76

هكذا كان الشيخ أبو عاصم يتحدث إلى سيف، عندما حمل إليه أنباء الفاجعة التي حلت بأبرهة وجيشه في الهضبة المطلة على مكة.

فلنرجع إلى أبرهة بعد أن سار من صنعاء تملؤه أماني المجد والسيطرة، وتحدوه الثقة بتحقيق الخطة التي دبرها.

كانت الأماني الفسيحة تنداح أمام عينيه، سيكون حامي النصرانية في الجنوب كما كان قيصر حاميها في الشمال، وسيبقى ملكه أخلد من ملك يوستن ويوستنيان؛ فإن الله وهب له ما لم يهب لهما؛ ثلاثة أبناء من زوجتيه، نعم ثلاثة أبناء؛ لأنه وعد ريحانة ألا يتخلى عن ولدها، ولن يضيره أن يجعل ولدها ملكا على الحجاز بدلا من ذلك الدعي قيس بن خزاعي، الذي يطمع في أن يكون خليفته هناك. ولا شك أن أهل مكة يرضون عن ملك سيف أكثر من رضائهم عن ملك رجل من العامة. لكن أحلام أبرهة لم تدم طويلا، ولم يكن سيره في أرض اليمن نزهة خريف ولا موكب مجد، بل كان قتالا عنيفا مع أعداء اجتمعوا له من فجاج الأرض يحاربونه بصرامة.

وخشي أبرهة أن يضيع وقته وجهده في شعاب ضئيلة تعوقه عن تحقيق غايته الكبرى، فترفق ولجأ إلى حيلته، وبذل لأعدائه الوعود، واستمال رؤساء العشائر بالهدايا حتى اضطر أعنف الزعماء إلى الاستسلام، وكان نفيل بن حبيب وذو نفر ممن خضعوا له، وتعهدا أن يكونا دليلين لجيشه في أرض مضر، يسندانه بالنصح ويفاوضان له رءوس قريش.

فلما لاحت له مكة آخر الأمر كان الخريف قد تصرم، وجاء الشتاء يزحف سريعا، ووقف بجيشه على الهضبة يشرف على وادي المحصب، وظهرت مكة من تحته صاعدة على جانب جبلها الأغبر، وهابطة إلى البطحاء الفسيحة الجرداء. وكانت الكعبة مطمئنة على ساحتها الرملية، وأشعة الشمس تغمرها لا يعترضها شيء يلقي تحته ظلا.

وهبطت طلائع الجيش إلى الوادي فساقت ما فيه من الإبل غنيمة، ولكنها لم تجد به أحدا سوى بعض العجائز والصبية؛ لأن حماة المدينة أحسوا اقتراب الجيش وعرفوا ما يريده أبرهة منهم، فأجمعوا على أن يصعدوا في شعاب الجبال ليتربصوا هناك بعدوهم كلما وجدوا منه غرة.

وأشار نفيل بن حبيب على أبرهة أن ينزل في فضاء الهضبة المشرفة على الوادي، لعل أهل مكة يعودون إلى أنفسهم وينزلون على حكمه بغير قتال. وتردد أبرهة حينا وهو ينظر إلى الصحراء الجرداء التي تمتد إلى دائرة الأفق، فماذا يجد هناك ليمد به جنده وخيله وفيلته؟ ولكنه مع ذلك أمر بإقامه معسكره، راجيا أن تبعث إليه قريش رسلها تسأله السلام. «وهل كانت قريش لتصبر على الحرب وهي أمة من تجار؟ إنهم لا يحرصون على شيء سوى المال والسلام.» هكذا قال نفيل وصدقه ذو نفر.

وبالغ نفيل في النصيحة فعرض أن يذهب إلى مكة ليدعو سادة المدينة إلى الاستسلام، ضاربا لهم المثل بنفسه وبصاحبه.

وعاد نفيل بعد يوم ومعه شيخ قريش عبد المطلب بن هاشم، فكان ذلك عند أبرهة أول الفوز، فاستقبل الشيخ في قبته الكبرى ونظر إلى نفيل شاكرا، ودعاهما إلى الجلوس معه فطرح لهما فراشا على الأرض، وأبى إلا أن يكون مجلسه إلى جنبهما.

وقال مرحبا بالشيخ: إني سعيد بأن أراك يا أبا عبد الله.

Неизвестная страница