ولكنها الغيرة وسخافتها لا تعرف الحكمة فلا تستريح ولا تريح، وقد أصيبت هنرييت بالحمى وماتت بها في لبنان، وحار الأطباء في توصيف تلك الحمى وتسميتها بأسماء الأمراض البدنية، ولكنها ولا ريب تحمل في طيها جرثومة من جراثيم الفكر مع أدواء الأجسام.
ومن فجائع هذه المحنة أن العدوى سرت إلى رينان، فأفاق من غيبوبته ساعة وسأل عن الشقيقة التي ظن أنها تتماثل للشفاء، قبل أن يغيب عن وعيه، فعلم أنها فارقت الحياة.
بعد خمسين سنة
وبعد خمسين سنة زار أمين الريحاني ضريح هنرييت، واستعاد ذكرياته يوم زاره قبل ذلك بخمس وعشرين سنة فقال:
إنني أنقل من مذكراتي في تلك الأيام، وأترجم من مقال لي باللغة الإنجليزية كتبته إلى مجلة بوكمان النيويوركية.
منذ ربع قرن؛ أي يوم حججنا، كان أهل عمشيت يعجبون لمن يجيء بلدتهم سائلا عن ضريح هنرييت رينان شقيقة ذلك الفرنسي الكافر، وقد اجتمعنا يومئذ بكاهن يسكن البيت الذي أقام فيه رينان وتوفيت فيه هنرييت، وكتب فيه قسما من حياة يسوع، فقلنا لأول وهلة إنه ولا شك حر شجاع، وإنه لا يأبه بالذكريات.
وقد قيل لنا إنه متخرج من الجامعة الشهيرة التي درس رينان نفسه فيها من سان سلبيس بباريس، وإنه كاهن عصري؛ أي مهذب حر الفكر والضمير كما يراد من اللفظ في تلك الأيام.
ولكنه على عصريته وعلى ما في بيئته، كان يدعو رينان كافرا، ولا يخفي احتقاره حتى للزائرين المعجبين به، وكأنه تخصص في دروسه اللاهوتية بعلم المقاصد والنيات.
وقال ذلك المحترم إن أحد أغنياء اليهود استخدم رينان لكتابة كتابه الذي لا يستحسنه غير اليهود أنفسهم والكفار من المسيحيين، وقال كذلك إن شقيقة رينان التي كانت تلبس لبس الراهبات وتزور الكنيسة مع أهل القرية ساعدته على تأليف ذلك الكتاب، فهي وإياه في الكفر سواء.
والبلية الكبرى على ضحايا الفكر أن رينان منهم عند اليهود؛ لأنه قال عن أنبياء الساميين ما لا يرضاه يهودي من المؤمنين ولا من الكفار.
Неизвестная страница