بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
رب يسر ولا تعسر، بسم الله أبتدئ، وبكتابه أقتدي، وبسنّة نبيَه أهتدي. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلما كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد.. فإن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم العبد بها، وأن نعمه اكثر من أن تحصى وتعد، ولكن عباد الله أصبحوا نادمين، وأمسوا تائبين. فإن الله ﷾ له علينا حقوق، وشرط علينا شروطًا كثيرة، فينبغي لنا أن نؤديها.
فلا تكن يا أخي غافلًا عنها فأنت تحاسب بها يوم القيامة، وإذا أردت أمرًا من أمور الدنيا فعليك بالتردد فيه، فإن رأيته موافقًا لآخرتك فخذه، وإلا فقف عنه حتى تنظر من أخذه؟ كيف عمل في؟ وكيف نجا منه؟ ونسأل الله السلامة.
وإذا أردت أمرًا من أمور الآخرة فشمر إليه وأسرع من قبل أن يحول بينك وبينه الشيطان.
وإياك أن تخون مؤمنًا، فمن خان مؤمنًا فقد خان الله ورسوله.
وعليك بتقوى الله والعمل بما علمك الله، والمراقبة لله تعالى حيث لا يراك
1 / 9
أحد إلا الله.
وإياك والحرام، فإنه لا يدخل الجنة لحم نبت من حرام.
وإياك والطمع، فإن الطمع هلاك الدين وإياك أن تضلل نفسك.
وأحذر يا أخي أن يراك الله مشتغلًا بغيره فتسقط من عينه، ولا تكن غافلًا عنه فإنه ليس بغافل عنك.
وعليك بتقوى الله العظيم وأن لا يفارق ذكر الموت قلبك، وأن يكون ذكر الله ﷿ لازمًا لسانك وقلبك، وأن تديم النظر في كونه مطلعًا عليك.
فعليك بالاستغفار لما قد سلف عن ذنوبك، واسأل الله السلامة لما بقي من عمرك. وإياك أن تخرج من الدنيا على غير توبة.
واعلم يا أخي أنك ميت، ومبعث، ومحاسب بعملك، ثم الوقوف بين يدي الله وأنت خاضع وذليل، قد نشر ديوانك وطهر كتابك، والجنة عن يمينك والنار عن يسارك والصراط بين يديك والله ﷿ مطلع عليك، يقول لك: إقرأ كتابك.. وأنت مشفق مما فيه حذرًا من فضائحه ودواهيه. فإن كنت سعيدًا فإلى جنة عالية، وإن كنت شقيا فإلى نار حامية.
فتزود يا أخي لنفسك ... ومثل الآخرة عليك بقلبك. واجعل الموت بين عينيك.. ولا تنس وقوفك بين يدي الله ﷿ ... وكن من الله على وجل.. وأد فرائض الله ... وكف عن محارم الله وخالف هواك.. واذكر الله ﷿ في كل وقت.. واحمد الله على كل حال.. واجعل شوقك إلى الجنة ... واستعذ بالله تعالى من النار.. وإياك ومخالفة الله تعالى فيما أمرك به ودعاك إليه.. واعلم أن بين يديك أهوالا وموقف.
فإن استطعت يا أخي أن تعد لك كل يوم زاد لما بين يديك فافعل، فإن
1 / 10
الأمر أعجل من ذلك.
فتزود يا أخي لنفسك وخذ في جهازك، وكن وصي نفسك..
واعلم يا أخي أن الليل والنهار لا يرجعان، والعمل لا يعود والطالب حثيثما، والليل والنهار يسرعان في هدم نفسك وفناء عمرك وانقضاء أجلك.
فلا تطمئن يا أخي حتى تعلم أين مسكنك ومصيرك ومستقرك ومنزلك.
فانظر لنفسك، واَقض ما فاتك، وأقض ما أنت قاض من أمرك. وكأني بالأمر يأتيك على بغتة.
وإنني لا أقول ولا ًاعلم أحدا أشد تضييقًا مني لذلك، فكأنك بالقيامة وقد قامت، وبالنفس الأمارة وقد لامت، وانفجعت عين طال ما نامت، ونحرت قلوب العصاة وقد هامت وقيل في المعنى شعر:
غدا توفي النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما
زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
فالله ذو رحمة وذو كرم ... وإن جهلنا فحمله يسع
يا رب اكتبنا اليوم في ملاء ... تمسكوا بالكتاب فانتفعوا
وأغننا واعف عن جريمتنا ... وافن بأمن نتضرع
قال رسول الله ﷺ:.
