يحمل في جرابه رداء يطويه في النهار ويتغطى به في الليل، ويضع فيه زاده القليل الذي لا يزيد عن كسرات من الخبز وحبات من الزيتون تصدق بها عليه المحسنون، ويحمل في يده صحفة قديمة يأكل فيها ويشرب. بل إنه - فيما يقال - قد استغنى عن هذه الصحفة أيضا حين رأى ذات يوم طفلا يشرب من النهر براحة يده، وقال: إن طفلا صغيرا قد فاقني في بساطة الحياة، ومع أن هذا القول يوحي بإعجابه بالأطفال، فإنهم فيما يبدو لم يكونوا يتركونه في حاله؛ فربما استرعاهم منظره وهو يسير شبه عار في الشوارع أو يجلس وحيدا على قارعة الطريق يلتهم اللحم الطري أو يقرض العظام التي يلقي بها الأثرياء من موائدهم، فيلتفون حوله ويصيحون: حذار وإلا عضنا. فيرد عليهم قائلا: لا تخافوا يا صغار، فالكلب لا يأكل البنجر !
ولا بد أنه سئم تعقب الأطفال له أينما ذهب، أو سخرية النساء والأغنياء به كلما شاهدوا هيئته الزرية، أو تأفف الفلاسفة منه كلما سمعوه يتحاور في الفلسفة مع أنه لم يحمل يوما كتابا، ولا شأن للكلاب بالفلسفة! لا بد أنه سئمهم جميعا، فاختار أن يلجأ إلى برميله المشهور، ينام فيه بالليل ليحتمي من برد الشتاء، أو يتدحرج به في النهار بعيدا عن أعين الصغار والكبار، حقا إن احتماءه بالبرميل كان دليلا على زهده وقوة إرادته وإيثاره شظف العيش، ولكن هل خلصه من الناس أو منعهم من أن يطلقوا عليه صفة الكلب؟ العكس هو الصحيح. فقد أصبح البرميل علما عليه، وزاد بالطبع من اهتمام الناس به، ومشاكسة الأطفال له، وجذب الغرباء والمتطفلين إليه! ولا نستطيع أن نعرف الآن إن كان التجاؤه إلى هذا البرميل المشهور فرارا من أعين الناس وحبا في الوحدة والانفراد، أو كان رغبة منه في الخلو إلى نفسه والتعمق في ظلماتها ومتاهاتها! وهل كان ذلك لزهده في الظهور أمام الناس، أو كان إمعانا في الظهور وحبا في الاستعراض كما نقول اليوم؟
لا ندري على وجه التحديد. والمهم أنه وضع نفسه في البرميل، وراح يتدحرج به على الثلج أو فوق التراب كلما احتاج إلى الحركة، لقد أراد أن يقول للناس: لقد استغنيت عنكم واكتفيت بنفسي، تركت الكوخ والبيت، سئمت المعبد والمسرح، زهدت في الظهور أمامكم بثيابي المتسخة الممزقة التي تؤذي ذوقكم وأبصاركم، فاتركوني أعيش في برميلي في هدوء.
ولكن هل تركوه حقا يعيش حياته في هدوء؟ وهل كان هو نفسه يريد أن يتركوه وينسوه؟ لقد ظلوا مع ذلك يسمونه الكلب، بل إن حياته في البرميل المشهور قد أكدت لهم كلبيته أكثر من أي شيء سواها، ويظهر أنه يئس من زوال هذه الصفة عنه: فحين أطل برأسه ذات يوم من البرميل ليرد على من يسأله: لماذا سمي كلبا؟ قال له: إنني أهز ذيلي لمن يعطيني شيئا، وأنبح من يردني، وأعض بأسناني اللئام والأنذال!
