Евреи в истории древних цивилизаций
اليهود في تاريخ الحضارات الأولى
Жанры
مقدمة المترجم
1 - البيئة والعرق والتاريخ
2 - نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
3 - دين بني إسرائيل
4 - الآداب العبرية
مقدمة المترجم
1 - البيئة والعرق والتاريخ
2 - نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
3 - دين بني إسرائيل
4 - الآداب العبرية
Неизвестная страница
اليهود في تاريخ الحضارات الأولى
اليهود في تاريخ الحضارات الأولى
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
كان الفيلسوف العلامة غوستاف لوبون قد وضع كتابه الجليل «حضارة العرب» في سنة 1884، ووضع كتابه الجليل الآخر «حضارات الهند» في سنة 1887، ونقلنا هذين السفرين فأصبحت ترجمتهما لدى القراء.
ومما حدث في سنة 1889 أن أخرج العلامة لوبون كتابا ضخما ثالثا سماه «الحضارات الأولى»، ولم يكن هذا السفر في درجة سابقيه أهمية، وكنا ننقله إلى العربية، مع ذلك، لو لم يكن معظمه خاصا بقدماء المصريين والكلدانيين والآشوريين؛ فقد قلبت أعمال الحفر في مصر والعراق معارفنا في حضارات تلك الأمم رأسا على عقب، فأصبح ما في كتاب «الحضارات الأولى» من المعارف عنها محتاجا إلى إعادة نظر وتجديد تأليف؛ كي يتساوى هو وما انتهى إلينا من حضارات تلك الأمم بعد وضعه.
بيد أن كتاب «الحضارات الأولى» ذلك يشتمل على جزء صغير بالغ الخطورة خاص باليهود، ففي هذا الجزء تحرر العلامة لوبون من نير التقاليد الموروثة في الغرب، كما تحرر في غيره من كتبه، فانتهى إلى نتائج مهمة إلى الغاية.
Неизвестная страница
انتهى إلى أنه «لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت في شيد المعارف البشرية، واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ.»
انتهى إلى أن «قدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون الذين لا أثر للثقافة فيهم من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها.»
انتهى إلى أن «تاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يوشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان.»
وانتهى إلى أن «تأثير اليهود في تاريخ الحضارة صفر، وأن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة.»
انتهى إلى أن «اليهود قد ظلوا حتى في عهد ملوكهم بدويين أفاقين مفاجئين مغيرين سفاكين مولعين بقطاعهم مندفعين في الخصام الوحشي، فإذا ما بلغ الجهد منهم ركنوا إلى خيال رخيص، تائهة أبصارهم في الفضاء، كسالى خالين من الفكر كأنعامهم التي يحرسونها.»
انتهى إلى أن «فلسطين أو أرض الميعاد، لم تكن غير بيئة مختلقة لليهود، فالبادية كانت وطنهم الحقيقي.»
انتهى إلى أنك «لا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود، فهيكلهم المشهور «هيكل سليمان» أقيم على الطراز الآشوري من قبل بنائين من الأجانب، ولم تكن قصور هذا الملك غير نسخ دنيئة عن القصور المصرية أو الآشورية.»
انتهى إلى أنه «لا أثر للرحمة في وحشية اليهود، فكان الذبح المنظم يعقب كل فتح مهما قل، وكان الأهالي الأصليون يوقفون فيحكم عليهم بالقتل دفعة واحدة فيبادون باسم «يهوه» من غير نظر إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء.»
ويلخص العلامة لوبون مزاج اليهود النفسي، فيقول: «إنه ظل قريبا جدا من حال أشد الوحوش ابتدائية على الدوام؛ فقد كان اليهود عندا مندفعين غفلا سذجا جفاة كالوحوش والأطفال، وكانوا عاطلين مع ذلك من الفتون الذي يتجلى فيه سحر صبا الناس والشعوب، واليهود الهمج إذا وجدوا من فورهم مغمورين في سواء الحضارة الآسيوية المسنة الناعمة المفسدة، أضحوا ذوي معايب مع بقائهم جاهلين، واليهود أضاعوا خلال البادية من غير أن ينالوا شيئا من النمو الذهني الذي هو تراث القرون.»
ويعرب حزقيال عن ذلك الرأي في سفره حين يذكر ظهور الشعب اليهودي الحقير وأوائله الهزيلة، وما عقب استقراره بفلسطين من الحميا، فيقول مخاطبا تلك الأمة العاقة قائلا باسم يهوه:
Неизвестная страница
وفي جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكري أيام صباك، وإذ كنت لم تشبعي، زنيت مع بني آشور ولم تشبعي، فلذلك أقضي عليك بما يقضى على الفاسقات وسافكات الدماء، وأجعلك قتيل حنق وغيرة.
واليهود مع عطلهم من الفن والصناعة عطلا تاما، يجد لهم لوبون آدابا غنية، ولوبون يقول مع ذلك: «وليست تلك الظاهرة خاصة ببني إسرائيل فقط؛ فهي تشاهد لدى جميع الأمم السامية، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شعر بعيد الصيت حقا، على أن الشعر، مع الموسيقى، فن جميع الأمم الفطرية، والشعر مع بعده من التقدم موازيا لتقدم الحضارة، تجده يضيق أهمية وتأثيرا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونا طويلة لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سنن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أوسيان في أدوار الجاهلية.»
وعند لوبون أن الشريعة اليهودية بأسرها ليست إلا وجها بسيطا للنظام الكلداني، وأن معتقدات اليهود هي من أساطير البابليين المعقدة التي لم ينتحلها عالم الغرب المتمدن إلا بعد أن تحولت بمرورها من خلال روح الساميين البسيطة، وقد تطورت هذه المعتقدات في الغرب تطورا ابتعدت به عن أصولها، فأخذت شكلا لا يكاد يمت إلى السامية بصلة، وفي ذلك يقول لوبون: «فما كان لمبادئ كهذه أن يتمثلها ذلك الشعب اليهودي الصغير المتعصب الأناني الصلف المغرور المفترس.» وبسبب ذلك يقول لوبون: «ولما يحل الوقت الذي ترسم فيه يد الإنصاف تكوين تلك المعتقدات الكبرى، ولا يكاد فجر ذلك الزمن يلوح، ولا يزال المؤمنون والملحدون يقيمون بدوائر من التصديق أو الجحود على غير برهان، ولا يزال الرجل المعاصر يئن تحت عبء الوراثة الثقيل، ولا تزال متماسكة المؤثرات الإرثية التي حصرت نفوس الغرب في قوالب منذ نحو ألفي سنة، وإن أخذت هذه المؤثرات تنحل؛ فقد ترك الماضي في نفوسنا آثارا يجب أن تمر عليها أمواج الزمان غير مرة حتى تمحوها.» «نعم إن الشعب اليهودي لم يكن غير ذي نصيب ضئيل جدا في شيد ذلك البناء القديم، غير أن القرون بلغت من تجسيم شأنه الظاهر ما لا تبصر معه سوى أناس قليلين، حتى بين أشد الناس ارتيابا، تحرروا من سلطان الماضي فاستطاعوا أن يضعوا بني إسرائيل في مكانهم الصحيح.» «ومع إمكان جهل الرجل المثقف العصري لتاريخ الحضارات العظيمة التي أينعت فوق أرض الهند جهلا تاما، تجده لا يجرؤ على الاعتراف بأنه يجهل أعمال شمشون أو مغامرات يونان الذي التقمه الحوت.»
ويبحث لوبون في وقائع اليهود فيجدها هزيلة لحمتها المشاغبات، وسداها ضروب التوحش والمنكرات، وفي ذلك يقول: «وحوادث تافهة كتلك لا يعنى بها التاريخ، وإذا ما عني بها التاريخ فلأسباب مستقلة عن أهميتها؛ ومن ذلك أن حصار عصابة من البرابرة لمدينة تروادة الصغيرة واستيلاءهم عليها قبل الميلاد باثني عشر قرنا، مما غدا حادثا ذا بال في تاريخ العالم؛ لأن أوميروس تغنى به، لا من أجل نتائجه.
وما أتى به مؤرخو اليهود من تدوين لتلك الحوادث عقب وقوعها مع تجسيم عظيم هو دون ما صنعته الكنيسة النصرانية بعد ذلك.
ومن يقرأ سفر صموئيل وسفر القضاة بشيء من روح النقد، يبصر دور العنت الذي جاوزه بنو إسرائيل في استقرارهم بفلسطين، غير أن هذه الأقاصيص نفسها إذا ما نظر إليها من خلال أبخرة الحماسة الدينية ألقت في النفوس وهما قائلا: إن ذلك الفتح ساطع معجز.
وظلت أوروبا النصرانية زمنا طويلا تقرأ كتب مؤرخي اليهود بالروح التي أرادها هؤلاء المؤرخون، وما وده أولئك المؤرخون من تمويه على معاصريهم ارتضاه أمثال أوغوستن وبسكال وبوسويه وشاتو بريان، أكثر من ارتضاء ذلك الشعب الجاهل المتعصب الذي حاولوا إقناعه.»
ويستولي الرومان على فلسطين، «وتحير لهجة الشعب اليهودي الفارغة دولة روما العظمى نفسها، وتقتصر على احتقاره مع أنها كانت تعلم قدرتها على سحق وكر المتعصبين المشاغبين ذلك عند الضرورة، ولم تعتم فوضى ذلك الشعب الصغير المزعج وفساده وضوضاؤه أن استنفدت صبر تلك الدولة العظمى، فعزمت على إبادته لكيلا تسمع حديثا عنه، ففي سنة 70 من الميلاد استولى تيطس على أورشليم وجعلها طعمة للنيران، وبدئ بتشتيت شمل اليهود.»