1 / 11
" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة عطاشا سكارى حيارى من أهوال يوم القيامة، لا يعلم الرجل بالمرأة، ولا تعلم المرأة بالرجل ".
قال ابن عباس ﵄: " ثم يوكل الله بكل رجل وامرأة ملكين يسوقانه إلى المحشر " وذلك قوله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد "
قال أيضا: " ثم تقف الخلائق يومئذ مائة وعشرين صفًا، ُ أمة محمد ﷺ معزولون، وهم ثمانون صفًا، ينظرون إلى السماء، وكل أحد منهم مشغول بنفسه، نادم على أفعاله " قال ابن عباس ﵄: " ثم يقفون ثلاثمائة سنة من سنين الدنيا، مائة سنة في العرق يلجمون: ومائة سنة في الظلمة يتحيرون، ومائة سنة بعضهم في بعض يموجون. قد شخصت منهم يومئذ الأحداق، وتطاولت الأعناق، وكثر العطش، وقل الإلتفات، وانقطعت الأصوات وضاقت المذاهب، واشتد القلق، وعظمت الأمور، وطاشت العقول، وكثر البكاء، وفنيت الدموع، وبرزت
1 / 12
الخفيات، وظهرت الخطيئات، وبانت الفضائح، وظهرت القبائح، ووضعت الموازين، ونشرت الأعلام، وبرزت الجحيم، وزفرت النار، وبئس الكفار، وشاب الصغير وسكت الكبير، وسعرت النيران، وتغيرت الألوان، وعظمت الأهوال، وطال القيام، وانقطع الكلام، فلا تسمع إلا همسًا ".
وقال ابن عباس ﵄: " ثم يأمر الله ملكًا أن ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أرق من الشعرة، وأحدّ من السيف. طوله ألف عام، عليه كلاليب وخطاطيف، وله سبعة جسور.
فأول ما يحاسب العبد على الإيمان، فإن سلم وإلا هوى في النار. والثاني يحاسب على الصلاة، فإن سلم وإلا هوى في النار. والثالث يحاسب على الزكاة، فإن سلم وإلا هوى في النار. والرابع يحاسب على الصيام، فإن سلم وإلا هوى في النار. والخامس يحاسب على الحج، فإن سلم وإلا هوى في النار. والسادس يحاسب على الوضوء، فإن سلم وإلا هوى في النار. والسابع يحاسب على بر الوالدين، فإن سلم وإلا هوى في النار.
ثم ينادي مناد. يا محمد: قدم أمتك على الحساب، والجواز على الصراط، فمنهم من يجوز على الصراط كالبرق الخاطف، ومنهم من يجوز عليه كالريح العاصف، ومنهم من يجوز كالفرس الجواد، ومنهم من يجوز يحبو على
1 / 13
ركبتيه، ومنهم، يجوز يزحف على وجهه، ومنهم من يجز على وجهه ثم ينجو، ومنهم من يسقط على وجهه في النار. أعاذنا الله وإياكم عنها.
الحشر يوم القيامة
إخواني: تفكروا ما في الحشر والميعاد، ودعوا طول النوم والرقاد، وتفقدوا أعمالكم، فالمناقش ذو انتقام. إن في القيامة لحسرات، وإن عند الميزان لزفرات. فريق في الجنة، وفريقه في السعير. ففريق يرتقون إلى الدرجات، وفريق يهبطون إلى الدركات، وما بينك وبين هذا الأمر إلا أن يقال: فلان قد مات.
يا من كان له قلب فمات.. يا من كان له وقت ففات.. أشرف الأشياء قلبك ووقتك، فإن أنت ضيعت وقتك وأهملت قلبك فقد ذهب منك الفوائد، إن كنت تبكي على ما فات فابك على فرقتك، وإن كنت تبكي على ما مات فابك على قلبك.
وقيل في المعنى شعر:
تأهب للذي لا بد منه ... فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد
وقال أبو أيوب ﵁: " مررت بواعظ وهو يقول لأهل مجلسه: اعملوا فإن أعمالكم تعرض على موتاكم ومعارفكم من الموتى، قال أبو أيوب: اللهم لا تفضحني على رؤوس عبادك يوم القيامة ".
