صلى الله عليه وسلم
وجدوا أنه خطا في هذه المسألة خطوة جريئة نحو الإصلاح وتوحيد الزوجة، فحرم القرآن الزيادة عن أربع بعد أن كان التزوج مباحا لا إلى حصر، واشترط للتعدد العدل والقدرة عليه؛ فقال:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، والإسلام لا يمنع الخطوة الثانية، وهي قصر الزواج على واحدة، وهو متروك للاجتهاد ينظر فيه المجتهدون إلى حال الزمان والمكان والمصلحة العامة.
بقي بعد ذلك من شبهاتهم الرقيق، ونقول فيه ما قلناه في تعدد الزوجات، وحديث الإفك وحديث الغرانيق، وقد كتب عنهما المرحوم الشيخ محمد عبده في الإسلام والنصرانية ما فيه الكفاية.
ولم يقتصر غزو النصارى للأقطار الشرقية والإسلامية على السيف والحديد والنار، بل لقد غزوها أيضا بمدنيتهم، وتشرب كل قطر من هذه المدنية بمقدار استعداده، وكان الأقباط في مصر والنصارى في لبنان أكثر امتصاصا لهذه الحضارة من إخوانهم المسلمين، ولكن على كل حال أخذ الجميع بقدر وافر من هذه الحضارة، فأصبح كل بيت من بيوت المسلمين يأخذ بقسط منها، فيضاء بالكهرباء ويفرش بالسجاد الإفرنجي، ويسمع فيه الراديو الأوروبي، ونحو ذلك، ولم يقتصر على مسائل الحضارة المادية بل أيضا غزتها بالأفكار والمعاني، فكما أن الأقطار اقتبست عربات الترام، وقطارات السكك الحديدية، ونظام البريد، وآلات الحرث، ونحو ذلك، اقتبست أيضا من الحضارة الأوروبية نظم التعليم، وآراء الأوروبيين في علم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق وما إلى ذلك. وإذ كان المسلمون ذوي حضارة قديمة مأخوذة من حضارة العرب، وما تتابع عليهم من فرس وأتراك ونحوهما، وما اقتبسوه من فلسفة يونانية ورومانية؛ فقد اضطربت في أذهانهم وحياتهم المادية الحضارة القديمة التي عاشوا عليها قرونا مع الحضارة الحديثة اضطرابا شديدا يختلف باختلاف الأمم والأفراد في الأمة الواحدة؛ فقد يغلب ذاك وقد يغلب هذا، وربما ظهر هذا بأجلى مظاهره في الأدباء الشرقيين، فمنهم من إمامه الشاعر الجاهلي والمتنبي وغيرهما من أصحاب الأدب القديم، وفي النثر إمامهم الجاحظ وأبو الفرج الأصفهاني وابن خلدون ونحوهم، ومنهم من إمامهم شعراء أوروبا وناثروهم وروائيوهم وقصاصوهم ... إلخ، وهؤلاء أيضا يضطربون فيما بينهم اضطراب الحضارة القديمة بالحضارة الحديثة. وإذ كانت الحضارة الأوروبية مسيحية في جوهرها كان الأقباط في مصر والمسيحيون في لبنان أقرب إلى تقليدها والأخذ عنها، وكان اقتباس القسم المادي من الحضارة أكبر من اقتباس القسم المعنوي. وإذ كان هذا الاضطراب حادا كان السير على المدنية الغربية سيرا أعوج؛ كما يقول اللورد كرومر في مناصري المدنية الغربية: «إنهم مسلمون، وليس فيهم خواص إسلامية، وأوروبيون وليس فيهم خواص أوروبية»، ودليلنا على ذلك ما تحمله إلينا البواخر كل يوم من نتاج المدنية الغربية، مما له تأثير كبير في الشرق، ويظهر مدى تأثيره في الانقلاب الفظيع الذي حدث للمسلمين في منتصف القرن التاسع عشر والعشرين، فإنك لو قارنت بين تغيرهم في هذا القرن وتغيرهم في العشرين قرنا الماضية، لوجدت التغير الحادث في القرن الأخير يكاد يكون مساويا للقرون العشرين الماضية، بل لقد أصبح مقياس المفكرين من المسلمين والمثقفين ثقافة عالية في كل نظام يضعونه، ومشروع يقومون به، وفكرة يدعون إليها؛ تساؤلهم السؤال الآتي: ما هو رأي علماء أوروبا في ذلك، ومن ابتكره، وبم أيدوه، وبم عارضوه؟ وقلما يتساءلون: ما رأي الحضارة الإسلامية القديمة في ذلك، وهل يتفق مع مبادئها أو يخالفها؟
نعم كانت هذه الحضارة الغربية ذات أثر تقدمي كبير في العالم الإسلامي، ولولاها لظل يرسف في قيوده التي كان يرسف فيها، ولكنها لا تخلو من عيوب؛ فقد باعدت بينه وبين الحضارة الإسلامية القديمة، ولم تكن ناتجة من نفس المسلمين كما كانت الحضارة الغربية ناتجة من نفس الغربيين، بل هي دخيلة عليهم دخول الأجنبي بلادهم، ومثلها مثل شجرة أريد تضخيمها بأوراق شجرة أخرى من الخارج، لا بنموها الطبيعي لها من الداخل. إن الحضارة الغربية قد نشأت ولها من ذاتها غالب عناصرها وخواصها وصفاتها نشوءا طبيعيا متدرجا، مجتازة الأدوار المختلفة على مقتضى سنة النشوء، أما الشرق؛ فهو في كثير من مواضع الانقلاب يطفر في تحوله طفورا؛ إذ إن ما يأخذه عن الغرب ويقتبسه منه دفعة واحدة قد تقضت على تكامله عند الغربيين الأجيال والقرون، فكانت النتيجة أن غلبت صفة الطفرة لا صفة النشوء المترقي على تطور الشرق هذا التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني وغير ذلك. ولذلك كثيرا ما ترى في الشرق المحراث القديم الذي كان في عهد «مينا» بجانب أحدث طراز من المحراث الإنجليزي أو الأمريكي، وترى منهج الدراسة الأزهرية في القرون الوسطى بجانب الدراسة الجامعية التي تسير على نمط جامعات أوروبا وأمريكا.