وفي هذا الكتاب يذهب لوبون إلى أن بني إسرائيل كانوا من الساميين، أي من العرق الذي كان ينتسب إليه الآشوريون والعرب، ولكن بني إسرائيل قد اكتسبوا بانفصالهم من ذلك العرق تلك المساوئ التي وجدها لوبون فيهم، فظل العرب بريئين من مثلها، ومع ذلك يرى لوبون في كتابه «حضارة العرب» أن تلك القرابة تقوم على تجانس اللغات وبعض الصفات الجثمانية، وأن من الممكن أن يجادل في ذلك؛ فقد قال في ذلك السفر الجليل: «ومهما تكن وحدة تلك الصفات التي نجادل في قيمتها، ومهما تكن أهمية تلك القرابة السامية التي لا نجزم بها، نراها ترجع - على فرض وجودها - إلى ما قبل التاريخ، وقد كانت تلك الأمم السامية على اختلاف وتباين منذ أقدم عصور التاريخ كما دلت عليه الروايات.» فيكون ذهاب لوبون إلى أن بني إسرائيل والعرب من أرومة واحدة في كتاب «الحضارات الأولى» من قبيل التجوز إذن.
وفي كتاب «حضارة العرب» يقول لوبون: «ولا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته، واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والجبن والبخل والطمع، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، وأن العربي - مع إقراره لليهودي بالقرابة - أول من يحمر وجهه خجلا منها.»
Неизвестная страница
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وتاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، وأنه لا أثر للرحمة في وحشية اليهود»، مع أن «الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم» كما قال لوبون.
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي ومبدأ اليهود كما في سفر يشوع: «أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار.» ومبدأ العرب كما جاء في وصية أبي بكر الصديق: «لا تخونوا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.»
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وقدماء اليهود لم يجاوزوا أطوار الحضارة السفلي التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وتأثير اليهود في الحضارة صفر، وإن اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة.» مع أن «العرب مدنوا أوروبا ثقافة وأخلاقا» كما قال لوبون، ولوبون قد تمنى أن يكون العرب قد استولوا على العالم، ومنه أوروبا؛ لما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا، ولوبون هو القائل: «إنه كان يصيب أوروبا النصرانية باستيلاء العرب عليها، مثل ما أصاب إسبانيا من التقدم والارتقاء والحضارة الزاهرة الرفيعة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوروبا، التي تكون قد هذبت، ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوروبا بالدماء عدة قرون.»
وكيف لا يكون من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي «وأنت لا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود»، مع أن «الأمة العربية قد رغبت في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي يخيل إلى الناظر أنها مؤلفة من تخاريم رخامية مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة، ولم يكن لأمة مثل تلك العجائب ولن يكون، فلا يطمعن أحد في قيام مثلها في الدور الحاضر المادي الفاتر الذي دخل البشر فيه» كما يقول لوبون.
تلك هي حال الشعب اليهودي الذي كان له بعض السلطان في فلسطين حينا من الزمن، فأجلاه الرومان عنها فتفرق في الأرض، فلم يقتبس من الأمم التي عاش شتيتا بينها غير أخس عيوبها، شأن أجداده، كما يثبت ذلك سلوكه الوحشي الأخير في فلسطين، ولا نبحث هنا العوامل التي حفزت إنكلترا إلى شد أزره وتوطيد دعائمه في بلد عربي لم يكن ملكا لليهود، ولا في المظالم التي اقترفها الإنكليز وغيرهم من الأوروبيين والأمريكيين مدة ثلاثين سنة، ولا يزالون يقترفونها؛ إمعانا في اضطهاد العرب وتثبيتا لأقدام اليهود في سورية الجنوبية «فلسطين»، ممثلين في أهلها العرب مأساة أندلسية أخرى؛ لأن ذلك يخرجني من نطاق الكتاب، ولعل القراء يجدون في هذا الكتاب ما يدحض به زعم اليهود الزائف القائل إن فلسطين حق تاريخي لهم، والمشتمل على أعظم دجل بشري وأفظع تضليل سياسي.
وهنا نذكر أن في الكتاب أمورا لا تلائم بعض المعتقدات ولا نوافق لوبون عليها، ولكن هذه الأمور ليست من صميم الموضوع، وهي على العموم من قبيل الاستطراد البعيد من هدف الكتاب الأصلي القائم بوجه خاص على بيان عطل اليهود من نصيب في تاريخ الحضارة، وعلى ما في اليهود من المساوئ العرقية التي قلما يوصم بمثلها قوم، وعلى أن اليهود شعب غير صالح طرأ على فلسطين التي لم تكن له بلدا أساسيا قط.
عادل زعيتر
نابلس
الفصل الأول
البيئة والعرق والتاريخ
Неизвестная страница
(1) نصيب اليهود في تاريخ الحضارة
لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت في شيد المعارف البشرية، واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم المتوحشة التي ليس لها تاريخ، وإذا ما صارت لليهود مدن في نهاية الأمر، فلما أدت إليه أحوال العيش بين جيران بلغوا درجة رفيعة من التطور، بيد أن اليهود كانوا غاية في العجز عن أن يقيموا بأنفسهم مدنهم ومعابدهم وقصورهم، فاضطروا في إبان سلطانهم، أي في عهد سليمان، إلى الاستعانة بالخارج، فجلبوا منه لذلك الغرض بنائين وعمالا ومتفننين لم يكن بين بني إسرائيل قرن لهم.
وعلى ما كان من هزال تلك القبيلة السامية الصغيرة الكئيبة في نشوئها العقلي، مثلت بالديانات التي صدرت عن معتقداتها دورا بلغ من الأهمية في تاريخ العالم ما يتعذر معه عدم الاكتراث لها في تاريخ للحضارات، ويتألف جزء أساسي في التربية من دراسة فتنها الأهلية وترهات أنبيائها وسلاسل أنساب ملوكها الغامضة، ومع إمكان جهل الرجل المثقف العصري لتاريخ الحضارات العظيمة التي أينعت فوق أرض الهند جهلا تاما، تجده لا يجرؤ على الاعتراف بأنه يجهل أعمال شمشون أو مغامرات يونان (يونس) الذي التقمه الحوت.
وسيبدو، لا ريب، ذلك الشأن الكبير الذي مثله الفكر اليهودي في تاريخ أوروبا المتمدنة منذ نحو عشرين قرنا من المسائل الجالبة للنظر لدى كتاب المستقبل، فإذا ما انقضت بضعة آلاف من السنين ولحقت حضارتنا بالحضارات السابقة في لجة الماضي، وغدت فنوننا وآدابنا ومعتقداتنا من الذكريات، وصار يبحث في أمورنا كما نبحث اليوم في أمور المصريين والآشوريين، أي بما لا تدرك بغيره حوادث التاريخ من الهدوء الفلسفي وتفسر، عد المؤرخ، لا شك، من الحوادث التي تستوقف النظر: خضوع أمدن الأمم في قرون طويلة لديانة مشتقة من معتقدات قبيلة بدو مبهمة، وتذابح شعوب قوية في جميع ميادين الغرب والشرق من أجل هذه المعتقدات، وقيام دول عظيمة وهدم دول عظيمة أخرى في سبيل المعتقدات المذكورة، وهذا إلى قلة عدد حوادث التاريخ الغربية التي تعرض على تأملات مفكري المستقبل كذلك الحادث.
ومن السهل أن نبصر أن مفكري المستقبل أولئك سيكونون على شيء من الارتياب، فبما أنهم يكونون طليقين من الأحكام المقررة المهيمنة علينا، وبما أنهم يكونون أكثر اطلاعا منا على الروابط التي تربط الماضي بالحاضر، وعلى السنن العامة لتطور الأمور، فإنهم يحكمون في ما يساورنا بعيون تختلف عن عيوننا لا ريب، فتبدو لهم المسائل التي نراها معقدة في الوقت الحاضر، بسيطة إلى الغاية؛ لما يعلمون من ردها إلى العناصر التي تتألف منها، ومما لا مراء فيه أن الديانات لا تعد إذ ذاك من صنع رجل واحد، بل تعد وليدة ألوف الرجال، بل تعد نسيج أفكار أحد الشعوب واحتياجاته، ومما لا مراء فيه أنه مؤسسي الديانات لا يعدون إذ ذاك غير أناس من ذوي النفوس العالية، تقمص فيهم المثل الأعلى لإحدى الأمم وأحد الأدوار تقمصا غير شعوري، فيرى في النصرانية والإسلام ما يرتبطان به، من خلال الدين اليهودي في الأجيال البعيدة؛ حيث نشأت الآلهة الآسيوية، ولا يجهل آنئذ أن الأديان تطورت في غضون القرون على الدوام مع احتفاظها باسم واحد، وأن من الوهم الخالص أن يعزى في كل وقت إلى موجديها في الظاهر ما اضطرت إليه من التحولات لتلائم جديد الاحتياجات، وأن الدين إذ كان، كالنظم والفنون، عنوان مشاعر إحدى الأمم، فإنه لا ينتقل من شعب إلى آخر من غير أن يتغير، وأن الهندوس والصينيين والترك مثلا، إذا أمكنهم أن يعتنقوا دينا ذا اسم واحد كالإسلام، فإن هذا الدين بانتقاله من شعب إلى آخر يعاني من التحول العميق، مثل ما تعانيه الفنون واللغة والنظم؛ وذلك ليناسب مشاعر الأمم التي انتحلته، وفي ذلك الحين ينظر بتلك العين، لا ريب، إلى الزنديق المعاصر الذي يقتصر علمه على عمله السهل في بيان النواحي الصبيانية من كل دين، وإلى المؤمن المعاصر ذي البصيرة النيرة في الموضوعات العلمية الذي ينحني أمام الخرافات الصبيانية. أجل، إن الإنكار سهل كالتصديق، ولكن الذي يطالب به كاتب المستقبل هو أن يفهم ويفسر على الخصوص، وستغيب إلى الأبد الأزمنة التي يرى المؤرخ فيها اضطراره إلى المحاكمة وإلى الحنق، فهنالك لا يكون التاريخ من صنع الأديب، بل من صنع العالم.