وقال ﷺ: " يحاسب الناس يوم القيامة على ثلاثة أنفار: يوسف الصديق، وسليمان ابن داود، وأيوب ﵈. فأول ما يدعى بالمماليك، فيقول: ما شغلكم عن طاعتي؟ فيقولون: يا ربنا، جعلتنا تحت الآدميين، وابتليتنا
1 / 14
بالرق فاشتغلنا بخدمتهم عن خدمتك، فيدعى بيوسف ﵇، فيقول الله ﷿: هذا كان مملوكًا وما شغله ذلك عن طاعتي، ثم يأمر بهم إلى النار.
ثم يدعى بأهل البلاء، فيقول الله ﷿: ما شغلكم عن عبادتي؟ فيقولون: يا ربنا، ابتليتنا ببلائك فشغلنا ذلك عن عبادتك، فيدعى بأيوب ﵇، فيقول: هذا ابتليته بأشد البلاء، وما شغله ذلك عن طاعتي، فيؤمر بهم إلى النار.
ثم يدعى بالأغنياء، فيقول لهم: ما شغلكم عن طاعتي؟ فيقولون: يا ربنا، أعطيتنا المال فاشتغلنا به عن طاعتك، فيدعى بسليمان ﵇، فيقول: هذا أعطيته المال أكثر مما أعطيتكم، وما شغله ذلك عن طاعتي، فيؤمر بهم إلى النار ".
حاسب نفسك
إخواني: للدنيا تخدمون، وبالليل على فراشكم تنامون، ثم تقولون وانتم لا تفعلون، وكم تعاهدون وتنقضون، وكم تشاهدون اليسر ولا تعتبرون.
يا مضيعون الأعمار في الغفلة على ماذا تتكلون؟ والموت والحسام والعقالب بين أيديكم..
أما تعلمون؟ كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، هنالك تطلبون الإقالة فلا تقالون، وتطلبون الرجعة فلا ترجعون.
أي تطلبون الرجعة إلى الدنيا طمعًا في أن تعملوا عملا صالحًا غير الذي كنتم تعملون، فلا إلى الدنيا ترجعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال الحسن البصري: " عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل
1 / 15
وهم يلعبون ".
وقيل في المعنى شعر:
لو يعلم الخلق ما يراد بهم ... وأيما مورد غدا يردوا
ما استعذبوا لذة الحياة ولا ... طاب لهم عيشهم ولا رقدوا
خوفا من العرض والصراط على ... نار تلظي وحرها يقد
قال إبراهيم بن أدهم ﵁: " دخلت على بعض إخواني أعوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلت له: على ماذا تتنفس وتتأسف؟ فقال: ما تأسفي على البقاء في الدنيا، ولكن تأسفي على ليلة نمتها، ويوم افطرته، وساعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى "..
وقال الجنيد ﵁: " لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ".
وقال بعض الصالحين: " لي أربعون سنة ما غمني إلا طلوع الفجر ".
وقيل لزيد بن هارون: " كم تصلي في الليل؟ فقال: أو أنام منه شيئًا إذا لا أنام الله لي منه عينًا أبدًا ".
1 / 16
وروي عن مطرف رضي الله عن أنه كان يقول: " لا يراني الله آكلا نهارًا، ولا نائمًا ليلًا أبدًا ".
وكان ثابت البناني ﵁ يصلي كل يوم ثلاثمائة وستين ركعة، وكان يقول في دعائه: " اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في فبره، فأعطني ذلك. وذكر بعض أصحابه أنه كان يقول: " رأيته في منامي وهو قائم يصلي في قبره ".
وروي عن علي بن عبد الله عنه، أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد.
وروي عن أويس القرني ﵁ أنه قال: " والله لأعبدن تعالى عبادة الملائكة، فليلة معظمها قائمًا، وليلة معظمها سجدًا " وقيل أن عامر بن قيس ﵁ كان يقول: " والله لاجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله، وأن هلكت فبعد جهدي " وكان مسروق ﵁ يصلي حتى انتفخت عيناه وقدماه.
وكان مسلم الخولاني ﵁ قد علق صوتًا ببيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: " قومي خيراُ لله، فو الله لأرجفن بك حتى يكون الكل منك لامني. فإذا دخل أنفرد وتناول السوط، فيضرب به رجليه ويقول
1 / 17
لنفسه: " أنت أحق بالضرب من دابتي "..
