وندم أهل قنّسرين، وراسلوا خالدًا، فأرسل إليهم: لو أنّ الأمر إليّ ما باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكنّي في سلطان غيري. قال: فإن كنتم صادقين فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة. فساموا سائر تنوخ ذلك فأجابوا، وأرسلوا إلى خالد: إن ذلك إليك، إن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم. فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم. فلما علم أبو عبيدة والمسلمون بذلك. قالوا: اخرج بنا وخالد ساكت. فقال أبو عبيدة: مالك يا خالد لا تتكلم؟ فقال: قد عرفت الذي عليه رأيي، فلم تسمع من كلامي. قال: فتكلّم. فإني أسمع منك وأطيع، فأشار بلقائهم. فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين والروم معهم، فاحتوى المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وما زال خالدٌ على إمارة قنسرين حتى أدرب خالدٌ وعياضٌ سنة ١٧.
وبعد رجوعهما من الجابية رجع عمر إلى المدينة. فأصابا أموالًا عظيمةً، وقفل خالدٌ سالمًا غانمًا، وبلغ الناس ما أصابوا في تلك الصائفة، وقسم خالدٌ فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق وكان الأشعث ابن قيس ممّن انتجع خالدًا بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهمٍ.
وكان عمر لا يخفى عليه شيءٌ في عمله، فكتب إليه من العراق بخروج من خرج منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها، فدعا البريد. وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيل خالدًا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث؛ أمن ماله؟ أم مما أصابه، فإن زعم أنّها ممّا أصابه فقد أقرّ بخيانةٍ، وإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف واعزله على كلّ حال. وضمّ إليك عمله.
فكتب أبو عيبدة إلى خالدٍ فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلافٍ، أم مما أصبته؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكتٌ لا يقول شيئًا، فقام بلالٌ إليه، فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعًا وطاعةً. ووضع قلنسوته، ثمّ أقامه فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم ممّا أصبته؟ قال: لا، بل من مالي. فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده. ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخّم ونكرم موالينا. وأقام خالدٌ متحيرًا، لا يدري أمعزولٌ أم غير معزولٍ. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويدّه مفخمًا ويخيّره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالوصول.
فأتى خالد أبا عبيدة فقال: رحمك اله ما أردت بالذي صنعت كتمتني أمرًا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم. فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك، ما وجدت من ذلك بدًّا، وقد علمت أنّ ذلك عملٌ. وودّعهم، وقال خالدٌ: إنّ عمر ولاّني الشام حتى إذا ألقى بوانيه صار بثنيّةً وعسلا عزلني واستعمل غيري.
وتحمّل وأقبل إلى حمص، فخطبهم وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر فشكاه. وقال: لقد شكوتك للمسلمين، وبالله إنّك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثّراء؟. فقال: من الأنفال والسّهمان. فقال: ما زاد على الستّين ألفًا فلك ثم شاطره على ما في يده، وقوّم عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفًا فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد والله إنك لعليّ الكريم، وإنك إليّ الحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ. ثم إنّه عوّضه بعد ذلك عمّا أخذه منه.
واستعمل أبو عبيدة على قنسرين حبيب بن مسلمة بن مالكٍ.
وأمّا هرقل فإنّه تأخّر من الرّها إلى سميساط، ووصل منها إلى قسطنطينية. فلما وصل علا على شرفٍ، والتفت نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلامٌ لا اجتماع بعده.
في سنة ٩٠ وولّى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك فدخل مسلمة حران. وكان محمد بن مروان يتعمّم للخطبة، فأتاه آتٍ، فقال: هذا مسلمة على المنبر يخطب!. فقال محمدٌ: هكذا تكون الساعة بغتةً!. وارتعدت يده، فسقطت المرآة من يده. فقام ابنه إلى السيف فقال: مه يا بنّي، ولاّني أخي، وولاّه أخوه.
وكان أكثر مقام مسلمة بالنّاعورة، وبنى فيها قصرًا بالحجر الأسود الصّلد، وحصنًا بقي نه برجٌ إلى زماننا هذا.
وكان عبد الملك بن مروان يقول للوليد: كأنّني بك لو قدمتّ قد عزلت أخي وولّيت أخاك. ومات الوليد بن عبد الملك في سنة ٩٦.
1 / 5