وسيختلف تاريخ اليهود والأديان التي صدرت عنهم عن التاريخ الذي لا يزال مدونا في الكتب اختلافا كبيرا لا ريب، وبيان الأمر أن مؤسس النصرانية، كما صنعته القصة، كان أقل الساميين سامية، فلم يكن من غير سبب أن كفر به وأن صلب، وأن هذا المتهوس الكبير مثل في التاريخ دورا كان يتعذر عليه أن يبصره، فأوجبت أحوال مستقلة عنه حاملة لاسمه ظهور آمال للعالم عندما لاح نجمه، وليس في الإحسان العظيم العام والتشاؤم القاتم اللذين قام عليهما مذهبه في البداءة، كما قام عليهما مذهب بدهة «بوذا» قبله بخمسمائة سنة، شيء من السامية، فما كان لمبادئ كهذه أن يتمثلها ذلك الشعب اليهودي الصغير المتعصب الأناني الصلف المغرور المفترس، وإنما نبتت هذه المبادئ على مبدأ التوحيد المحلي الذي مالت إليه، على الدوام، روح الساميين - من أنصاف البرابرة كاليهود والعرب
1 - الفطرية الخاثرة.
ولما يحل الوقت الذي ترسم فيه يد الإنصاف تكوين تلك المعتقدات الكبرى، ولا يكاد فجر ذلك الزمن يلوح، ولا يزال المؤمنون والملحدون يقيمون بدوائر من التصديق أو الجحود على غير برهان، ولا يزال الرجل المعاصر يئن تحت عبء الوراثة الثقيل، ولا تزال متماسكة المؤثرات الإرثية التي حصرت نفوس الغرب في قوالب منذ ألفي سنة، وإن أخذت هذه المؤثرات تنحل؛ فقد ترك الماضي في نفوسنا آثارا يجب أن تمر عليها أمواج الزمان غير مرة حتى تمحوها.
وعلى ما تراه من نشوء المذهب العقلي الحديث الذي لا يكاد يتفتح فوق أرض أوروبا، لم تزل أوروبا نصرانية إلى درجة لا يدركها الباحثون الواقفون عند حد الظواهر، وما يصدر عن حرية الفكر من مفاجآت يثبت وحده، بما يوجبه من مقاومة، عمق الأسس النصرانية التي لم تنفك مجتمعاتنا تقوم عليها.
نعم، إن الشعب اليهودي لم يكن غير ذي نصيب ضئيل جدا في شيد ذلك البناء القديم، غير أن القرون بلغت من تجسيم شأنه الظاهر ما لا تبصر معه سوى أناس قليلين، حتى بين أشد الناس ارتيابا، تحرروا من سلطان الماضي فاستطاعوا أن يضعوا بني إسرائيل في مكانهم الصحيح.
Неизвестная страница
وقد يشك في شدة وطأة الماضي علينا ما يرى أقل مفكرينا سذاجة، كمسيو رينان، يكتبون مثل الأسطر الآتية في أمر اليهود، قال رينان: «لا يجد صاحب الروح الفلسفية، أي الذي يبالي بالأصول، غير ثلاثة تواريخ ذات نفع من الطراز الأول في ماضي البشرية، وهي: تاريخ اليونان، وتاريخ بني إسرائيل، وتاريخ الرومان، فمن هذه التواريخ الثلاثة يتألف ما يمكن تسميته بتاريخ الحضارة، ما دامت الحضارة نتيجة تعاون متعاقب بين بلاد اليونان واليهودية وروما.»
ولما تحن الساعة التي تعد فيها تلك الأسطر دليلا على التأثير القاطع لماضي الإنسان وتربيته في حالته الروحية. أجل، يتخلص المؤلف المشار إليه من ذلك التأثير في بعض الأحيان لا ريب، ولكن لا لطويل زمن، وهو يتخلص من ذلك عندما يبين أن النظام اليهودي بأسره ليس إلا وجها بسيطا للنظام الكلداني، وأن أساطير البابليين المعقدة لم ينتحلها عالم الغرب المتمدن إلا بعد أن تحولت بمرورها من خلال روح الساميين البسيطة، وهو لا يتخلص من ذلك عندما يعزو إلى اليهود شأنا عظيما ويطوي كشحا عن أمم المصريين والكلدانيين كانت ذات أثر عظيم في تاريخ تقدم الحضارة، على حين ترى أثر اليهود فيه تافها إلى الغاية.
لم يجاوز قدماء اليهود أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون، الذين لا أثر للثقافة فيهم، من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها، فقربوا لجميع آلهة آسيا، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولك، من القرابين ما هو أكثر جدا مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلا لطويل زمن، على الرغم من كل إنذار جاء به أنبياؤهم، وكانوا يعبدون عجولا معدنية، وكانوا يضعون أبناءهم في ذرعان محمرة من نار مولك، وكانوا يحملون نساءهم على البغاء المقدس في المشارف.
وأثبت اليهود عجزهم التام عن الإتيان بأدنى تقدم في الحضارة التي اقتبسوا أحط عناصرها، واليهود بعد أن جمعوا ثروات وفق غرائزهم التجارية القوية، لم يجدوا بينهم بنائين ومتفننين قادرين على شيد مبان وقصور، فاضطروا إلى الاستعانة على ذلك بجيرانهم الفنيقيين على الخصوص كما تدل عليه التوراة، واليهود قد اقتصرت معارفهم على تربية السوائم وعلى فلح الأرض، وعلى التجارة بوجه خاص.
وما كان فلاح اليهود ليدوم غير هنيهة مع ذلك؛ فقد أسفرت غرائزهم في النهب والسلب، وقد أسفر تعصبهم، عن عدم احتمال جميع جيرانهم لهم، فلم يشق على هؤلاء الجيران أن يستعبدوهم، ثم إن اليهود عاشوا عيش الفوضى الهائلة على الدوام تقريبا، ولم يكن تاريخهم الكئيب غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يوشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان، فما كان الآشوريون ليبدوا ضراء أشد من ذلك.
والبؤس الأسود الذي صب من فوره على بني إسرائيل هو الذي حال، لا ريب، دون انحلالهم التام، وأدى إلى محافظتهم على وحدتهم العجيبة، وما أوحي به إليهم دوما من كره عميق لمختلف الأمم التي اتصلوا بها، صانهم من الزوال بانصهارهم فيها، وما حدث من سحق الدول المجاورة إياهم، ومن استعباد الدول الآسيوية العظمى لهم في كل حين، ومن استرسالهم في الفتن الداخلية الدائمة، ووقوعهم في داء الفوضى العضال عند استردادهم ظلا من الحرية، أوجب ظهور أحوال لا تعرف الروح البشرية معها سوى وساوس القنوط لما لا يكون لديها من عوامل الأمل، فهناك كان يظهر أولئك المتهوسون وأولئك المتعصبون الراجفون ذوو النفوذ العميق في نفوس الجموع على الدوام، فما كان لأمة من العرافين والملهمين والمجاذيب مثل ما كان لبني إسرائيل، وبنو إسرائيل لم يظهر فيهم من النوابغ غير الأنبياء والشعراء.
وكان الأنبياء والشعراء يغترفون إلهاماتهم من مصدر واحد، وهؤلاء وأولئك إذ كانوا يعيشون في جو واحد من المحرضات الدماغية الدائمة، بدت سمات هذا الجو في جميع آثارهم.
وإذا عدوت العهد القديم وجدت بني إسرائيل لم يؤلفوا كتابا، والعهد القديم هذا لم يشتمل على شيء يستحق الذكر، سوى ما جاء فيه من بعض الشعر الغنائي، وأما ما احتواه من أمور أخرى، فيتألف من رؤى أناس متهوسين، ومن أخبار باردة وأقاصيص داعرة ضارية.
وإذا عدوت القرآن، على ما يحتمل، لم تجد كتابا نال من الحظوة في العالم كذلك الكتاب، فالحق أن التوراة والقرآن هما الكتابان اللذان كان لهما في الدنيا من القراء ما لم يتفق لكتاب آخر، والحق أن التوراة والقرآن كانا أكثر الكتب تأثيرا في النفوس، وقد استلهمهما أعاظم الفاتحين، وبفعلهما انقض العرب على الشرق، وباسمهما قامت إمبراطوريات عظيمة وهدمت إمبراطوريات عظيمة أخرى.
وما للتوراة من نفوذ عجيب فيعد من أبرز الأمثلة على شأن الأوهام الكبير في تاريخ الأمم، والواقع أنه كان لهذا الكتاب حظ مدهش لتلاوته من قبل ملايين البشر الذين رأى كل واحد منهم أن ما أراده فيه، لا ما وجد فيه بالحقيقة، ولن يحدث مثل هذا الحادث الناشئ عن الخيال المشوه على ذلك القياس الواسع في تاريخ العالم لا ريب، وما الصفحات التي عرفت أجيال الآدميين المتعاقبة أن تجد فيها أسمى مبادئ الأخلاق، إلا أخبار ما يتألف منه تاريخ اليهود من العهارة والذبح، ومن حيل يعقوب وزناء بنات لوط وسفاح داود والبغاء في المشارف وضروب التقتيل بلا رحمة، وما إلى ذلك من أنباء ذلك الشعب المتوحش التافهة تعلم الشعوب النصرانية منذ ألفي سنة الطبيعة الحقيقية لإلهها القادر على كل شيء، ونحن إذا ما رجعنا إلى ما هو أبعد من ذلك رأينا أن النظام الكلداني الكوني القائل بالخلقة في سبعة أيام، وبآدم وحواء وبالجنة وبالطوفان وسفينة نوح، هو الذي يغذي أذهان أجيال الغرب منذ قرون كثيرة، وكان لا بد من جهد خارق للعادة يأتي به خيال الشعوب الآرية لتعرف هذه الشعوب إلهها الحليم العام، من خلال يهوه الجبار العبوس الذي هو معبود بني إسرائيل الكئيب، هذا الطاغوت الذي ما انفك يطالب بالقرابين والمحرقات واللحم المشوي والدم، وغدت الخرافات الصبيانية أو القبيحة التي وضعها كاتبو التوراة - ليعلموا قوما من الجهال أن إلههم يحكم بينهم رأسا، فيكافئهم ويجازيهم طورا بعد طور على وجه واضح، والتي لم يكن لها غير أثر يسير في كفران اليهود، فرفض أحدهم أيوب مبدأها الأساسي رفض الآمر الناهي - قاعدة للأديان التي ارتضاها الغرب مدة عشرين قرنا، فعدها أناس مثل سان أوغوستان وغليلو ونيوتن وبسكال حقيقة خالصة.
