والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار، ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين.
وخيرا تصنع الحياة، إذ تجعل كل حي مستقلا بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه، فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون.
وفرق شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون، وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه، ولكني أستطيع أن أجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!
لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر «بالنيابة» عني، وإلغائي لشعوري أنا معتمدا على ما جربه واهتدى إليه، أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعا على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل.
وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم، ولكنها مسألة رياضة.
فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق؛ لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلا السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية، فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق، ولكنه «ريض» على حالة لا يستطيع غيرها، ولو فهم أن غيرها هو الصواب.
ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا: إن «الصبر مفتاح الفرج.» تفهم لفظا ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس، وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة عن تلك الكلمات الثلاث!
إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا، فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع نحن من الحوادث والتجارب دون أن «نأكلها» كما أكلها الذين من قبلنا.
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء، وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام، وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك، وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين، وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين.
Неизвестная страница