درس الحالة الحاضرة. إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي. إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها. وقد حز في نفس الرئيس ما صارت إليه حالة المسلمين وارتقاؤهم، وكان مما قاله: إن لفظة العالم الإسلامي ليست شيئا اخترعه المبشرون، وإنما هو حقيقة موجودة، كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي، وقال: إن عدد المسلمين يزيد قليلا على مائتي مليون، والتبشير فيهم يحتاج إلى نفقات طائلة، خصوصا وأن الإسلام ينتشر بسرعة، والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي أفريقيا وبلاد النيجر والكونغو يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء، ومع أن انتشار الإسلام في الهند قد لقي موانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولاندية والألمانية، فهو يتوطد هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون بالتقاليد القديمة عقائد ثابتة وقوية، وانتقل الرئيس إلى وصف الانقلابات التي حدثت في البلاد الإسلامية، وحمد الله عليها، وأثنى على احتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة واداي في أفريقيا، وقال: إنه لم يبق الآن إلا 37 مليونا و128 ألفا و800 آحادا، تحت سلطة حكومة إسلامية، وقال: إن الإسلام بدأ يتنبه لحقيقة موقفه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن عن ثلاث حركات إصلاحية؛ الأولى: إصلاح الطرق الصوفية، والثانية: تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية، والثالثة: إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول. وأشار إلى قول الدكتور «و. شيد»: إن الإسلام يتحكك في كل قطر بالمدنية العصرية ومبادئها، وقال: إنه ليس في الإمكان التقدم الاجتماعي والعقلي إذا خلوا من كل صبغة دينية، وانتقل «زويمر» بعد ذلك إلى استنهاض الكنائس لمقاومة المسلمين، ونشر التبشير بينهم، وختم القسيس كلامه بقوله: «إذا نظرنا إلى البلاد التي يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه، يظهر لنا أن كل واحدة من هذه البلاد هي رمز لعنصر من المعضلة الكبرى، فمراكش في الإسلام مثال للانحطاط، وفارس مثال للانحلال، وجزيرة العرب مثال للركود، ومصر مثال لمجهودات الإصلاح، والصين مثال للإهمال، وجاوه مثال للتغير والانقلاب، والهند مركز للتحكك بالإسلام، وأفريقيا الوسطى مكان للخطر الإسلامي، وهذه كلها مشاكل يحتاج الإسلام معها قبل كل شيء إلى المسيح. •••
ومن المؤسف أن حاجة المسلمين إلى الجامعة الإسلامية هي اليوم كما كانت ولم تتقدم كثيرا، ولم تكف أوروبا عن مناهضتها، وكل حادثة من الحوادث الكبار تؤيد الرأي القائل بأن المسلمين لا تقوم لهم قائمة إلا بهذه الجامعة، وآخر حادثة كانت هي حرب فلسطين، فإن العالم العربي لم يتحد على مقاومة اليهود، كما اتحدت إنجلترا وأمريكا على مناصرتهم، فضلا عن عدم اتحاد العالم الإسلامي، ولو ظل الأمر على هذا النحو فلم يتعظوا بهذا ولم يلموا شملهم، فستضيع كل يوم بلاد إسلامية جديدة، فهل يتعلم المسلمون اليوم هذا الدرس، بما أصابهم من فشل؟ أو سيبقون كما هم حتى يلدغوا من جحر واحد مرتين وثلاثا لا قدر الله؟ إن الجواب عن هذا السؤال ملفوف بحجاب المستقبل.
وأدركت إنجلترا وفرنسا خطر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، فأوعزتا إلى السلطان عبد الحميد بانتداب محمد علي لقتال الوهابيين، والقضاء عليهم، وأوعزت إنجلترا إلى فرنسا بإغلاق جريدة العروة الوثقى للسيد جمال الدين الأفغاني، كما بثت الدعوة في أوروبا كلها للفزع من هذه الجامعة الإسلامية واستبشاعها، وعلمت إنجلترا وفرنسا أن هذه الجامعة لا تكون إلا بالتعصب للإسلام، فكرهتا في هذا التعصب، وعدتاه رذيلة من أكبر الرذائل، وخوفتا المسلمين منه رجاء كرههم له وعدولهم عنه مع أن هذا التعصب فضيلة من أكبر الفضائل يقابله تعصب النصارى ضد المسلمين، بل إن فرنسا كان من دعوتها محاربة اللغة العربية؛ لأنها وسيلة للدين الإسلامي، والدين الإسلامي وسيلة للتعصب؛ فكل قطر لا يقوى وحده بإصلاحه ودعوته على محاربة الاستعمار؛ لأن الاستعمار أقوى منه، ولكن العالم الإسلامي كله بما فيه من ثلاثمائة مليون على الأقل قادر إذا أخلص النية وصحح العزم على محاربة النصرانية مجتمعة، وقد كان من أهم مبادئ الإسلام الحج كل عام؛ ليكون مؤتمرا يتذاكر فيه المسلمون شئون دينهم وحالتهم الاجتماعية، ويرسمون الخطط لهذا الإصلاح، كما كان من مبادئ الإسلام أن يكون المسلمون كلهم تحت لواء خليفة واحد يرعى شئونهم، وينظر إلى مصالحهم، فهذان المبدآن كانا يوحدان الغرض ويوحدان العمل.