وكان يقول: لا يظن أصحابي أنهم قد فازوا، فو الله لزاحمهم يوم القيامة حتى يعلموا أنهم خلفوا ورائهم رجالًا ".
وكان ضيغم قد تعبد قائمًا حتى أقعد، ومقعدًا حتى استلقى، ومستلقيًا حتى مات وهو ساجد، وكان يقول في دعائه: لا اللهم إني أحب لقاء فأحبب ".
وقالت امرأة حسان ﵂: " كان حسان إذا آوى إلى فراشه جعل يخادعني كما تخادع المرأة ولدها، فإذا نمت شد روحه وقام إلى الصلاة، فأقول له: يا عبد الله رفقًا بنفسك، فيقول: اسكتي، ويحك، فو الله لأرقدن رقدة لا أقوم منها زمنًا طويلا ".
وكان الربيع بن خثيمة ﵁ لا ينام الليل ويخاف البيات، وكان يبكي ليلًا ولا نهارًا، ولا يفتكن البكاء.
وكان السري السقطي ﵁ يدافع البكاء في أول الليل، فإذا نام الناس أخذ في البكاء إلى الصباح.
وكان ضيغم ﵁ يقول: " لو علمت أن رضاه لي في تقريض لحمي بالمقاريض لفعلت ذلك ".
وكان بشر ﵁ لا يزال مهمومًا، فقيل له في ذلك، فقال: " إني مطلوب، وكان لا ينام الليل ": وكان يقول: " أخاف أن يأتيني أمره وأنا نائم ".
1 / 18
وكانت أم سليمان ﵂، على نبينا وعليه افضل الصلاة والسلام تقول له: " يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة. يا بني، من يرد الله لا ينام الليل لأن من نام الليل ندم بالنهار ".
وقيل في المعنى شعر:
يا أيها الغافل جد في الرحيل ... وأنت في لهو وزاد قليل
لو كنت تدري ما تلاقي غدا ... لذبت من فيض البكاء والعويل
فاخلص التوبة تحظى بها ... فما بقي في العمر إلا القليل
ولا تنم إن كنت ذا غبطة ... فإن قدامك نوم طويل
وقال بعض الصالحين ﵁: " كانت رابعة العدوية ﵂ تقوم الليل، وتهجع عند السحر، فإذا انتبهت قالت: يا نفس، كم تنامي؟ يوشك أن تنامي فلا تقومي إلى يوم القيامة ".
وروي عن يحيى بن زكريا ﵉، أنه شبع ليلة من خبز الشعير، فنام عن حزبه، فأوحى الله تعالى إليه: " يا يحيى، هل وجدت دارًا خيرا من داري، أو جوارًا خيرا من جواري، وعزتي وجلالي لو اطلعت على الفردوس إطلاعة لذاب جسمك وذهبت نفسك، ولو اطلعت على وجهي إطلاعة لتبكين الصديد بدل الدموع، ولتلبس الحديد بدل المسوح ".
وقيل: أوحى الله تعالى. إلى داود ﵇: " يا داود، إذا حدثتك نفسك بالنوم فاذكر مصرع أهل النار، وصول الزبانية، وغلق أبواب جهنم،
1 / 19
فإنك إن فعلت ذلك انتفى النوم عنك. يا داود، خذ حظك من الليل ولا تغفل عن الصلوات، واجعل موضوع الضحك بكاء خوفًا مني أنجيك من حر نار جهنم يوم القيامة.
وكان سعيد بن المسيب يقول: " أيما رجل قام من الليل فتوضأ وصلى ركعتين، إلا تبسم الجبار في وجهه وقال: " يا ملائكتي، أشهد كم أني قد غفرت له ".
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود ﵇: " يا داود، قل لبني إسرائيل: من صلى في السحر ركعتين بقلب حاضر توجه الله بتاج كرامته يوم القيامة ".
وحكي عن واصلة بن هشام ﵁ أنه كان يصلي الليل كله، وإذا كان وقت السحر، قال: " إلهي، ليس مثلي يسألك الجنة، ولكن أجرني من النار ".
وكان عمر بن عتبة ﵁ يخرج كل ليلة إلى المقابر، ويقول: " يا أهل القبور، طويت الصحف ورفعت الأقلام، ثم يصف قدميه ويصلي إلى الصباح ".