Неизвестная страница
وإني حين ألاحظ مثل تلك الحوادث، أصل مستنتجا إلى أن الأوهام تمثل في تطور الأمم دورا عظيما لا مبالغة في أهميته.
ولا أعالج في هذا الكتاب تاريخ الأديان التي سيطرت على الغرب منذ نحو ألفي سنة، وتكوين هذه الأديان؛ لما يضيق به صدر كتاب كهذا الكتاب، ولا أبحث إذن في سلسلة الأحوال التي استطاع بها الشعب اليهودي، الذي هو أكثر الناس تمردا على مبادئ عرقه البسيطة الكبرى، أن ينشر هذه المبادئ في العالم، ولا أبين إذن أن النصرانية لم تكن حادثا مفاجئا خلافا لما يعلم، وأنها ترتبط بسلسلة من التطورات التدريجية في الزون الكلداني القديم، وفي أطوار الديانات الآرية الفطرية القديمة، وإنما أقتصر على بياني نصيب اليهود في تاريخ الحضارة.
والآن يمكننا أن نلخص هذا الفصل بأن نقول: إن تأثير اليهود في تاريخ الحضارة صفر، وإنه واسغ من الناحية الخلقية، وإذا كانت البشرية لا تزال سائرة وراء الأوهام على الخصوص، وجب علينا أن نعترف بأنه خرج من صدر اليهود وهم من أشد ما ساد العالم هولا؛ فقد خضع الغرب لسطانه نحو ألفي سنة، وسيظل خاضعا له عدة قرون لا ريب، ولا يزال ممثل المبادئ التي جاء بها نجار في قرية صغيرة من بلاد الجليل أقوى ملوك الأرض، ذلك الممثل الذي تعد مراسيمه خالية من شائبة الخطأ، والذي يذعن لسلطانه ثلاثمائة مليون من الناس.
واليهود لما كان من نفوذهم المذكور غير المباشر في العالم، نخصص لهم صفحات قليلة في تاريخ الحضارات الأولى، وإن لم يستحقوا أن يعدوا من الأمم المتمدنة بأي وجه. (2) البيئة والعرق
كان بنو إسرائيل من الساميين، أي من العرق الذي كان ينتسب إليه الآشوريون والعرب.
ومن المقرر اليوم أن بلاد العرب الوسطى والشمالية كانت مهد الساميين، ولكن بينما ظل معظم الساميين منتشرين في جنوب جزيرة العرب، هاجر فريق منهم إلى الشمال موغلا في بلاد بابل، حيث كان السلطان لحضارة السومريين والأكاديين، فأقاموا بها من الزمان ما أشبعوا فيه من تلك الحضارة، ثم كثر عددهم فهاجروا من جديد في أدوار مختلفة، فتقدموا نحو الشمال أكثر من قبل وتقدموا نحو الغرب.
والساميون الذين بقوا في بلاد العرب هم أجداد الشعب العربي، والساميون الذين مروا من موطن الحضارة في الفرات الأدنى وانتشروا في جميع آسيا السابقة، هم الآشوريون والإسرائيليون.
ولم تثبت إقامة أجداد بني إسرائيل بما بين النهرين من أحاديثهم التي جاء فيها نبأ خروج إبراهيم من مدينة أور في كلدة فقط، بل ثبتت أيضا بالآثار التي ظلت باقية في معتقداتهم وطبائعهم من ديانة السومريين والأكاديين وعاداتهم.
وفيما كان ساميو الجنوب، أي الأهالي العرب، يحافظون على عبقرية عرقهم النقي من كل تأثير أجنبي، فلا يزالون يبدون لنا مثال أولئك البدويين ذوي المبادئ البسيطة والعبادة القليلة التعقيد والطبائع الفطرية الثابتة التي نتمثلها وفق ما جاء في سفر التكوين من الأوصاف، كان ساميو الشمال يعقدون نظامهم الكوني فيثقلون عبادتهم بالشعائر والجزئيات، فينتحلون طائفة من الآلهة المجهولة في البادية، ويشيدون المدن ويضعون مختلف النظم ويحاولون تأسيس أمم منظمة قوية على غرار الأمم التي بهرتهم فنونها وعلومها فقلبت خيالهم.
والعرب في إبان سلطانهم الكثير الاتساع وفي عهد حضارتهم العظيمة، ظلوا في مبادئهم العامة وعبادتهم أبسط من الآشوريين والفنيقيين واليهود مع ذلك، والإسلام بعد كل شيء هو الدين الوحيد الوثيق التوحيد الذي جاء به الساميون، وهو الدين الوحيد الخالي من أي أثر لوثني، وهو الدين الذي يرفض الأنصاب رفضا تاما.
Неизвестная страница
والله في سموه وجلاله وروحه هو خلاف يهوه الضاري الذي لم يكن بغيرته وغضبه وهزال انتقامه غير أخس صغير لمولك وكاموش.
ومحمد، حين قال بالنظام الكوني اليهودي، لم يقل في الحقيقة بغير نظام قدماء الكلدانيين الكوني، ووجدت مبادئ الساميين المبهمة جسدا في تلك المذاهب المادية المعينة التي لم يكونوا مخترعين لها، والتي لولاها لتعذر عليهم أن يكونوا ذوي هيمنة على روح الآريين الإيجابية التصويرية.
وهكذا يثبت ما يشاهد من الفرق بين ساميي الجنوب وساميي الشمال، أن ساميي الشمال ابتعدوا عن مثال عرقهم الأصلي لاتصالهم الطويل بأمم أرقى منهم كثيرا، وتثبت قصة التوراة، وتثبت بأحسن من ذلك آثار المعتقدات الكلدانية الواضحة، والنظام الكوني المقتبس من بابل، أن تلك الأمم التي أقام ساميو الشمال بينها هي الأمم السومرية والأكادية، أي الآدميون الذين استقروا منذ القديم بسهول الفرات الأدنى.
وبنو إسرائيل، بعد أن تركوا أولئك، أقاموا بوادي الأردن القليل الأهمية في الظاهر، وذلك في أحوال بالغ مؤرخوهم في روايتها.
ولم يجل بنو إسرائيل في البحر كما كان يجول جيرانهم الفنيقيون؛ وذلك لأنهم لم يكادوا يكونون سادة للساحل، وكان قد جاء من إقريطش، على ما يظن، شعب غير سامي يعرف بالفلسطينيين فملك الساحل واستوطنه بنشاط، واليهود لم يملكوا من الساحل لطويل زمن سوى القسم الممتد من يافا إلى رأس الكرمل، وهناك يقع سهل شارون العجيب الذي تمتد مروجه وحصائده إلى البحر، غير أن الشاطئ نفسه رملي قليل الإصلاح لإنشاء مرفأ فيه.
ولم تكن مجاورة البحر هي التي جعلت امتلاك فلسطين أمرا نافعا، ولا خصب فلسطين وحده هو الذي كان عظيما عندما كانت ذات غاب لم تقطع تماما كما في أيامنا، وإنما كانت فلسطين إحدى طرق العالم القديم الرئيسة كبابل، ولكن على درجة أقل من درجة بابل، فكان يتألف من أوديتها الضيقة الطريق البرية الوحيدة بين مركزي حضارة العالم الكبيرين، بين العراق ومصر، فيتصل أحد هذين المركزين بالآخر بتلك الطريق، فيتبادلان بها محصولاتهما أيام السلم، ويسوقان بها جيوشهما أيام الحرب.
وكانت «مجدو» مفتاح تلك الأودية في الجنوب، وكانت «قادش» مفتاحها في الشمال، وأعارت تانك المدينتان من اسميهما كثيرا من المعارك المشهورة الدامية.
ولم يكن ذلك الوضع المتوسط غير ذي تهلكة، فأمة إسرائيل الصغيرة إذ قامت بين نينوى المرهوبة ومصر القوية، وكانت تستند إلى إحداهما لمقاومة الأخرى، كانت تشترك في الصراع في الغالب فتسحق فيه نهائيا.
ولكن القوافل المثقلة بالنسائج والحلي والتبر والعاج المشذب كانت تجوب فلسطين بلا انقطاع في فواصل الحروب، فلا يدع الإسرائيلي، الماهر في التجارة في كل زمن والطامع في الربح، تلك الثروات تجاوز أرضه من غير أن يحتفظ بشيء منها لنفسه.
وحق المجاورة هو مصدر الرخاء الرئيس الذي كان ينمو في الغالب وبسرعة في اليهودية، وكان منبع الزرابي الجميلة والنسج الثمينة والثياب الزاهية والحلي اللامعة والمرصوفة الحجارة، التي كانت تستهوي أبناء يعقوب على الدوام، فيرفع الأنبياء عقيرتهم ضدها، هو ذلك الوضع المتوسط وأولئك السماسرة اليهود الذين غدوا مدينين لموقع البلد الذي سكنوه.