لقد اختلف المصلحون؛ فكان مثلا مثل الشيخ محمد عبده يرى أن التربية الإسلامية الصحيحة يجب أن تسبق الجلاء، وأنها إذا وجدت ألفت بين القلوب، وقضت على التنافر، وجعلت المسلمين وحدة يرمون النصارى إلى خارج بلادهم، ووجد دعاة آخرون أمثال مصطفى كامل كانوا يرون الجلاء أولا؛ لأن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يكون ناجحا في عهد الاستعمار، وهو المسيطر على البلاد، القابض على زمام الأموال، المشرف على حركات التربية والتعليم، ومهما كان فكلا الرأيين متفق على ضرورة وحدة العالم الإسلامي واجتماع قواه. وكان من أكبر أسباب تخاذل المسلمين في الحرب الفلسطينية الأخيرة عدم توحد القوى، وعدم وضوح الهدف أمام الجميع، فمصر تحارب، والعراق تنكمش، وشرق الأدرن تمالئ، وكل يدلي بحجته في تبرير مسلكه، وهم جميعا متفقون على أن وحدتهم كانت قوة وتخاذلهم كان شرا عظيما، وكان من نتيجة الفشل مهما قيل في أسباب التخاذل وعلله؛ ضياع فلسطين.
وفترت حدة بعض الدول الأوروبية في التشهير بالجامعة الإسلامية كما كانت في عهد جمال الدين الأفغاني؛ لأنهم أدركوا أن في تكتل العالم الإسلامي وتوحده مصلحة لهم، على شرط أن يكون هذا التكتل ضد روسيا وضد الشيوعية، وكان يصح أن يتخذ المسلمون هذه فرصة سانحة لتكوين وحدتهم والعمل على تكتلهم كما كانت السلطنة العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد تنتهز الفرصة لوقوع الخلاف بين إنجلترا وروسيا لتشق الطريق بينهما، وما كانت تستطيع أن تشقه إذا اجتمعتا.
ولقد كان المرحوم سعد باشا زغلول يرى أن يسبق الدعوة إلى الجامعة العربية أو الجامعة الإسلامية انشغال كل قطر بتقوية نفسه حتى تكون هناك قيمة لائتلاف الأمم القوية لا الأمم الضعيفة، فبعد أن تقوي الأمم نفسها يكون لها هناك جامعة عربية أو جامعة إسلامية. على أنه فيما أظن لا ينكر أن وحدة العالم العربي أو العالم الإسلامي هو الهدف الأخير، إنما يجب أن تسبقه مقدمات مثل أخذ كل قطر بتقوية نفسه.
وكان السلطان عبد الحميد على عيوبه التي منها الاستبداد والإمعان في الشهوات من أكبر دعاة الجامعة الإسلامية، يرى أنه لا يمكن الاستغناء عن العنصر العربي بجانب العنصر التركي، وأن اجتماع العنصرين قوة لا يستهان بها فإذا انفرد كل ضعف، واستغل في ذلك سلطانه على الحرمين الشريفين مكة والمدينة، ولما أرادت إيطاليا الاستيلاء على طرابلس الغرب وقف العرب بجانب الترك مستأسدين واستطاعوا أن يهزموا الطليان أولا هزيمة منكرة. كل ذلك جعل الأوروبيين من إنجليز وفرنسيين يخشون بأس تركيا، ويحذرون قوتها بهذه الجماعة الإسلامية. ولهذا لما قضى مصطفى كمال على الخلافة هب الهنود المسلمون ورأوا فناءها كارثة على الإسلام والمسلمين ... وجاءت حركة مصطفى كمال ترى أن انضمام العرب والترك كان كارثة على الترك، خصوصا بعد ما ظهر من تخلي العرب عن الترك في الحرب العالمية الأولى فنادى بالتخلي عن العرب والاقتصار على العنصر التركي؛ لأن ذلك يسهل له طريق النهوض من غير أن يحمل على ظهره أعباء النهوض بالعرب أيضا. ومن ناحية أخرى رأى العرب أن الأتراك وحكمهم سبب تأخرهم وعدم نهوضهم فتخلوا عنهم، فكان هذا الانشقاق كارثة على الجامعة الإسلامية كلها. ومن ذلك الحين لم تصف نفوس العرب ولا نفوس الأتراك إلى اليوم، وظلت هناك كتلتان: كتلة عربية وكتلة تركية على غير وئام وانسجام، وأصبحت نزعتاهما مختلفتين: نزعة للعرب، يدعو قادتها إلى الرجوع إلى الإسلام الأول مع الأخذ من المدنية الغربية بأحسن ما وصلت إليه، وخاصة العلم، ونزعة تركية، تدعو إلى التحرر من الماضي واتخاذ المدنية الغربية أما في كل شيء. ولكن الإسلام إذا دخل قلبا صعب عليه أن يخرج منه، فرأينا الأتراك بعد موت مصطفى كمال يحنون إلى الإسلام من جديد ويرجعون في نزعتهم بعض الشيء وخصوصا الأشياخ منهم. ومن الأسف أن فكرة الجامعة الإسلامية مع ظهورها لم يتحد العرب والأتراك في اعتناقها، حتى لما رأت حكومتا أمريكا وإنجلترا مصلحتهما في تكتل المسلمين كتلة واحدة معهما أشارتا على العرب والترك بالاتحاد فكان ذلك خضوعا للإشارة، لا مراعاة للمصلحة.
