أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، وقوله - تعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ، ويمثل ذلك أيضا التفرقة بين العلم والحكمة، فالعلم هو مثل الذي تأتي به المدنية الحديثة، أما الحكمة فهي تصريف الأمور ووضعها في مواضعها اللائقة بها، وحكمة مع أمية خير من علم مع قراءة. وكثيرا ما نرى أخا متعلما على آخر طراز، فهذا عالم، ونرى أخاه غير المتعلم إلا الزراعة أو الصناعة أحكم منه وأحسن تصرفا فهو خير منه. والناس يبالغون في تقدير القراءة والكتابة كأنها كل شيء، والله - تعالى - يقول:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
أما برنامجنا فهو أن الأديب لا بد أن تكون له رسالة لنفع العالم، ويكون مداد قلمه نارا ملتهبة، لا إرضاء للأغنياء، ولا أداة للهو والتسلية. والأديب الذي يسير على هذا المنهج الأخير أديب منكس، أو أديب ممسوخ. إن الأدب اليوم في الشرق والغرب جعل المرأة إلها معبودا في الشعر والنثر والرواية، يغني لها، ويطيل في وصف جمالها، ويضعها في موضع القداسة، ومثل ذلك الفن، فهو يمثلها أشكالا وألوانا في الجرائد والمجلات والكتب، كأن لا موجود إلا المرأة، وهو تصوير صادق للاتجاه الحديث. كذلك الشأن في الفلسفة «انحطت حتى صارت مجرد خيالات فيما وراء المادة» والفلسفة الحقة هي التي تدخل في صميم الحياة، ليترتب عليها عمل، والتي تكتب بدم القلب وعصير الروح.
إن التربية الحديثة في الشرق - مع الأسف - جعلت المسلمين في باطن الأمر يخجلون من أنهم مسلمون، ودعاة الإصلاح فيهم يخجلون من دعوة الدين، لسببين؛ أولهما: أنهم يضعون قضية فاسدة، وهي أن المسلمين إذا كانوا متأخرين على هذا الشكل؛ فكيف ندعو غيرهم إلى الإسلام، وفساد هذه القضية ناشئ من أنهم يظنون أن سبب تأخرهم هو الإسلام، وما دروا أن الإسلام عامل من العوامل لا كل عامل؛ إذ أن اليابانيين ارتقوا حتى حاذوا الغربيين مع وثنيتهم، ولو أصلحت العوامل الأخرى لكان الإسلام - وقد نقي من شوائبه - أحد عوامل الترقية. والثاني: أنهم يقلدون الغربيين في نسبة ضعف المسلمين وتأخرهم لدينهم، فهم لا يدعون إلى الدين هربا من هذه الوصمة. وقد سبب هذا مركب النقص في نفوس المسلمين؛ فهم إذا ذكروا أنهم مسلمون ذكروا ذلك على استحياء، ولكن منهجنا يجعل المسلمين يعتزون بدينهم، ويفخرون حقيقة بأنهم مسلمون.
وقد عودنا الله أنه إذا أفلت شمس الإسلام في ناحية طلعت من ناحية أخرى ؛ فقد سقطت الأندلس في يد الإسبان فطلعت شمس الأتراك في الوقت عينه، وكانت في أول نشأتها فتية قوية. ونكبت بغداد بغزوة التتار فعوضهم الله عنها بانتشار الإسلام في الهند، وضاعت فلسطين من أيديهم، فحرك ذلك العالم العربي في سوريا والعراق ومصر وأندونيسيا والشام للسعي للاستقلال في الحياة؛ ولذلك نرجو أن تطلع شمس جديدة على العالم الإسلامي فتكسبه عزة، كالذي كان من ضعف الهند فنبتت عنها دولة الباكستان القوية.
فالمسلمون إذا استعادوا نفوذهم، واعتزوا بنسبتهم إلى الإسلام، ولم تبهرهم مباهج المدنية الحديثة وزخارفها، واعتقدوا في أنفسهم كما قال الله - تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، لكان لهم في العالم الحاضر شأن آخر.
وهنا نتساءل عن مستقبل العالم: هل سينتقل الأوروبيون إلى الإسلام، أو يكون المسلمون أوروبيين؟ قد فكر بعض المسلمين كثيرا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الرجوع إلى الإسلام الأول في شكله وجوهره، وإذا كان هذا لا يمكن إلا إذا أبعد القادة والزعماء من بيئتهم وظروفهم التي يعيشون فيها. فقد رأوا إنشاء مدرسة داخلية يعلمون فيها التعليم الديني الصحيح، ويبعدون فيها عن الاختلاط بالأوساط الموبوءة. وعلى ذلك اقترحوا إنشاء مدرسة لهؤلاء القادة، وأسست مدرسة الدعوة والإرشاد التي قام بإنشائها السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار. وفي هذه الحالة يرضى الأوروبيون عن عقلية المسلمين فيفضلون الإسلام.
ورأى آخرون أن أسباب انحطاط المسلمين ترجع إلى الجهل، فأرادوا أن يزيلوا الجهل عن الأمم الإسلامية فترتفع. قال الفيلسوف ليبنتز: «لو كان أمر التعليم بيدى لغيرت وجه أوروبا في أقل من قرن.» وقال ديديرو الأديب الفرنسي: «إن علة العلل في ارتقاء الأمم وانحطاطها هو العلم أو الجهل، وما عدا ذلك فأسباب جزئية ترجع إلى تلك العلة الأصلية، بل إن العلم هو الذي تقاس به الأمم في ارتقائها وانحطاطها وعند الحروب، بل وفي السلم أيضا وكما تتقاتل الأمم بأشكال مختلفة؛ كالجنود تقاتل الجنود، والتجار تقاتل التجار، فكذلك نستطيع أن نحكم لمن تكون الغلبة؛ فالجندي الذي يقاتل بالدبابات والطائرات يغلب الذي يقاتل بالرمح لامحالة، والتاجر الذي ينزل الحرب بالأساليب الحديثة في التجارة يغلب الذي ينزل بالأساليب العتيقة وهكذا.» وقال ڤولتير: «الظلم الواقع على الأمة عقاب لها على جهلها، وليس المراد بالعلم هذه الأبواب المحفوظة التي يتسمى محصلوها بالعلماء على الإطلاق، وإنما العلم هو معرفة حقائق الكون المبثوثة فيه علما بقدر الإمكان كالعلم الطبيعي والرياضي ونحوهما من علم السياسة والاجتماع.»
Неизвестная страница