وكان أسيد ﵁ إذا آوى إلى فراشه يتقلب كالحبة على المقلى، ويقول: " إنك لين وفراش ألين منك. ولا يزال راكعًا وساجدًا إلى الصباح ".
وكان الأسود ﵁ يصوم في الصيف وشدة الحر حتى يحمر مرة ويصفر مرة أخرى.
1 / 20
وكان سفيان الثوري. رضي الله تعالى عنه من شدة تفكره يبول الدم، وكان إذا سمع المؤذن يتغير لونه ويبكي حتى يغمى عليه.
وكان أبو عبيدة الخواص ﵁ يبكي ويقول: " قد كبرت فاعتقني من النار ".
وكان يزيد الرقاشي ﵁ يبكي حتى أظلمت عيناه وأحرقت ألد موع مجاريها.
وكان مالك بن دينار ﵁ يبكي حتى سودت الدموع خده، وكان يقول: " لو ملكت البكاء لبكيت أيام حياتي ".
وقيل لعطاء السلمي رض الله عنه: ما تشتهي؟ فقال: " أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر أن أبكي "، وكان يبكي في الليل والنهار، وكانت دموعة سائلة على خديه.
وكان حذيفة ﵁ يبكي بكاء شديدًا، فقيل له: " ما بكاؤك؟ فقال: لا أدري على ما أقدم؟ على رضا أم على سخط؟ ".
وبكى معاذ ﵁ بكاء شديدًا، فقيل له: " ما يبكيك؟ فقال: لأن الله ﷿ قبض قبضتين، فجعل واحدة في الجنة، والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون ".
وقال الفضيل بن عياض ﵁: " بكى أبني علي ﵁، فقلت له: يا بني، ما يبكيكَ؟ فقال: يا أبت، إني أخاف أن لا تجمعنا القيامة وتفرق بيننا ".
وقيل لزيد بن يزيد ﵁: " ما لنا لا نرى عينك تجف من الدموع،
1 / 21
فقال: إن الله توعدني إن أنا عصيته يسجنني في النار "..
وقيل: إن جبريل ﵇ أتى النبي ﷺ وهو يبكي، فقال له ﵊: " يا جبريل، ما بكاؤك؟ فقال: يا محمد، ما غفلت عيني منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه، فيلقيني فيها ".
وقال ﵊: " ما أتاني جبريل ﵇ إلا وهو يرعد خوفًا من الجبار، فقلت له: يا جبريل مما هذا البكاء وهو الخوف؟ فقال: يا محمد، والذي بعثك بالحق نبيًا ما ضحكت منذ خلق الله تعالى جهنم، فقلت له: يا جبريل، صفها لي، فقال: يا محمد، أرضها الرصاص، وسقفها النحاس، وحيطانها الكبريت ".
وقيل: " مر عيسى ﵇ بفتى قائم على صخرة وحوله دم طري ودم يابس، فقال عيسى ﵇: ما الذي أصابك؟ فقال: يا روح الله، دخل علي خوف جهنم في قلبي، فانشق له قلبي وجلدي وسائر لحمي، فهذا الدم الذي يسيل من جسدي لذلك. فخرج عيسى ﵇ إلى قومه وجمع الناس، وقال: هذا من أبناء الدنيا وخاف النار فانشق جلده وسائر جسده ولم يدخلها، فكيف حال من دخلها ".
وقيل: " مر بعض العصاة بمقبرة، فتناول عظاما فتفتت في يده، فقال: ويل من تقصيري، وإلى هذا مصيري. فذهب إلى أمه فقال لها: يا أماه، مالي آبق،
1 / 22
وما يصنع بالأبق إذا وجده سيده، فقد وجدت شدة، فقالت: يا بني، لا تضيق علي، فصاح صيحة وخر مغشيًا عليه، فقالت له: يا بني، فأين يكون التقي؟ فقال: يا أماه، إذا قدمت على يوم القيامة فسلي عني مالكا خازن النار،. ثم صاح صيحة عظيمة فمات. فنودي عليه بين الناس من يصلي على قتيل جهنم ".
