُ علَى الدُّنيا
كتمتُكَ ما ألقَى لأنَّكَ مُهجتي ... أخافُ عليها أنْ تذوبَ منَ الشَّكوَى
ولبعض أهل هذا الزَّمان في هذا المعنى:
بحُرمةِ هذا الشَّهرِ لما نعَّشتَني ... بعفوكَ إنِّي قدْ عجزتُ عنِ العذرِ
فلوْ كنتَ تدرِي ما أُلاقِي منَ الهوَى ... لساءَكَ ما ألقَى فليتكَ لا تدرِي
لأشقَى بما ألقَى وتبقَى منعَّمًا ... خليًّا ونارُ الشَّوقِ تُسعرُ في صدرِي
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير عن أبي العتاهية:
مَنْ لعبدٍ أذلَّهُ مولاهُ ... ما لهُ شافعٍ إليهِ سواهُ
يشتكي ما بهِ إليهِ ويخشَا ... هُ ويرجوهُ مثلَ ما يخشاهُ
وهذه حال منقوضة لأنَّ من منعه من شكوى ما يلقاه إشفاقه من موجدة من يهواه فإنما أبقى على نفسه ومن امتنع من ذلك إشفاقًا على قلب صاحبه فقد اعترض على وجده التَّصنُّع إذ فعل ما يقدر على تركه.
وقال آخر:
الجسمُ ينقصُ والسَّقامُ يزيدُ ... والدَّارُ دانيةٌ وأنتَ بعيدُ
أشكوكَ أمْ أشكُو إليكَ فإنَّهُ ... لا يستطيعُ سواهُما المجهودُ
وقال الحسن بن هانئ:
لا والَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ ... ما خانَ أحبابُنا وما تاهُوا
ما علمُوا بالَّذي يجنُّ لهمْ ... منْ طولِ شوقٍ ولا درَوْا ما هوَ
وللفتح بن خاقان:
1 / 13