55

وأخذت تسرد عليه قصتها وهو يستمع إليها في لهفة وتأثر. ثم قالت في ضراعة: هذه هي الحقيقة التي كنت أطويها عنك، وليس فيها ما يندى له جبينك خزيا إلا أن يكون أنني لم أضع في قلبي خنجرا عندما دخلت غمدان. فإذا كنت أسأت في هذا فإنني أطلب عفوك، ولا أتوارى مما يقع في قلبك.

ورفعت رأسها ثانية تنظر إلى وجهه الهادئ وجبينه الفسيح.

وأخذ سيف يديها فقبلهما قائلا: لم يقع في نفسي إلا أنك أعز الناس عندي وأكرمهم شيمة وأنبلهم قلبا.

وأطرق لحظة ثم قال: ولكن الحقيقة تطلع علي فجأة وتبهرني كما يقع النور الساطع على العين فيبهرها. قلبي يجيش ولساني يتلعثم.

والتفت يريد أن ينصرف، فتمسكت به قائلة: بل أقم إلى جنبي حتى أهدأ، ولا تدعني لأحاديث وحدتي العنيفة. وانفجرت في بكائها متهالكة على مقعد.

فبقي سيف في جوارها حزينا من أجل حزنها، ولكن أفكاره كانت تضطرب كما لم تضطرب من قبل في وساوسه، ورنت في أذنيه كلمات يكسوم وهو يقول: «ابن أبرهة أولى»، وتذكر نظرته عندما نظر إليه بعينيه الجامدتين. وعادت إليه فجأة صورة العينين اللتين طالما أفزعتا أحلامه وأفسدتا سلامه، أليستا هما العينين القاسيتين اللتين اتجه بهما إليه في قدس الأقداس؟ تلك نظرتهما وهذا بريقهما البارد، وتلك هي الهامة الضخمة، وذلك هو الوجه الأسود الذي كان يحملق فيه. إنه الوجه الغليظ الذي كان يصيح به في الأحلام: «من أنت حتى تضرب ابن أبرهة؟»

وكان في مضطرب أفكاره تلك ينظر إلى أمه المسكينة تهتز في فحمة البكاء وقلبه مملوء رثاء. ما كان أشد الأيام والليالي في قسوتها!

كان يراها مثل شابة لم تنل السنون منها إلا خيوطا بيضاء قليلة تلمع بين خصل شعرها، وما كان يستطيع أن يحسب يوما أن مثل تلك الآلام المبرحة تعذبها. أعرفت ريحانة في زمانها كل تلك المحن وعركت الدهر في كل تلك المواقف؟ فلو عرف أن أبرهة لم يكن أباه، وأنه لا يزيد على أن يكون ولدا لرجل من العامة، مات عنه أو هجر أمه حتى تلقاها أبرهة فضمها إليه، لما أحس في الأمر كله سوى صدمة الحقيقة. ولكن الحقيقة كانت أبشع من صدمة؛ لأنها كانت مأساة دامية، وما كانت ريحانة إلا إحدى ضحاياها. أكل ذلك كان ينطوي وراء بسماتها وأغانيها له؟ أكل هذه الأسرار السوداء كانت تكمن في قلبها ليلا ونهارا وهي لا تنطق بكلمة؟ وثبت بصره عليها حينا وقلبه يتحدث: أيتها الأم المسكينة، لم تتعذبين هكذا؟ ولم تبكين مثل هذا البكاء المر؟ ألأنك لم تقتلي نفسك عندما قتل أبرهة قومك وشرد زوجك وبعث إليك لتكوني امرأته؟

وناداها قائلا: هوني عليك يا أمي.

ووضع يده في عطف على رأسها.

Неизвестная страница