وإنما الوجه أن يحضروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور.
كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم «أنبغ» من قرينه الحديث؟ فلا يسألون مثلا: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب، فما هو الموضوع، وإن لم يكن موضوع، فما هو المقال أو الجملة أو العبارة؟! ولو كلفوا أنفسهم سؤالا كهذا لمالت معهم كفة الميزان، وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعدلها نظير من مزايا المتأخرين.
وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي، ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى، فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم أن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم، فضلا عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟
أما أنا فأغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وأن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجا من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا الخط معروف الأصول، معروف النطاق، وإن يكن معروفا بحروف النوطة وأصوات السماع.
كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة.
فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الإسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهندنبرج ومصطفى كمال، ولو أنهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار.
ودع أنهم ينسون أن كل حرب لا بد فيها من ظافر ومن مهزوم، وأن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه، ونتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين.
ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض، وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم.
دع هذا جميعه، فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسون، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء، وهي قائمة على دعاوى وأكاذيب، نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابا وأنصاف أرباب وقديسين وأشباه قديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوى والأكاذيب، إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين، لا أن يغض معه ويحيف عليه؛ لأنهم - وهم آدميون ليس إلا - يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب.
ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه.
Неизвестная страница