وأوشكت ريحانة أن تجهر بالحقيقة، ولكنها نكصت تتعلق بأمل ضعيف أن تؤجل الصدمة حتى تتبصر فيما تقول، فإنها كانت تحس أنها لا تقوى عليها في تلك اللحظة.
ومضى سيف قائلا: وهذه الأحلام يا أماه، أليست توحي بالحقيقة؟ وإلا فما هذه الرؤى التي تعتادني؟ وما هذه الأشباح التي تسألني عن أبي؟
وقالت وهي تكاد تغص بريقها: أهذا هو كل ما تشفي به نفسك يا ولدي؟ أوهام طفولة عابرة، وأحلام وأشباح لا تزيد على أخيلة؟ أما كان جديرا بك أن تكشف من قبل عن هذه الهواجس أو أن تلقاها وجها لوجه وقد كبرت وصرت رجلا؟ إنما هي أرواح خبيثة أعرف أنها تدخل على الطفولة أوهاما ومخاوف، وكنت دائما حريصة أن أقرأ عليك الرقى حتى لا تجد إليك سبيلا. فابحث في أعماقك ثم حدثني كيف تساورك، ومتى تعتريك اليوم؟ فإنه لا يجدر بك الآن أن تقيم وزنا لمخاوف الطفولة الجوفاء.
فقال سيف في حزن: ولكنها تتعلق بي برغمي، وما تزال تطاردني.
فقالت ريحانة وهي أملك لنفسها: ما هي يا ولدي؟ ما تلك التي تتعلق بك؟
فقال سيف: أشباح غامضة تتحرك في غبش الظلام وتنطق في جلجلة خرساء، فأهب من نومي وأنا أسأل: «أأنا ابن أبرهة؟»
ثم حدثها عن أحلامه التي كانت تعاوده على فترات.
فقالت ريحانة: أضغاث أحلام يا سيف، أضغاث أحلام. أمن أجل هذا تفسد على نفسك السعادة؟ أتعطي زمامك لخيال لا يزيد على أن يكون نفثة شيطان يحقد عليك؟ سوف أذبح للعذراء قربانا وأجعل خيلاء تصلي لها من أجلك حتى لا يعود إليك. واملأ قلبك يا ولدي بمباهج الشباب، أنت تعذب نفسك يا ولدي بهذه الأوهام التي تضرب فيها وتتطلع إليها، لقد صرفتك عن الحياة حتى ألفتها وجعلتها عالمك، وأسلمت نفسك للخيال يشرد بك، حتى إذا عدت إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك. اعرف هذا يا ولدي لأنني عرفته في نفسي، ولعله ميراث مني، فحاول أن تتخلص منه وتعيش مع نفسك ومع الناس. أنت في زهرة العمر التي لا تتفتح إلا مرة في ساعة قصيرة، أما تخرج للصيد مع لداتك كما كنت تفعل؟ أما تذهب إلى منازه الأودية النضيرة مع صحبك وخدمك؟ وخيلاء، أين أنت منها؟ وهذه الدروس التي كنت تحضر فيها إلى ابن عمي أبي عاصم، لم هجرتها؟ أين ذهب أبو عاصم؟ لقد بلغني أنه غضب وذهب إلى داره في حقل صنعاء، أفلا تذهب إليه تسأله باسمي أن يعود إلى غمدان؟
وقامت تتنفس، وأخذت بكتفي سيف قائلة: دع هذه الوساوس واذهب الآن إلى مخدعك حتى تنال حاجتك من الراحة، قم إلى مخدعك معي، فأغني لك كما كنت أفعل وأنت طفل، أتضحك يا سيف؟ إنك ما تزال عندي صغيرا، وهكذا تبقى حتى تصير شيخا. نعم، هذا أطيب لنفسي، فقبلني كما كنت تفعل كل ليلة إذا ذهبت إلى سريرك. هلم فاستشعر الأمان إلى جنبي.
وجذبته فسار معها حتى ذهبت به إلى حجرته، واستطاع بعد قليل أن يغمض عينيه على أغنيتها، وهي تمسح بكفها على شعره الصقيل، وتبسمت في حزن عندما نظرت إلى وجهه الهادئ في نومه كما كانت تبتسم كلما رأته ينام وهو طفل، وسألت نفسها كما كانت تسألها: «ماذا يكون غدا؟» ثم عادت إلى مخدعها تجرر قدميها، وهجمت عليها ذكرياتها تتدسس في تلافيف سرها، وكان رثاؤها لنفسها يصاحب رحمتها لولدها، كلاهما يعيش في الخيال ويصطدم بالحقائق، كلاهما يهيم مع الصور ويفزع من الواقع. أية لعنة أورثت ولدها! وأسفت أشد الأسف على أن ابن عمها، الشيخ غادر القصر، فهو وحده الذي يحب ولدها ويستطيع أن يعيد إليه الطمأنينة. ولكن أيرضى أن يعود؟ أيرضى وهذه الذئاب تتربص به في بلاط غمدان؟ وعزمت على أن تتوسل إليه ليرضى، فإنه البقية الضئيلة من أهلها، لعل ولدها يجد في قربه أنسا وفي حكمته هاديا.
Неизвестная страница