160

لقد كان «ونجت» هو المندوب السامي الوحيد الذي خرج من مصر مغضوبا عليه، أو غير مشيع بعلامة من علامات الرضى والارتياح، فخرج كرومر منعما عليه بلقب اللوردية وربطة الساق وخمسين ألف جنيه، وخرج كتشنر منعما عليه بمثل ذلك، ولم يظفر ونجت باللقب ولا بالمكافأة المالية ، وبقي على فقره محروما من وظائف دولته، حتى اضطر إلى العمل بإدارة إحدى الشركات.

ومع هذا كان «ونجت» أصوب رأيا في السياسة الشرقية من جميع أسلافه ولاحقيه؛ فلم تختلف نظرتان في شأن خطير من شئون مصر والسودان، إلا كانت نظرته هو أصح النظرتين، وأبعدهما أمدا في اتقاء العواقب وتذليل المصاعب، وكاد هذا الرجحان بالرأي الصواب يطرد في جميع الوصايا التي أشار بها على حكومته فأعرضت عنها، وربما «وبخته» من أجل بعضها في قالب التوبيخ المعهود بين وزارة الخارجية وأعوانها من كبار الرؤساء.

أنذر حكومته بالثورة في مصر إن أصرت على الإعراض عن مطالب المصريين، فجاءه رد من وزارة الخارجية تعجب فيه من هذا الإنذار الذي لا تسوغه بادرة من بوادر الواقع، فصح قوله وكذبت تقديرات حكومته، وظل الرجل بعد ذلك مغضوبا عليه.

وأنذر سماسرة إسرائيل بسوء العاقبة إن لم يعملوا على مرضاة العرب، وقال لهم إنهم «معقولون» مجاملة لهم وللحكومة البريطانية التي أرسلتهم إليه، ولكنه شفع ذلك بقوله إنهم يجهلون كل شيء عن العرب وعن الشعور العربي و«العقلية العربية»، وإنهم لا يفلحون مع هذا الجهل في خطة من الخطط التي يرسمونها على البعد في الخيال.

ولما احتل الفرنسيون فاشودة، كان من رأي كتشنر أن يرفع عليها العلمين الإنجليزي والمصري كما فعل في الخرطوم، فحذره ونجت من ذلك وقال له: إن حجتنا إنما تنقض دعوى الفرنسيين إذا كانت هذه الأرض مصرية تحت الراية المصرية، ولكننا نقف منهم موقف المتنافسين على الأرض الأجنبية إذا رفعنا رايتنا على تلك البقعة. فأذعن كتشنر بعد لجاج طويل، وذهب إلى ملاقاة الضابط الفرنسي مرشان وهو يلبس الطربوش والكسوة العسكرية المصرية، وخرج كتشنر بفضلها وشهرتها، وبقي ونجت منسيا مغمورا في هذا الحادث، على دأبهم معه في الحوادث الأخرى.

ولما اختلف كرومر وونجت على الخطة التي تتبع في السودان بعد الثورة المعروفة بثورة «الجبخانة»، كان كرومر يشير باستخدام العنف وتجربة فرقة من جيش الاحتلال على الخرطوم، وكان ونجت يشير بنقيض ذلك، ويوصي بحل المشكلة بالهوادة والمسايرة إلى حين، فنجح ونجت حيث أخفق كرومر، وقيل يومئذ إن سياسة كرومر هي التي أعادت السودان إلى الطاعة والهدوء.

ومن أخبار هذه الترجمة التي أشرنا إلى بعضها في كتابنا عن سعد زغلول، أن ونجت والسلطان فؤاد اتفقا على إدخال سعد وعبد العزيز فهمي في الوزارة، وكتب «المندوب السامي» إلى حكومته قبل أن يعرف من الوزيرين المرشحين قبول هذا الترشيح، فجاءه الرد من الحكومة البريطانية بالاعتراض على اختيار رجلين معروفين بمقاومة النفوذ البريطاني، في وقت تحتاج فيه الحماية البريطانية إلى المؤيدين.

وجاء في هذه الترجمة أن سعدا كان يلقى ونجت بنادي محمد علي، فيفاتحه في أمر الجمعية التشريعية، وأن الاتفاق على المقابلة بعد إعلان الهدنة، إنما تم بينهما في نادي محمد علي دون أن يخبره سعد بالغرض منه حتى يكون معه صاحباه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، ثم تمت المقابلة ودون المندوب البريطاني أحاديثها بالتفصيل، فلم يختلف نصها ونص الزعماء الثلاثة إلا في القليل.

ونحن نقول إن الكتاب يحتوي من الأخبار الصحيحة ما لا تحتويه أمثال هذه الكتب، ولا نريد بذلك أنه صدق في أخباره جميعا، ولا أنه خلا من الوقائع المحرفة أو المناقضة للواقع الثابت في أسانيدنا نحن المصريين؛ وإنما هي «الصحة النسبية» بالقياس إلى التزييف المتعمد من الألف إلى الياء في كل ترجمة يكتبها الإنجليز عن ساستهم في البلاد الشرقية، ولعل هذه الصلة أثر من آثار الإجحاف الذي حل بصاحب السيرة، ووسيلة من وسائل إبراز الكفاية التي لم يقدرها القوم تقدير الإنصاف والرعاية.

أما الأخبار التي وردت غير صحيحة أو غير محققة في هذه السيرة ، فهي أكثر من الأخبار الصحيحة المحققة، ولا سيما أخبار الحوادث التي اشترك فيها ونجت، وحمل فيها بعض الوزر وبعض التبعة، متعاونا مع زملائه بالسودان أو مع وكالة القاهرة ومكاتب دوننج ستريت.

Неизвестная страница