الفصل السابع عشر
الفنون الجميلة ضرورية
«تعودنا أن نسمع أن الفنون الجميلة من الكماليات التي يأتي دورها بعد العلم والصناعة في الأهمية، وفي مقالكم المشار إليه تقولون: إن علينا أن نبدأ بالفنون الجميلة والرياضة لنتعلم الإرادة والعمل، فهل لكم أن تنيروا الطريق لنا بالتوفيق بين القولين؟» •••
الحق يا صاحبي أننا في عصر نحتاج فيه إلى غربلة وافية لجميع الألفاظ التي لهجنا بها زمنا في مطلع نهضتنا الحديثة، ومنها ألفاظ الضروريات والكماليات، وتقديم الأهم على المهم والمفاضلة بين العلوم والفنون، وسائر هذه المحفوظات التي خلت من المدلول لكثرة تكرارها، واكتفاء الآذان بسماعها دون التفكير فيها.
فمن الواجب «أولا» أن نفرق بين الفرد والأمة فيما هو من الشئون الضرورية، وما هو من الشئون الكمالية.
فالفرد لا يشترط فيه أن يستوفي جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية، وليس من اللازم ولا من المستطاع أن يكون قويا وذكيا وجميلا وعالما وشاعرا وصانعا، وغنيا وسائسا زعيما ومفكرا مقتدى به وإماما متبعا في مطالب الحياة كافة.
ولكن إذا اجتمع عشرون مليون فرد في قطر واحد، فمن الضروري - وليس من الكمالي - أن تتوافر بينهم جميع المزايا الإنسانية، والملكات الحية التي تتفرق في الأفراد، وإلا كان النقص دليلا على مسخ ذريع في التركيب، وعجز شائع في عناصر الطباع، ويستوي هنا أن يكون الناقص لعبا أو جدا، وفنا أو علما، وخلقا أو رأيا، فإنما المهم أن الملايين العشرين يتسعون لكل مزية عرفت في بني الإنسان، وإلا كانوا ناقصين في الضروريات للأمة، وإن كانت معدودة بالقياس إلى الفرد من الكماليات والنوافل.
ومن الواجب «ثانيا» أن نقلع عن تقويم المطالب القومية بمقدار الحاجة إليها والاستغناء عنها، فإن ذلك تقويم غير صالح وغير صحيح.
فنحن نستطيع أن نعيش بغير ملكة النظر، وبغير ملكة السمع أو الكلام سبعين سنة دون أن نهلك من جراء ذلك.
ولكننا لا نستطيع أن نعيش بغير الرغيف وما إليه سبعين سنة ولا سبعين شهرا ولا سبعين يوما إلا هلكنا هلاكا لا ريب فيه؛ ولم يقل أحد من أجل ذلك: إن الرغيف أغلى من البصر، وإن ملكات الحس لا تستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب.
Неизвестная страница