Неизвестная страница
وروح اليهود التجارية التي هي آية قومهم الكبرى نشأت، أو اشتدت على الأقل، بالدور الذي كان عليهم أن يمثلوه في القرون الخالية بين آسيا ووادي النيل، وبمشاهدتهم القوافل الكثيرة تمر من طرقهم ناقلة من بقعة إلى أخرى نفائس الحضارتين اللتين كانتا أرقى حضارات العالم وألطفها.
ثم إن فلسطين، كإقليم وكإنتاج، كانت من البقاع المفضلة في آسيا الغابرة، فهي إذ كانت مستورة بفروع لبنان بدت جامعة لجميع الفصول ولمحاصيل البقاع الأخرى بفضل اختلاف مرتفعاتها.
وفيما كنت ترى تحت ذرى الثلج اللامعة منحدرات مغطاة بالغاب والمراعي، كنت تشاهد في السهول حقولا خصيبة منبتة للكتان والشعير والبر.
وخصب فلسطين في القرون القديمة كان مشهورا؛ فقد بهرت العبريين عندما خرجوا من جزيرة سيناء الجديبة، وكان روادهم يأتونهم بما يثير الحماسة من وصف لتلك البقعة «التي تجري فيها جداول من لبن وعسل»، فيرونهم نماذج من أثمارها اللذيذة، وقطوف عنبها العظيمة التي لا يستطيع الرجل الواحد أن يحمل واحدا منها.
وكان يتألف من شجر العنب والتين والزيتون أهم مصادر ثروة البلاد، فأكثرت التوراة من ذكرها.
وكانت جميع الأشجار المثمرة تنبت في المنحدرات الكثيرة المتموجة في كل ناحية من نواحي البلاد الممتدة بين بلد الجليل الباسم وشواطئ البحر الميت.
واليوم أسفر قطع الغاب وإهمال الإدارة الإسلامية «العثمانية» وهول الأعراب النهابين عن امتداد رمال الصحراء إلى الأراضي، ودخول رخاء الماضي في عداد الذكريات، مع أن يد الإنسان في القرون القديمة كانت تغني عن بخل الطبيعة في تلك الأماكن، فكان الري المصنوع يمن على الأرض بما تعطي به ما لا تعطيه لعدم الماء، فكانت جميع فلسطين تقريبا تشابه بطرائها وخصبها، الواحات الساحرة التي لا تزال تنشأ على ضفاف السيول المتوجهة متدحرجة نحو البحر الميت أو نحو البحر المتوسط.
وعرف بنو إسرائيل أن يستفيدوا من تلك البقعة السعيدة، وكان بنو إسرائيل زراعا ماهرين، وبنو إسرائيل لم يحذقوا شيئا غير هذا، وهم إذ كانوا عاطلين من أي فن ومن أي علم ومن أية صناعة، وهم إذ لم يزاولوا التجارة إلا كوسطاء، وجهوا عنايتهم إلى حقولهم وإلى مواشيهم.
وتجد كتبهم المقدسة حافلة بالنعوت الرعائية وبالمقايسات والأمثلة المقتبسة من حياة الفلاحين والرعاة، وكان لأولئك القوم شعور بالطبيعة إلى درجة بعيدة، وأراد مؤلف سفر الملوك أن يوجه نظرنا إلى كثير من أمثال سليمان ونشائده، فقال: «وتكلم في الشجر من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط، وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك.»
ولم يمح السامي البدوي حتى بفعل القهر والعادة، وهو الذي لم يغادر صحاري جزيرة العرب إلا قاصدا سهول العراق المحرقة، وهو الذي أبصر في مصر أراضي مستوية تقطعها القنوات من أرض جاسان، وهو الذي بهرته أماكن فلسطين المختلفة وتلالها الضاحكة ومحاصيلها المتنوعة.
Неизвестная страница
وإليك كيف ينبئ النبي إرميا بخلاصهم من إسارة بابل:
هكذا قال الرب: إني أبنيك بعد، فتبنين يا عذراء إسرائيل! تغرسين بعد كروما في جبال السامرة، فيغرس الغارسون ويبتكرون.
فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون، ويجرون إلى جود الرب إلى البر والسلاف والزيت وأولاد الغنم والبقر.
وظل بنو إسرائيل قوما من الزراع والرعاة حتى بعد صلتهم الطويلة بالحضارة الكلدانية الساطعة، حتى بعد إقامتهم بمصر، وما فتئت العادات القديمة التي اتفقت لهم في المراعي الابتدائية الواسعة والطبائع السامية البسيطة تستحوذ عليهم، ولم تؤد المؤثرات الأجنبية - التي أبصرناها في طبائعهم وديانتهم، فيختلفون بها عن إخوانهم عرب البادية - إلى غير تغيير سطحي فيهم من حيث النتيجة.
وبقي بنو إسرائيل، حتى في عهد ملوكهم، بدويين أفاقين مفاجئين مغيرين سفاكين مولعين بقطاعهم، مندفعين في الخصام الوحشي، فإذا ما بلغ الجهد منهم ركنوا إلى خيال رخيص، تائهة أبصارهم في الفضاء، كسالى خالين من الفكر كأنعامهم التي يحرسونها.
وإذ كان بنو إسرائيل متمردين على الفنون تمردا مطلقا، ولم يكن لهم غير ميل هزيل إلى حياة المدن، فإنهم لم يقيموا معابد وقصورا إلا عن غرور، والذي كان بنو إسرائيل يفضلونه بعد الذبح والتقتيل هو «السكون تحت شجر العنب والتين» على حسب تعبيرهم.
وعيد المظال هو أجمل أعيادهم، وفي هذا العيد الذي يدوم ثمانية أيام كانوا يغادرون بيوتهم ليعيشوا في ملاجئ مرتجلة مذكرة بحياة البادية.
وإذا ما أريدت معرفة الإسرائيلي كما هو، وجب ألا يحكم فيه بآثاره المكتوبة التي ليس معظمها سوى ذكريات من كلدة، بل يجب أن يزال عنه أثر الحضارة الخفيف الذي عانى كثيرا من اقتباسه من الدول القوية التي عاش فيها، وأن ينظر إلى مكانه من خلال سفر التكوين مثلا، حيث وصفت حياته المفضلة، حياة الرعاء، أو أن يبحث عنه في السكان الحاليين بالبقاع التي استولى عليها، وفي القبائل البدوية الصغيرة بشمال جزيرة العرب وبسورية، تلك القبائل التي لم تغير طبائعها وعاداتها منذ ستة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة.
ولم تكن فلسطين، أو أرض الميعاد، غير بيئة مختلفة لبني إسرائيل، فالبادية كانت الوطن الحقيقي لبني إسرائيل، والبادية، لما عليه من نمطية وسكون منظر وحياة واحدة وصلاح لأبسط الاحتياجات، وقد وسعت روح الساميين وبسطتها، فألقت فيها الشعاع الخالد الهادئ لآفاق لا حد لها.
والبادية، بجعلها خيال الساميين عقيما عقم ترابها، لاشت فيهم بذور مختلف الخرافات التي استحوذت على النفس البشرية في أماكن أخرى، لمشابهتها النبات الخطر حتى بزخره، والساميون بما لديهم من مبادئ دينية عاطلة من أية صورة محسوسة، ابتدعوا بفضل البادية الرب البعيد الجليل الأزلي الذي لاح فيما بعد ذا صفاء خالص روحي، لتعذر تعريفه وتشخيصه، فبسط سلطانه على أمدن أمم العالم.
Неизвестная страница
والإسرائيلي قد خسر، ذات مرة، ذلك الرب بازدحام خرافات مصر وآسيا فيه، بيد أن أنبياءه آذنوه، فغدا أولاد يعقوب قادرين على هداية الناس إلى إيمانهم بردهم إلى عنعناتهم السامية الخالصة. (3) تاريخ اليهود
لا يبدأ تاريخ اليهود بالحقيقة إلا في عهد ملوكهم.
كان بنو إسرائيل أقل من أمة حتى زمن شاول، كانوا أخلاطا من عصابات جامحة، كانوا مجموعة غير منسجمة من قبائل سامية صغيرة أفاقة بدوية، تقوم حياتها على الغزو والفتح والجدب وانتهاب القرى الصغيرة، حيث تقضي عيشا رغيدا دفعة واحدة في بضعة أيام، فإذا مضت هذه الأيام القليلة عادت إلى حياة التيه والبؤس.
وتكونت زمرة بني إسرائيل السامية كجميع العشائر، فكانت مؤلفة في بدء الأمر من أسرة واحدة ذات جد واحد، وهذا الجد كان يدعى لدى بنى إسرائيل بيعقوب أو إسرائيل، وإسرائيل هذا هو من ذرية إبراهيم - وإبراهيم هذا كان أول من هجر كلدة من عرقة طلبا للرزق.
وهنالك عدد غير قليل من الأقوام الصغيرة، كالأدوميين والعمونيين والإسماعيليين، يرجعون أصلهم إلى إبراهيم، ويزعم العبريون أنهم وحدهم ذرية إبراهيم الشرعيون مع اعترافهم بقرابة الآخرين لهم.
ولم يقع انقسام في الأسرة الرئيسة بعد يعقوب الملقب بإسرائيل، فسمي أعضاء هذه الأسرة ببني إسرائيل لذلك السبب.
ودفع القحط يعقوب وبنيه إلى دخول مصر في عهد الملوك الرعاة، فأقاموا بالدلتا وكثر عددهم واستعبدهم المصريون، فسئم أبناؤهم من بؤسهم، فاغتنموا فرصة فتن اشتعلت ففروا من بلاد العبودية بعد عهد سيزوستريس الكبير بزمن قليل.
ولحق ببني إسرائيل عدد من المصريين الساخطين، ومن الأسارى ومن العبيد المتمردين، ولما جاوز بنو إسرائيل بحر القلزم بدوا عشيرة، أي جماعة مصرة على الظهور بأنها نسل رجل واحد، وإن كانت فاتحة صفوفها بالحقيقة لجميع الفرار المستعدين لانتحال اسمها وتقاليدها ومعبوداتها الأهلية.