وقيل في المعنى شعر:
لما تذكرت عذاب النار أزعجني ... ذاك التذكر عن أهلي وأوطاني
فصرت في القفر أراعي الوحش منفردًا ... كما تراني على وجدي وأحزاني
وهذا قليل لمثلي في جراءته ... فما عصى الله عبد مثل عصياني
نادوا علي وقولوا في مجالسكم ... هذا المسيء وهذا المذنب الجاني
فما بكيت ومما قصرت عن زللي ... ولا غسلت بماء الدمع أجفاني
قال إبراهيم الخواص ﵁: " كنت كثير المشي إلى المقابر، فجلست يوما فغلبتني عيناي فنمت، فسمعت قائلًا يقول: خذوا سلسلة فأدخلوها في فيه وأخرجوها من أسفله، وإذا الميت يقول: يا رب، ألم أكن أصلي؟ ألم أكن أقرأ القرآن؟ ألم أكن أحج البيت الحرام؟ وإذا بقائل يقول: بلى، ولكنك إذا خلوت بالمعاصي لم تراقبني ".
وكان ضيغم قد حج عشرين حجة، وجاهد عشرين سنة، فلما مات رؤي في النوم، فقيل له: " ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال: بماذا جئتني؟ فقلت: يا رب بحج عشرين سنة، فقال: ما قبلت منها شيئا، فقلت: بقراءة القرآن عشرين سنة، فقال: ما قبلت منها شيئآَ، فقلت: بجهاد عشرين سنة
1 / 23
فقال: ما قبلت منها شيئًا، فقلت: يا رب، أنا بين يديك فقيرًا، فقال: وعزتي وجلالي لولا اطلاعي عليك يومًا وقد خرجت من بيتك إلى صحن دارك لتنظر وقت الزوال لئلا يفوت الوقت احتراز لما فرضته عليك لعذبتك في النار. فأدخلني الجنة ".
وحكي عن الحسن البصري ﵁ أنه رؤي في المنام بعد موته، فسئل عن حاله، فقال: " أقامني الله بين يديه وقال: يا حسن تذكر صلاتك في المسجد يوم كذا وكذا، إذا رمقك الناس بأبصارهم فزدت حسنًا في صللاتك، وعزتي وجلالي لولا أن صلاتك لي خالصة لطردتك عن بابي، ولقطعتك عني مرة واحدة ".
اعرف قدرك عند الله
يا هذا، إن أردت أن تعرف قدرك عند الملك فانظر بم تشتغل؟ إن كنت من أهل القرب خالص العمل، وإن كنت من أهل البعد قطعك بمقاطع الأمل.
كم بالباب من واقف بقصة ما يدخل إلا من به نال ماتمى، ويعطي ما سئل. نحن قسمنا ما كان وما يكون.
وقيل إن بعض الرجال الصالحين قام ليلة يتهجد، فسبقه مدامعه، فقال: " يا رب، أما ترحم بكائي؟ فنودي: إن شئت فابك، وإن شئت فلا تبك، لو بكيت الدماء ما صلحت لك ".
وقيل أوصى الله تعالى إلى داود عليه لا السلام: " ليس كل من صلى قبلت صلاته، ولا من عبد الله قبلت عبادته، يا داود، كم من ركعة لا تساوي عندي شيئًا، لأني نظرت إلى قلب صاحبها فوجدته إن برزت له امرأة متعرضة
1 / 24
أجابها، وإن عامله إنسان في تجارة خانه. يا داود، طهر ثيابك الباطنة، لأن الظاهر لا ينفعك عندي، وأني بكل شيء محيط ".
قالع رسول الله ﷺ: " يؤتى بأقوام يوم القيامة لهم حسنات كآمال الجبال، فيؤمر بهم إلى النار، فقالوا: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ فقال ﷺ: كانوا يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه ".
وقيل: مر عيسى ﵇ بقرية، فإذا أهلها في الأزقة والطرق موتى، فقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء ماتوا من سخط الله تعالى، فقالوا: يا روح الله، وددنا لو علمنا بخبرهم. فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى، إذا كان الليل نادي: ة؟ نهم يجيبونك. فلما كان الليل ناداهم: يا أهل القرية، ما حالكم، وما أصابكم، وما قصتكم؟ فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، بيأ نحن بتنا في عافية أصبحنا في الهاوية، فقال: وما ذلك؟ فقال: يا روح الله، بحبنا للدنيا وعصياننا المولى في الآخرة، فقال عيسى ﵇: فما بال أصحابك لا يجيبوني؟ فقال: إنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، فقال عيسى ﵇: وكيف تجيبني أنت من بينهم، فقال: إنني كنت نزيلا عندهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فإني معلق على شفير جهنم ولا ادري أنجو منها أم ألبث. فيها. فقال عيسى ﵇: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال بعض للصالحين: رأيت أبا عبد الله بن أبي سلمة في المنام، فقلت له: كيف حالك؟ فقال: يا أخي، نمشي غافلين، ونقف غافلين، فعشنا معهم غافلين،
1 / 25
ومتنا غافلين.
