واعلم يا صاحبي أن العامة في كل زمان وحش محبوس لا ينال فريسته إلا بعد تحريش وانطلاق، وإن الذين يحرشونه ويطلقونه هم أصحاب الدنيا وعروضها، وليسوا بأصحاب العقائد وفروضها، إلا في النادر الذي يحسب من الاستثناء.
وما أصدق المعري حين قال متسائلا: ما للناس ولي وقد تركت لهم دنياهم؟!
فإنه قد لمس الداء في أصوله حين حسب أن ترك الدنيا يتركه في أمان، وقد تركه فعلا في أمان إلا من القيل والقال، وهو أهون ما يمر بالرجال.
تفلسف يا صاحبي كما تشاء، ودع الناس يتفلسفون كما يشاءون، فما دامت فلسفتك لا تصيب أحدا في دنياه، ولا تفيد أحدا في دعواه، فأنت ظافر برضوانهم وظافر عندهم برضوان.
أما إذا أصبت دنياهم ونقضت دعواهم فيا ويلك إذن من الأرض والسماء، ويا سوء ما تلقاه من العلية والدهماء، ولو زكاك النبيون وشهد لك الأولياء، ولزمت الصلاة والدعاء في كل صباح ومساء.
وما لك تذكر الخطر على الفلاسفة ولا تذكر الخطر على حماة الدين من الأنبياء والمرسلين؟ فهم الذين علموا الناس الأديان، وهم الذين يثار الناس باسمهم حين يثارون على الفلاسفة ومن يزعمونهم من أهل النكران والجحود، ولو وزنت حظوظهم من البلاء والاستهزاء ووزنت معها حظوظ الفلاسفة والمتفلسفين، لما حارت «شركات التأمين» بين أصحاب اليسار وأصحاب اليمين.
هي الدنيا يا صاحبي تظلم الدين كما تظلم الفلسفة بما تدعيه عليه وعليها، وأحسبني قد باكرت هذا المعنى القديم حين قلت قبل نيف وثلاثين سنة:
لو كان ما وعدوا من الجنات في
هذي الحياة لسرهم من يكفر
فدع دنياهم وتفلسف على بركة الله، وأنت في أمان من الله ومن عباد الله.
Неизвестная страница