وفي البداءة وجد بنو إسرائيل حياة البداوة التي أضاعوا عادتها قاسية، فثاروا على الزعيم الذي اختاروه غير مرة.
وكان هذا الزعيم الذي تدعوه القصة بموسى - وهو الذي لا نعرف اسمه الحقيقي على ما يحتمل - من المهارة ما حملهم به على الإيمان بأنه ذو صلة بالسماء، فيأتيهم بالأوامر من إله خاص، من إله قبيلتهم، وذلك ردا لهم إلى النظام، واهتبل موسى فرصة هبوب أعاصير هائلة فوق سيناء وعلى جوانبه، فألقى في روع عصابة العبيد تلك هولا شافيا، ما دامت سماء مصر الصافية وآفاقها المبسوطة لا عهد لها بما تعرفه البلاد الجبلية من العوارض الطبيعية.
Неизвестная страница
وجزيرة سيناء، إذ كانت بالحقيقة فقيرة جديبة إلى الغاية، لم تصلح لإعاشة أهل البدو أيضا، فتوجه بنو إسرائيل إلى الشمال وحاولوا دخول أراضي الشعوب الكنعانية الصغيرة، وهم لما دنوا من هذه الأراضي بهرهم خصبها، فاشتعلت نيران الحسد في قلوبهم.
وتلك هي حال غنى البلاد المجاورة للأردن في ذلك الحين، ولم تلبث الرعاة التائهة التي خرجت من جزيرة العرب طلبا للمراعي أن استقرت بها، تاركة طبائعها الرعائية لتكون زمرا زراعية.
وعانى العبريون مثل هذا التطور، فتحولوا من أناس بدويين إلى أناس حضريين عندما رسخت أقدامهم في تلك الأراضي التي كانت محط أحلامهم، في أرض الميعاد، تلك التي طمعوا فيها غلاظا مدة طويلة.
ولم يكن هنالك فتح بالمعنى الصحيح على الرغم من أقاصيص مؤرخيهم المملوءة انتفاخا، ومن تعداد الانتصارات وتقتيل الأهالي وانهيار أسوار أريحا بالنقر في النواقير، ووقف يوشع للشمس إمعانا في الذبح.
أجل، فتح بعض الضياع عنوة، ويفسر انقسام العشائر الكنعانية الكبير حقيقة النجاح الذي ناله بنو إسرائيل القليلو الذوق والضعيفو الأهلية للحرب والسيئو السلاح، غير أن استقرار العبريين بفلسطين تم بالتدريج على ما نرى، فالعبريون قضوا زمنا طويلا ليكون لهم سلطان ضئيل في فلسطين لا أن يكونوا سادتها.
والعبريون إذ كانوا منقسمين كالكنعانيين إلى عدة عشائر تسمى أهمها بأبناء يعقوب رمزا إلى الأسباط، فلم يتفقوا فيها بينهم حتى على إكمال الفتح.
ومضى جميع دور القضاة الذي عد دور بطولة العبريين التاريخي في القتال الجزئي بجماعات صغيرة؛ وذلك بأن تدافع كل جماعة بمشقة عما استولت عليه من قطعة أرض.
وذلك النوع من القتال بين الزراع الرعاة وبين الحضريين والبدويين مما هو معروف جيدا، وهو لا يزال يحدث اليوم في سورية والجزائر وفي كل مكان تتجلى فيه طبائع الساميين التي لم يقدر الزمن على تغييرها.
وما يقع أحيانا أن يكتفي البدوي بغزو البلاد الزراعية، فإذا ما أنزل ضربته وحمل خيله وجماله ما غنمه لاذ بالفرار وأوغل في الصحراء وتوارى فيها، ولكن الذي يقع في الغالب هو أن يميل إلى حياة الزراع المطمئنة المنتظمة، فينساب بينهم ويقيم عندهم قهرا، فإذا مضى دور الخصام رضي به جيرانه واختلط بهم.
ولم يكن غير ذلك غزو بني إسرائيل لفلسطين، وذلك مع الفارق القائل إن عدد بني إسرائيل واحتياجاتهم وبؤسهم في مصر وحرمانهم الهائل في التيه مما جمع بينهم وأقنطهم، فصاروا كقطيع من الذئاب الهزيلة التي دفعها الجوع إلى الاقتراب حتى من المدن.
Неизвестная страница
ثم خروج بني إسرائيل قبل الميلاد بنحو خمسة عشر قرنا تقريبا، وهم لم يفكروا في تأليف أمة واحدة منهم ونصب ملك عليهم، إلا في أوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
والواقع أن فتح فلسطين في عهد شاول كان بعيدا من التمام، وفي فلسطين كان يعيش اليبوسيون والعصمونيون وطائفة من الأمم الصغيرة بجانب بني إسرائيل، وكان السلطان في فلسطين للفلسطينيين، والعرق الوحيد الذي هو آري على ما يحتمل، فاجتمعت الأسباط تحت لواء زعيم واحد للمرة الأولى منذ دخول بلاد كنعان؛ وذلك لكيلا لا تسحق.
والحق أنك لا تجد قاضيا استطاع أن يبسط سلطانه على جميع بني إسرائيل، فكل واحد من هؤلاء الحكام أو الشيوخ كان يتسلم قيادة زمرة واحدة، عندما تهدد هذه الزمرة تهديدا مباشرا، وهو إذا ما كتب له النصر لم يحتفظ حتى بتلك القيادة.
وقد استمر الأمر على هذه الصورة، أي من غير تبديل، مدة أربعة قرون.
وحوادث تافهة كتلك لا يعنى بها التاريخ، والتاريخ إذا عني بها كان ذلك لأسباب مستقلة عن أهميتها، ومن ذلك أن حصار عصابة من البرابرة لمدينة تروادة الصغيرة واستيلاءهم عليها قبل الميلاد باثني عشر قرنا، مما غدا حادثا ذا بال في تاريخ العالم؛ لأن أوميرس تغنى به، لا من أجل نتائجه.
ثم أنعم سراب الخيال النصراني بعظمة أكبر من تلك على منازعات هزيلة كانت تقع منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، بين عشائر صغيرة من البدويين النهابين في سبيل واد يكون خصيبا بأحد الجداول.
وما أتى به مؤرخو اليهود من تدوين لتلك الحوادث عقب وقوعها مع تجسيم عظيم، هو دون ما صنعته الكنيسة النصرانية بعد ذلك.
ومن يقرأ سفر صموئيل وسفر القضاة بشيء من روح النقد، يبصر دور العنت الذي جاوزه بنو إسرائيل في استقرارهم بفلسطين، غير أن هذه الأقاصيص نفسها إذا ما نظر إليها من خلال أبخرة الحماسة الدينية، ألقت في النفوس وهما قائلا إن ذلك الفتح ساطع معجز.
وبشاول بدأ بنو إسرائيل يؤلفون أمة، فاستحقوا أن تفتح لهم صفحة صغيرة عن التاريخ الحقيقي الذي كان لهم في العالم.
أنقذهم ملكهم الأول ذلك من هول الفلسطينيين الدائم، بأن أنزل على هؤلاء الأجانب ضربات هائلة.
Неизвестная страница
وكان خليفته داود صورة تاريخية طريفة إلى الغاية، فأشبه - مختارا - ببابر المغولي، مع أنه لا يساوي بابر هذا الذي كان في مقتبل عمره رئيسا لقرية، فافتتح شمال الهندوستان مبديا إقداما لا يصدق، قاتلا معذبا الألوف من البشر، بابر ذلك الذي كان شاعرا أديبا مع همجيته!
وأمثلة كتلك لا تجدها إلا في الشرق تحت تلك الشمس المحرقة التي تقتطع من الطبيعة محاصيل عظيمة، وتنبت أضخم الأشجار وأجسم الحيوانات وأقوى الأبطال، وأما في غربنا فترى المتغلبين والطامعين ذوي نفوس أكثر عنفا وأشد اتزانا، فلا يقايضون سيفهم الدامي طائعين بالمزهر، ولا يخافتون بصوتهم الذي خلق للقيادة في سبيل وزن لين للأشعار.
ويعوزنا أن يشابه داود الملك التقي المتعطش إلى العدل، المختنق بشهيق التوبة، الأواب في مزامير الاستغفار التي حفظتها الرواية لنا.
ومما نعرفه أن داود كان مرتلا شاعرا، ولكنك إذا عدوت رثاءه لشاول ويوناتان اللذين ماتا وهما يقاتلان الفلسطينيين فوق جبال جلبوع، وجدتنا نجهل ما وضعه من النشائد، وفي المزامير قليل جدا من الذي صنعه منها كما نرى.
ومعرفتنا لداود المحارب أحسن من تلك، وآية مجده في منحه بني إسرائيل عاصمة، وفي حسن اختياره لهذه العاصمة، فلولا أورشليم «القدس» لكان شأن اليهود ضئيلا إلى الغاية. وأورشليم أضحت رأس بني إسرائيل وقلبهم، وأورشليم أوج، وأورشليم رمز، وأورشليم لا تزال تلقي أشعتها على العالم من خلال ماضيها مع إكليل نسجته حماسة ملايين البشر وإيمانهم وأوهامهم لا ريب، ولكن لا جدال في نور هذا الإكليل.
وأي اسم كرر مع التمجيد والولوع أكثر من اسم تلك المدينة الدينية؟ لا تزال مقاطع ذلك الاسم السحرية تجري على شفاهنا القليلة التصديق بحلاوة تأخذ بمجامع قلوبنا، فتنقلنا إلى خيال رائع بعيد المدى، ولن تنسى الإنسانية من فورها أن توجه أنظارها إلى تلك المدينة الإلهية، حتى إن الإنسان اليقظ إذا صار لا يبحث عن نجاته فوق الجبل الذي هو محل رمزه العظيم، فتنه هذا الجبل بسحر ذكرياته.