آفات الغفلة
إخواني لا ظلم أشد من الغفلة، ولا عمى أشد من عمى القلب، ولا خذلان أشد من التسويف.
قال رسول الله ﷺ: " ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت أقواما تقرض شفاهم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء أمتك يوم القيامة يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به، ويجدون ولا يصبرون ".
وقال ﵊: " يأتي على أمتي زمان يتعلمون القرآن ويحفظون حروفه، ويضيعون حدوده، فويل لهم مما حفظوا، وويل لهم مما ضيعوا ".
وقال ﵊: " من لقي الله وهو مضيع للصلاة لم يعبأ الله بشيء من حسناته ".
1 / 26
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود ﵇: يا داود، قل لبني إسرائيل، من ترك صلاة واحدة لقيني يوم القيامة وأنا عليه غضبان.
وقال ﵊: " من ترك الصلاة عمدا بريء من دينه، ومن لم يصل فقد كفر ".
وقال ﵊: " عشرة من أمتي يسخط الله عليهم يوم القيامة ويؤمر بهم إلى النار، قيل: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: أولهم الشيخ الزاني، والإمام الجائر، ومدمن الخمر، ومانع الزكاة، واكل الربا، والذي يطلق ويمسك، والذي يحكم بالجور، والماشي بالنميمة، وشاهد الزور، وتارك الصلاة، والذي ينظر لوالديه بعين الغضب ".
وقال ﵊: " أخبرني جبريل ﵇ أن في النار كهوفًا ومضائر أعدت لقاطع الرحم، والعاق لوالديه ".
وقال ﵊:
1 / 27
" ليعمل البار لوالديه ما شاء من الخطايا، فلا يدخل النار، وليعمل العالق لوالديه ما شاء من الطاعات، فلن يدخل الجنة، ولا تنفعه الطاعة ولا تنفعه الشفاعة ".
إياك وعقوق الوالدين
وقيل: سأل موسى ﵇ ربه أن يريه رفيقه في الجنة؟ فأوحى الله تعالى: يا موسى، انطلق إلى مدينة كذا وكذا، فإنك ترى رفيقك في الجنة. فسار موسى ﵇ حتى انتهى إلى المدينة، فتلقاه شاب فسلم عليه، فقال له موسى ﵇: عليك يا عبد الله السلام، أنا ضيفك الليلة. فقال له الشاب: يا هذا، رضيت إن رضيت بما عندي أنزلتك وأكرمتك، فقال له موسى ﵇: قد رضيت بما عندك.
فأنزله، وأخذه الشاب ومضى إلى حانوته، وكان الشاب جزارًا، فأجلسه حتى فرغ من بيعه وشرائه، وكان الشاب لا يمر بشحم ولا مخ إلا عزله، فلما كان وقت الإنصراف أخذ بيد موسى ﵇، وانطلق به إلى منزله، ثم أخذ الشاب الشحم والمخ وطبخه.
ثم دخل بيتًا فيه قفتان معلقتان في السقف فأنزل أحدهما إنزالا رفيقًا، وإذا فيها شيخ كبير قد سقط حاجباه على عينه من الكبر، فأخرجه من القفة وغسل وجهه وثيابه وبخرها، ثم ألبسه إياها، ثم أخذ خبزًا وثرده، وصب عليه الشحم والمخ وأطعمه حتى شبع، وسقاه حتى روي، فقال الشيخ: يا ولدي لا خيب الله سعيك معي، وجعلك رفيقًا لموسى بن عمران في الجنة.
ثم أنزل القفة الثانية وفعل بها مثل الأولى، وإذا فيها عجوز كبيرة، فصنع معها مثل ما صنعه بالشيخ، فقالت: الحمد لله يا ولدي الذي لا خيب الله سعيك معي، وجعلك رفيق موسى بن عمران في الجنة. ثم ردهما إلى مكانهما.
وخرج موسى ﵇ وهو يبكي رحمة لهما، فتبعه الشاب وقدم له طعامًا،
1 / 28