لا شك أن هذه الإجابة تحمل في طياتها قدرا كبيرا من التكبر والغرور . وإذا كنا لا نستطيع، كما قلت، أن نتصور كلبا مغرورا فقد نستطيع أن نستثني كلبنا الفيلسوف من ذلك، ونقول مع بعض الرواة: إنه كان مغرورا بحق، وإن كلبيته لم تكن سوى دليل على غروره الفظيع، ربما كان في تجواله في شوارع أثينا بشعره الأشعث المنسدل على أذنيه، ومنظره الزري القذر، وجراب الشحاذين على ظهره، وضراوة الوحش في عينيه وتكشيرة أسنانه، أو في دحرجة برميله هنا وهناك بلا هدف معلوم - ربما أراد بذلك أن يقول للأثينيين: لست كلبا، بل أنتم الكلاب! إنكم تحرصون على التقاليد، وتذلون أنفسكم لجمع المال، وتتباهون بالثياب الجديدة والمساكن الجميلة، وتصانعون الطغاة وتجاملون الأغبياء من الحكام والقواد والأغنياء، وتهتمون بثرثرة السفسطائيين والفلاسفة الذين يخدعونكم بكلامهم المعقد المسحور، ولكن ها أنا ذا قد زهدت في المال والثياب والحكم والكلام البراق، ها أنا ذا أعيش وحيدا، محروما، جائعا، حافيا، مكتفيا بنفسي، فمن فينا الكلب أيها الكلاب؟
ربما لم يقل كلبنا المدهش كل هذا الكلام، ولكن النوادر التي تحكى عن غروره وشراسته أكثر من تلك التي تروى عن ذله وانكساره، لقد هاجم الجميع واحتقر الأثينيين حتى استكثر أن يسميهم الرجال، «لا تنسوا أنه أخذ ذات يوم يصيح مناديا يا رجال، فلما تجمع الناس جرى وراءهم بعصاه قائلا: «لقد ناديت الرجال ولم أناد الكلاب!»»
كما راح يلعن كل فئاتهم ويقول: إن النحويين ينقبون عن عيوب أوديسيوس على حين يغفلون عن عيوبهم، والموسيقيين ينغمون أوتار القيثار على حين يتركون أوتار نفوسهم متنافرة، والفلكيين يحملقون في الشمس والقمر في حين لا ينتبهون إلى الأشياء التي في متناول أيديهم، والخطباء والحكام يثيرون الضجيج حول العدالة في حين أنهم لا يمارسونها في أعمالهم! ويظهر أنه كان يكره اللغو والجدل أكثر من أي شيء آخر في الوجود؛ فقد راح يتحدث مرة في السوق حديثا جادا فلم يأبه به أحد، فما كان منه إلا أن أخذ يعوي ويصفر. والتف الناس حوله، فقال لهم: «تسرعون لسماع اللغو، وتبطئون عندما يدور الحديث حول موضوع جاد!»
ويبدو أن كرهه للغو والجدل كان سببا في هجومه المستمر على الفلاسفة، ووصفه لهم - وهذا شيء مضحك من كلب مثله - بأنهم كلاب طويلة اللسان! ألم يسمع مرة زينون الإيلي وهو يجادل في الحركة، ويثبت بالعقل بطلانها، ويقدم حججه المشهورة عن السهم الطائر والسباق الخاسر بين أخيل والسلحفاة، فنهض من مجلسه غاضبا، وراح يمشي صامتا أمام زينون؟ ألم يحتقر أفلاطون الإلهي ويصف محاوراته بأنها مضيعة للوقت؟ ألم يسفه كل معاصريه ويقل عنهم: إنهم بلهاء يسلون بلهاء؟
قد لا يكون كل هذا الهجوم دليلا كافيا على غروره بل على تهوره أو قصر عقله، ولكن ماذا نقول في حادثته المشهورة مع الإسكندر نفسه؟ فيبدو أن القائد الشاب قد سمع قواده أو عساكره يتحدثون بسخرية عن الكلب وبرميله المشهور، فلم تمنعه عبقريته ولا مشاغله من الذهاب بنفسه لزيارته. تصوروا معي القائد العظيم في ردائه الفخم وخوذته الذهبية وقامته الرشيقة ووجهه الناصع المتفجر بالشباب وهو يقف متعجبا أمام البرميل وحوله جماعة من قواده وحاشيته. إن الكلب الفيلسوف لا يحس به، ويتقدم أحد قواده فيخبط بسيفه على البرميل، ويطل بوجهه العجوز محاولا أن يفتح عينيه اللتين أتعبهما الظلام أو التأمل الطويل في أعماق النفس. ويسأله الإسكندر: ألا تخافني؟
فيسأله بدوره: ومن أنت؟
Неизвестная страница