وداود، لكي ينعم على قومه بتلك العاصمة الواقعة في أصلح مكان وأسهل محل للدفاع عن فلسطين، اضطر إلى طرد اليبوسيين، سادة جبل صهيون، ولم يكن اليبوسيون وحدهم هم الأعداء الذين وجب على داود أن يقهرهم؛ فقد أظهر داود في عهده من النشاط الكبير ما أقام به الوحدة اليهودية، جاعلا المملكة العبرية الصغيرة على رأس جميع الأمم التي كانت تقتسم سورية.
قال مسيو رينان في صفحة ممتعة من كتابه «تاريخ بني إسرائيل»: «إن داود هو مؤسس القدس، وهو أبو الأسرة التي أسهمت في عمل بني إسرائيل إسهاما وثيقا، وهذا ما دل الأقاصيص القادمة عليه، وليس مما يمضي بلا عقاب أن تمس، ولو على وجه غير مباشر عظائم الأمور التي تنضح في سر البشرية.
وسنشاهد تلك التحولات بين قرن وقرن، فنرى أن لص عدلام وصقلغ يكتسب بالتدريج أوضاع القديس، فيكون واضع المزامير والممثل المقدس ومثال المنقذ المقبل، ويغدو «يسوع» ابنا لداود، وتبلغ التراجم الإنجيلية من البهتان في طائفة من الأمور ما تجعل معه حياة المسيح نسخة عن مقومات حياة داود! ألا إن الأتقياء حين يسيرون بالمشاعر المملوءة تسليما وحسرة في أجمل الكتب الدينية يعتقدون اتصالهم بذلك اللص، ألا إن البشرية تؤمن بالعدل النهائي في شهادة داود مما لم يصدر عن داود، في الرواية الإلهية الهزلية!»
واقتطف سليمان بن داود أثمار ما أبداه أبوه من نشاط ضار، وفي عهد سليمان بلغ مصير الشعب اليهودي ذروته، فلما مات سليمان دخل هذا الشعب دور الانقسامات والفوضى.
Неизвестная страница
والملك سليمان، الذي عاش حاكما شرقيا حقيقيا بكثرة آلهته، وبدائرة حريمه المشتملة على مئات النساء، وبثيابه الزاهية وبقصوره وبحرسه الأجنبي، اتفق له في خيال الناس من التحول ما لا يقل عما اتفق لأبيه من غفران وتطهير.
والملك سليمان شاد الهيكل عن زهو لا عن زهد؛ وذلك تقليدا لأبهة ملوك مصر وآشور، واستنساخا لطرزهما البنائية.
وانهمك سليمان فيما لا عهد لأسباط بني إسرائيل الجليفة به من ضروب الملاذ الآسيوية، فلم يفكر في غير التمتع بعمل داود تمتع ذي أثرة، فأثقل كاهل الشعب بالضرائب؛ ليقوم بنفقات شهواته معدا بذلك مقبل الفتن.
ومع ذلك جعل من سليمان ذلك الرجل المرتاب النبيه المتكلم في سفر الجامعة، وأغمضت العيون عن عيوبه تفكيرا في شبابه؛ حيث تقول القصة: إن الرب خاطبه رأسا مبصرا إياه نقي اليدين خليقا بأن يبني هيكله.
وكان سليمان ماهرا في ربط شعبه بروابط المحالفات، فصار ملك مصر صديقا له مزوجا إياه بإحدى بناته، وارتبط فيه ملك صور حيرام بصلات الصداقة والتجارة، وفي القصة أن ملكة سبأ أتت من أقاصي جزيرة العرب حاملة له بعض الهدايا، مختبرة علمه وحكمته ببعض الأسئلة.
وامتدت مملكة إسرائيل، إذ ذاك، من دمشق إلى مصر، ومن البحر المتوسط إلى حد بعيد من البادية الشرقية.
وإذا كان سليمان لم يشهر حربا، افتتح أراضي كثيرة متغلبا على الرمال، وذلك بأن وسع رقعة الأراضي الصالحة للزراعة، وبأن شاد مدينة تدمر الرائعة في مكان يلوح لنا اليوم أنه غير نافع للسكن، غير أن مصير تلك المدينة كان مؤقتا كما يظهر، فمركز كبير للسكان كذلك المركز لا يمكن أن يدوم في سواء البادية بعيدا عن مجاري المياه المهمة إلا بمعجزات الصناعة والعمل، فلما مات سليمان نهكت الفتن الأهلية بني إسرائيل، فهجرت تلك المدينة الشرقية إلى أن استولى عليها الرومان وجددوا بناءها، واليوم ترى أعمدة تلك المدينة قائمة في اعتزال، فيقضي السائح منها العجب ممتلئة نفسه بغم غريب.
ولا يزال اسم سليمان وتدمر الكبيران يبهران الفكر؛ لما يبدو من سطوعهما في تاريخ بني إسرائيل الكئيب، والمرء إذا ما صدف عنهما لم يبصر غير هوة مظلمة دامية تزلق فيها هاوية بما يثير الحزن، تلك المملكة الصغيرة التي من عليها داود وابنه بعظمة مدة سنوات قليلة.
ولبضعة قرون تحافظ أورشليم، حيث يملك آل داود، على شيء من التفوق الأدبي، فتكون مركزا ثقافيا لفلسطين؛ وذلك بأن غدا الكهنة يؤلفون الأقاصيص، وبأن صار عظماء الأنبياء يسمعون أصواتهم مجدين مع أولئك، على غير جدوى، في إعادة وحدة بني إسرائيل بوحدة تقاليدهم ودينهم.
وأما مملكة الأسباط العشرة التي أقامها يربعام متخذا شكيم «نابلس»، ثم السامرة «سبسطية» عاصمة لها، فقد كانت مسرحا لأفظع الفجائع، وما كان يقع فيها من اغتصاب ومذابح واستعانة بالأجنبي فقد أثار ازدراء الأمم المجاورة دوما، فلم تنفك هذه الأمم تطالب بإبادة بؤرة الفوضى والتمرد تلك.
Неизвестная страница
وتحل سنة 721 قبل الميلاد، فيهدم ملك نينوى «سرجون» مملكة السامرة، وتحافظ مملكة أورشليم، وهي أصغر من تلك بمراحل، على قليل من النظام والكرامة والنفوذ، فتدوم نحو قرن ونصف قرن بعد تلك، على أن مملكة أورشليم تلك مدينة في بقائها المؤقت هذا للثورات التي كانت تقلب كبريات دول آسيا، فكان من نتائج سقوط نينوى تأخير سقوط أورشليم.
بيد أن ملوك اليهودية أثاروا غضب نبوخذ نصر بمخالفتهم لفرعون مصر، فاستولى ملك بابل القوي على أورشليم في سنة 586ق.م، فجعل عاليها سافلها، وهدم هيكلها وجعل من اليهود أسارى، فغدت أورشليم أثرا بعد عين.
ومن العبث أن أصدر كورش مرسوما أذن فيه للعبريين في العودة إلى فلسطين، وإعادة بناء مدينتهم وهيكلهم، فهم لم يجددوا بناء أورشليم إلا مرتجفين مهددين من قبل ملوك فارس الذين كانت تساورهم الريب حول كل حجر يضاف إلى الأسوار، آمرين قساة بوقف العمل في غير مرة مستمعين في ذلك لتقارير كاذبة.
والواقع أن استقلال اليهود لم يكن غير اسمي بعد ذلك، وما فتئ الفرس والأغارقة والرومان يبسطون سلطانهم المرهوب بالتتابع على تلك المملكة الهزيلة، فتتميز هذه المملكة غيظا من هذا الاستعباد المتصل، فلا تجد ما تتعزى به عن عجزها سوى إلقاء فارغ الخطب.
وما كانت الأحلام العظيمة التي صدرت عن أنبيائها - وهم الذين لم يستطيعوا أن يمنوا عليها بالوطنية ولا بالنشاط ولا بالركون إلى مصيرها - لتؤدي إلى غير إسكارها في خزيها وبؤسها، وإلى غير زيادة انتفاخها كأمة سحقت ودقت.
والشعب اليهودي إذ كان على جانب كبير من الجبن العميق، عاد لا ينتظر نهوضه بغير معجزة، وذلك على الرغم من إبدائه شيئا من اندفاعات البطولة في دور القضاة وعهد داود وحين مقاتلته اليائسة لبابل، وأوجب تفسير أسفار كتبته الوطنيين والدينيين امتلاءه أوهاما عجيبة، وحيرت لهجته الفارغة دولة روما العظمى نفسها، فاقتصرت على احتقاره مع أنها كانت تعلم قدرتها على سحق وكر المتعصبين المشاغبين ذلك عند الضرورة، ولم تعتم فوضى ذلك الشعب الصغير المزعج وفساده وضوضاؤه أن استنفد صبر تلك الدولة العظمى، فعزمت على إبادته لكيلا تسمع حديثا عنه.
ففي سنة 70 من الميلاد استولى تيطس على أورشليم وجعلها طعمة للنيران، وبدئ بتشتيت شمل اليهود.
ولكن ذلك الشعب المتعصب فيما كان يخرج من صف الأمم، وفيما كانت تذهب ريحه، وفيما كان يهد في طريق العالم حتى يداس بازدراء تحت أقدام الشعوب في قرون كثيرة، وفيما كان يقضي تلك الدقيقة الحرجة من حياته فتلوح أنها آخر دقائقه؛ إذ ظهر منه ذلك المتهوس الشهير الذي سيسود اسمه الغرب نحو ألفي سنة؛ إذ ظهر منه عامل جليلي غامض الأمر؛ ليكون الإله المرهوب لدى أمدن شعوب الأرض.
الفصل الثاني
نظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم
Неизвестная страница
ظل اليهود حتى آخر مرحلة من تاريخهم في أدنى درجة من الحضارة قريبين من دور التوحش الخالص.
