الفصل التاسع عشر: الفائزون
لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مقلبها، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذا باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وكلوا برعي كواكبها، ونادوا أنفسهم صبرًا على نار حطبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها، واشتاقوا إلى لقاء حبيبهم فاستطالوا مدة المقام بها.
إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها؟
سبقتي بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش ببيداء المهامه حوتها
بعض العبادات كانت تقول: والله لقد سئمت الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لا شتريته شوقًا إلى الله وحبًا للقائه، فقيل لها: على ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا والله، لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه:
يا ناظر العين قل هل ناظرت عيني ... إليك يومًا وهل تدنو من البين
الله يعلم أني بعد فرقتكم كـ ... طائر سلبوه من الجناحين
ولو قدرت ركبت الريح نحوكم ... فإن بعدي عنكم قد حنا حين
لله در أرواح تشتاق إلى روح قربة، وتلتذ عند ابتلائه بوقع ضربة، ويطول عليها الزمان شوقًا إليه لحبه، إن سألت عن صفاتهم، فكل منهم مخلص لربه مجتهد في طاعته، خائف من عتبه، قائم على نفسه باستيفاء الحق منها على قلبه وأنشد:
كيف يقعد رقيب مشتاق بحركة ... إليكم الخافقان الشوق والأمل
فإن نهضت فما لي غيركم وطر ... وإن قعدت فما لي عندكم شغل
لو كان لي يد ما اخترت غيركم ... فكيف ذاك وما لي غيركم بدل
ولم تعرض الأقوام بعدكم يستأ ... ذنون على قلبي فما وصلوا
1 / 105