وأيا ما كان؛ فما هو مستقبل الإسلام؟ يدور هذا السؤال في الخاطر والجواب عنه صعب عسير؛ لأنه خاضع لعوامل كثيرة في المستقبل سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية. إن مما لا شك فيه أن الأمم الإسلامية سترتقي ارتقاء تدريجيا في الشئون الاجتماعية والاقتصادية وخاصة في العلوم الدنيوية، وكل يوم يدل على أن الأمم الإسلامية سائرة إلى الأمام في هذه الأبواب. ولكن ما هو مصير الإسلام كدين وهو أحد العوامل في رقي الأمم؟ يتوقف هذا على الحرب القادمة، فكل الدلائل تدل على أنه في الأرجح أن تقوم الحرب في العشر السنوات القادمة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الديموقراطي، وسيكون العالم الإسلامي أحد الميادين لهذه الحرب، وسيكون ميدانا يقع فيه المد والجزر أولا، ثم قد تنتصر الشيوعية وقد تنتصر الديموقراطية، فإذا انتصرت الشيوعية؛ فليس هناك أمل كبير في الحالة الدينية وقيام الإسلام من جديد إلا إذا عادت الشيوعية الى التدين، أما إذا انتصرت الديموقراطية؛ فسيكون هنا مجال للدين الإسلامي كالمجال للدين النصراني، ولكن في هذه الحالة يحتاج المسلمون مع نشاطهم العلمي إلى إصلاح ديني جريء شامل، وأهم ما يحتاجون إليه الاجتهاد المطلق الذي شرحناه من قبل والذي ينظر إلى الإسلام وتعاليمه من جهة وإلى حالة كل قطر اجتماعية وما يلزمها من جهة أخرى.
فنحن محتاجون إلى اجتهاد كاجتهاد عمر الذي أوقف الإعطاء للمؤلفة قلوبهم مع أن الله عدهم ممن يأخذون الصدقات، وعلل ذلك بأن الدين إذ ذاك كان قلا فكثر، ومثل إيقاع الطلاق الثلاث ثلاثا مع أن الآية تقول الطلاق مرتان والطلاق الثلاث ليس إلا مرة.
ولئن كان الاجتهاد المطلق عسيرا في الأيام الماضية فهو أسهل اليوم؛ إذ كان المجتهد يرحل من بغداد إلى مصر لأخذ حديث واحد أو تصحيحه، فالكتب اليوم والمطابع يسرت الأمر على من أراد الاجتهاد. وكل زمن محتاج إلى مجتهد، بل مجتهدين في كل قطر، يعرفون مطالبه والحالة الاجتماعية التي تدعو إلى نوع من هذا الاجتهاد، وما قد يصلح في قطر قد لا يصلح في آخر، وما يحتاج إليه قطر قد لا يحتاج إليه الآخر، وما يحتاج إليه القطر في عصر قد لا يحتاج إليه القطر في عصر سابق.
وقد لاحظ المصلح الشهير سراج علي الهندي أن آيات الأحكام التي وردت في القرآن نحو مائتي آية من آلاف الآيات، ورأى أن جزءا كبيرا من هذه الآيات لم يرد في الأحكام قصدا، وإنما استنبط الفقهاء منه أحكاما شرعية، مع أنها وردت للوعظ والإرشاد أو بنحو ذلك، وقد روي من هذا القبيل نحو ثلاثة أرباع هذه الآيات فلم يبق إلا ربع هذه الآيات وهو خمسون آية يضاف إليها نحو سبعة عشر حديثا في الأحكام هي التي صحت عند أبى حنيفة النعمان، كما قال ذلك ابن خلدون في مقدمته. فآيات الأحكام وأحاديث الأحكام تجعل باب الاجتهاد مفتوحا أمام المجتهدين. ورأينا في هذا الاجتهاد بهذا المعنى الواسع يعتمد فيه على سنة عمر ومن سلك مسلكه، فأمد هذا الباب بآراء كثيرة اجتهد فيها. •••
Неизвестная страница