ولم يجاوز اليهود طبائع أمم الزراع والرعاة إلا قليلا جدا، وخضع اليهود لنظام رعائي ولم يكادوا يدخلون دائرة التطور الاجتماعي.
وتوزيع الأعمال من العلائم التي تتجلى بها حال الحضارة لدى أحد الشعوب، والعبريون لم يكادوا يفرقون بين الحرف في عهد الملوك، فنرى كل أسرة في دور تاريخهم الطويل تتدارك احتياجاتها الخاصة، فتخبز خبزها، وتفتل غزلها وتحوك نسجها فتصنع منها ثيابها، وتزرع حقولها، وتربي أنعمها فتذبحها وتعد جلودها.
والحداد هي أول صنعة بدت مستقلة، غير أن المعادن لم تكن كثيرة لدى بني إسرائيل، فكانت الأدوات الحجرية والخشبية أكثر الأدوات انتشارا، وما كانت الأسلحة نفسها مصنوعة دوما من الحديد ولا من النحاس، ومن الحق أن كانت الصوانة التي تؤخذ من السيل أمضى من الرمح في يد هؤلاء الرعاة الجنود، فبالمقلاع قتل داود جليات الجبار.
وتلك العادات هي عادات الأعراب الذين لا يزالون يعيشون في أطراف البادية، وتلك العادات لم يغيرها بنو إسرائيل حتى بعد أن أبصروا حضارات مصر وآشور الساطعة.
وبنو إسرائيل ظلوا قوما من الزراع والرعاة فقط، فانحصر علمهم في تربية المواشي وزراعة القمح والتين والزيتون والعنب على الدوام.
وما كان عمل أبطال بني إسرائيل قبل قيادتهم إلى النصر غير جر المحراث وجز الشياه، فكان جدعون يدرس البر ويذروها حينما بدا له الملك، فأمره بأن ينقذ قومهم من نير المدينيين، وكان شاول يبحث عن أتن أبيه حينما أخبره صموئيل بأنه سيكون ملكا، واجترأ داود على الحرب برده الضواري التي أتت لتهاجم ماشيته حينما كان راعيا.
وتوزيع الأعمال بحصره مهارة العامل في مادة واحدة يؤدي إلى تحسين الصناعة، ويسهل ازدهار المهنة، وما كان العبريون ليسيروا بهذا التوزيع إلى الحد الذي ينالون به مثل هذه النتائج.
ولم تكن في فلسطين أية صناعة مهما كان نوعها، وإذا حدث أن صنع اليهود شيئا فعلى ألا يستحق الإصدار، وفي عهد سليمان حينما لاح الترف كان هذا الترف يغذى بالمنتجات التي يؤتى بها من الخارج.
وكان يقوم إصدار العبريين على ثمرات الأرض من بر وخمر وزيت ودهن وما إلى ذلك، فترسل هذه المحاصيل، على الخصوص، إلى فنيقية التي لم يكن لديها غير أراض ضيقة لا تكفي لإعاشة مدنها الكبيرة، فتدخل فنيقية إلى بلاد اليهودية في مقابل ذلك ما تصنعه في مصانعها، أو تأتي به من العالم، الذي كانت ذات علاقة به، من الحلي والرياش والسلاح والنسج والخشب والعاج.
Неизвестная страница
وكذلك كان بنو إسرائيل عاطلين، حتى في إبان أبهتهم، عطلا تاما من العمال المهرة في الحرف الغليظة كالنجارة مثلا.
قال سليمان لملك صور حيرام: «والآن فمر بأن يقطع لي أرز من لبنان، وعبيدي يكونون مع عبيدك، وأجرة عبيدك أؤديها إليك بحسب جميع ما ترسم؛ لأنك تعلم أن ليس فينا من يعرف بقطع الخشب مثل الصيدونيين، والآن أرسل إلي رجلا حاذقا بعمل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز والسمنجوني.»
وكان سليمان يعطي حيرام في كل عام عشرين ألف كر من الحنطة، وعشرين ألف كر من زيت الرض، فيدل هذا بما فيه الكفاية على أي شيء كانت تقوم ثروة بني إسرائيل.
ومن فنيقية أيضا أتى عامل ماهرا جدا، فجاء في التوراة أنه: «صانع نحاس، وكان ممتلئا حكما وفهما ومعرفة في كل صنعة من النحاس»، ورقب هذا العامل صهر ما زين به الهيكل من الأعمدة والآنية النحاسية ووضعها.
وإذا لم تخرج الصناعة في بلاد اليهودية عن أدنى الأطوار البدائية، أمكننا أن نبصر من ذلك حال الفنون في تلك البلاد، أو عدم وجود هذه الفنون فيها على الأصح؛ لما كان من عدم وجود أي شيء يتجلى فيه ذلك هنالك.
ولا تجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود.
والشريعة التي حرمت على اليهود منحوت الصور لم تحرم العالم آثارا نفيسة بذلك، وما وقع من مخالفة اليهود للوصية الثانية غير مرة لم يؤد إلى غير العجول النحاسية أو الذهبية، التي هي أصنام اليهود المفضلة المصبوبة صبا رديئا على أوتاد غليظة عدت رموزا للرجولة، والمنصوبة تحت غياض عشتروت، تلك الأصنام القومية، أو الترافيم، التي هي ضرب من اللعب المثيرة للسخرية، والتي أضجعت إحداها على فراش داود مستورة الرأس بعناية زوجته لتعطى، بطريق العوض، جنود شاول المرسلين ليقتلوه.
إذن، لا ينبغي لنا أن نحدث عن وجود شيء من فن النحت أو التصوير لدى بني إسرائيل، وقل مثل هذا عن فن البناء، فانظر إلى هيكلهم المشهور «هيكل سليمان» الذي نشر حوله كثير من الأبحاث المملة، تجده بناء أقيم على الطراز الآشوري المصري من قبل بنائين من الأجانب كما تدل عليه التوراة.
ولم تكن قصور ذلك الملك غير نسخ دنيئة عن القصور المصرية أو الآشورية، ولا تعتقد أن ذلك الملك أقام في مدينة تدمر التي أسسها تلك الأعمدة الفخمة التي قاومت عمل القرون، فلا تزال تثير العجب، فتلك الأعمدة قد وضعت بعد ذلك بزمن، وكان نبوخذ نصر قد دك جميع تدمر سليمان، فلم يبق فيها حجر واحد.
ولم يمارس العبريون من الفنون الجميلة سوى الموسيقى التي هي فن جميع الشعوب الابتدائية، وكانوا شديدي الحب لها، فيمزجون بها ملاذهم وتمريناتهم العسكرية وأعيادهم الدينية، ومما لا مراء فيه أنها قليلة التعقيد شبيهة بألحان النواح لدى العرب المعاصرين، ونعد من آلات الطرب المعروفة عندهم: المعزف والطنبور والصنج والمزمار والبوق والطبل.
Неизвестная страница
وعلى ما كان من ممارسة بني إسرائيل للحرب باستمرار لم تصبح الحرب فنا ولا علما عندهم، فكانت تعوزهم التعبئة، وما كان ليكتب لهم فوز إلا بضرب من الصولة المشابهة لغارة البدويين المعاصرين، وبنو إسرائيل إذ كانوا جبناء خوفا بطبيعتهم لم يبدوا مرهوبين إلا بما كان يحاول إلقاءه زعماؤهم وأنبياؤهم فيهم من حماسة مؤقتة.
جاء في سفر الملوك: «فسمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني «جليات» هذا، فارتاعوا وخافوا جدا.»
ولما سار جدعون إلى المدينيين خاطب جنوده بقوله: «من كان خائفا مرتعدا فليرجع وينصرف.» فتركه من هؤلاء اثنان وعشرون ألفا من اثنين وثلاثين ألفا ليعودوا إلى منازلهم!
ويعرف جميع قراء التوراة وحشية اليهود التي لا أثر للرحمة فيها، وما على القارئ ليقنع بذلك، إلا أن يتصفح نصوص سفر الملوك التي تدلنا على أن داود كان يأمر بحرق جميع المغلوبين، وسلخ جلودهم ووشرهم بالمنشار، وكان الذبح المنظم بالجملة يعقب كل فتح مهما قل، وكان الأهالي الأصليون يوقفون فيحكم عليهم بالقتل دفعة واحدة، فيبادون باسم «يهوه» من غير نظر إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء.
جاء في سفر يشوع أنهم بعد الاستيلاء على أريحا «أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس، فإنهم جعلوها في خزانة بيت الرب.»
وكان اليهود يمارسون الرق على مقياس واسع، ولم يكن حال الرقيق عندهم لا يطاق، شأنه لدى جميع الشرقيين؛ فقد كان الرقيق من العرق الإسرائيلي يعامل كفرد من أبناء الأسرة، وكان يحق له بعد انقضاء سبع سنين أن يخير بين العتق والبقاء رقيقا، فإذا ما استحوذ عليه غم الغد أو الشعور بالعجز عن كفاية نفسه بنفسه، أو حب سيده الصالح، اختار النجد الثاني فظل رقيقا مدى حياته، وإذا ما اختار النجد الأول وجب ألا يسرح بغير أسباب للمعاش.
جاء في سفر التثنية: «إذا أطلقته حرا من عندك فلا تطلقه فارغا ، بل زوده من غنمك وبيدرك ومعصرتك، واذكر أنك كنت عبدا في أرض مصر.»
وفي سفر اللاويين نرى الحكم القائل بمعاملة بني إسرائيل الذين يباعون من أجل الدين كأجراء لا كأرقاء.
ويضيف المشترع إلى ذلك قوله: «من الأمم التي حواليكم تقتنون العبيد والإماء.»
وكان أفراد كل سبط يؤلفون لدى اليهود أسرة متحدة متبادلة العون على الدوام، كما عند جميع الشعوب القائلة بالنظام الرعائي.
Неизвестная страница