ومما يذكر من مفاخر تلك الانتخابات أن رجلا «كواء» من سكان المنشية عرضوا عليه جنيهين ثمنا لصوته - وكان الجنيه في ذلك الحين بقيمة عشرة جنيهات على الأقل في الوقت الحاضر - فردهما وطرد المساوم له من دكانه شر طردة، ثم اتصل الخبر بسعد من بعض مريديه، فأبت نخوته إلا أن يذهب إلى دكان الرجل في جمع من كبار صحبه، ثم حياه ووجه إليه الخطاب كأنه يحيي أميرا مالكا في حشد عظيم.
ولقد بذل خصوم سعد كل طاقتهم في تلك الأيام لصرف الناخبين عنه وتحويلهم إلى مزاحميه، إلا وسيلة واحدة لم يستخدموها والشهادة للحق؛ تلك وسيلة التزوير في الأوراق، فلم يحصل قط تزوير من هذا القبيل، ولكن وسيلة التزوير ليست مما يحسب على الناخب بأية حال.
سنة 1924
واتفقت هذه القوى جميعا على محاربة سعد وأنصاره بعد إعلان الدستور، فلم ينجح أحد في دوائر القطر غير أنصاره، ما عدا القليل الذي لا يزيد على أصابع اليدين، وكلهم ذوو «عصبيات محلية» لا يزاحمها أحد في إقليمها، ولم تكن الخصومة بينهم وبين سعد محور الخلاف بين الناخبين.
وأخفق رئيس الوزراء نفسه «يحيى إبراهيم باشا» في دائرته، وأخفق أذناب الخاصة الملكية في دوائرهم القليلة، وغلبت إرادة الناخب المصري كل إرادة في ذلك العراك العنيف.
لا بل تجدد الانتخاب وأعلن أصحاب السلطان أن سعدا لن يعود إلى الوزارة، وقد كان الانتخاب على درجتين: درجة لانتخاب المندوب عن كل ثلاثين ناخبا، ودرجة لانتخاب العضو لمجلس النواب، فاجتهد عمال المحافظة قصارى جهدهم لإسقاط سعد في دائرة المندوبين، فنجحوا لأنهم فرقوا الأسماء ذات اليمين وذات اليسار في كل اتجاه، ولكن الجهود كلها حبطت دون إسقاطه، وإسقاط الكثرة من أنصاره، فجاء مجلس النواب وفيه مائة وخمسة وعشرون من أنصار سعد، ولم يزد عدد الفريق الآخر على الثمانين، موزعين بين الحكوميين والاحتلاليين.
ثم تعطلت الحياة النيابية أكثر من سنة، وأنشئ حزب الاتحاد بسلطان القصر، فانتمى إليه المتزلفون في كل إقليم، ثم حان الموعد لكتابة دفاتر الانتخاب على حسب القانون الجديد، فأضرب العمد عن تنفيذ القانون، وسيقوا إلى القضاء، فخرج الكثيرون منهم بغير جزاء.
بداهة أرسطو
إلى هنا يحق لنا أن نقول إن الانتخابات المصرية حتى سنة 1927 قد أسفرت عن تلك البداهة التي يلخصها صاحب الكتاب عن أرسطو فيقول: «إن الحكمة الجماعية لشعب من الشعوب أسمى حتى من حكمة أعقل المشرعين؛ فالأفراد في خضم الجماعة يكمل بعضهم بعضا بصورة فريدة، ذلك بأن يفهم أحدهم جزءا من مسألة، ويفهم الآخر جزءا آخر، فيحيطون في مجموعهم بالموضوع كله.»
ولسنا نريد أن نطلق تلك البداهة وصفا عاما للناخب المصري في جميع أوقاته وجميع حالاته، ولكننا نقرر الواقع الذي لا شك فيه حين نروي ما حدث في تلك الانتخابات، بما شهدناه وشهده غيرنا عيانا وسجلته المصادر المختلفة بالأرقام.
Неизвестная страница