ولما قامت الحرب العالمية الأولى أحست أوروبا بالقلق واحتمال الهزيمة؛ فاستنصرت بالمبادئ الإنسانية الأخلاقية القويمة، من مثل حق الأمم الصغيرة في حكم نفسها بنفسها، وإطلاق حريتها ونحو ذلك. وصرحت عشرات التصريحات في هذا المعنى فاعتقد العالم الإسلامي صحة هذه الأقوال ومنوا أنفسهم أماني بعيدة، وتداول المسلمون في جميع الأقطار هذه الأقوال بل حفظوها حفظا، فلما انعقد مؤتمر فرسايل تبخرت كل هذه الأقوال، وعاد الأوروبيون إلى مسلكهم الأول، وانفجر العالم الإسلامي في كل مكان، واشتعلت الثورة في مصر، وفي طرابلس، وفي المغرب، وفي الهند تطلب كلها إبرار الأوروبيين بوعودهم، وافتتح العالم الإسلامي عهدا جديدا، عهدا مؤسسا على خيبة الأمل والانخداع بالوعود الأوروبية مما حمل الأوروبيين على أن يغيروا موقفهم تجاه هذه الحركات العنيفة، فغيروا كلمة الاستعمار بكلمة الانتداب، ومنحوا بعض الأقطار الاستقلال كاملا أو ناقصا، وعلى العموم فقد خطت البلاد الإسلامية خطوة جديدة لم تكن معروفة للعالم الأوروبي من قبل. ولما جاءت الحرب العالمية الثانية تكررت نفس المأساة؛ فكان بعض العقلاء يرون أن وعود الأوروبيين والأمريكيين وعود خلابة لا تثبت في السلم، وأن السلم إذا جاء يبخرها، ولكن أكثر الشعوب الإسلامية انخدع في المرة الثانية كما انخدع في المرة الأولى، وإذا كانت الشعوب الإسلامية قد لدغت مرة من قبل، فإنها لم تتألم من اللدغة الثانية تألمها من اللدغة الأولى، ولكن ظل حنقها كمينا.
وحين جاءت الحرب العالمية الثانية شفى العالم الإسلامي غليله لوقوع القتال بين الدول النصرانية؛ علما منهم بأن الخاسر في هذه الحرب هو الغالب والمغلوب معا، وأملت أن يكون في هذه الحرب الساحقة ما يخفف الأثقال عن كاهلها.
ولا يدري إلا الله ماذا سيكون لو وقعت حرب ثالثة، فربما أمل العالم الإسلامي خيرا من النزاع الشديد بين الدول الديموقراطية، أو بعبارة أخرى الرأسمالية، وبين روسيا الشيوعية، فإن الاختلاف بين الدول النصرانية يفسح المجال أمام العالم الإسلامي، ويجعله يشق طريقه بين المذهبين، ويستطيع أن يكسب من الخصمين إذا أحكم النظر وأعمل الفكر. ولكن فت في عضد المسلمين داخليا ما رأوه من تخاذل المسلمين وكذبهم في سبيل النصرة ضد الصهيونيين، وخارجيا بما رأوه من اتفاق الكتلتين الديموقراطية والشيوعية على مناصرة الصهيونيين، وإخراج المسلمين من ديارهم، ومساعدتهم بكل ما أمكنهم؛ فكان التخاذل مع الحق أمام الاتحاد على الباطل، ولكن ربما كان هذا نارا تلهب قلوب العالم الإسلامي من جديد، وتنكأ جروحهم القديمة، وتجعلهم يؤمنون بأن الأمل في الاعتماد على فريق منهم أمل ضائع، وألا أمل إلا في الاعتماد على الله وعلى أنفسهم.
Неизвестная страница