بينهما وقفت به المَلامةُ بين تفريط المقصّر، وإسراف المفرِط؛ وقد جعل الله لكل شيء قدْرًا، وأقام بين كل حديث فصْلًا؛ وليس يطالَب البَشر بما ليس في طبع البشر، ولا يُلتَمس عند الآدميّ إلا ما كان من طبيعة ولدِ آدم؛ وإذا كانت الخلقة مبنيةً على السهو وممزوجة بالنسيان؛ فاستسقاط من عزّ حالُه حيْف، والتحامُل على من وُجِّه إليه ظلم.
وللفضل آثارٌ ظاهرة، وللتقدم شواهدُ صادقة، فمتى وجِدتْ تلك الآثار، وشوهدت هذه الشواهد فصاحبُها فاضل متقدم؛ فإن عُثِر له من بعدُ على زلّة، ووحدت له بعَقِب الإحسان هفْوة انتُحِل له عذرٌ صادق، أو رُخصة سائِغة؛ فإن أعوز قيل: زلّة عالم، وقلّ من خَلا منها، وأيُّ الرجال المهذب! ولولا هذه الحكومة لبطل التفضيل، ولزال الجَرْح ولم يكن لقولنا فاضل معنى يوجد أبدًا، ولم نسِمْ به إذا أردنا حقيقة أحدًا، وأي عالم سمعت به ولم يزلّ ويغلط! أو شاعر انتهى إليك ذكره لم يهْفُ ولم يسقط!
أغاليط الشعراء
ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية فانظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدْح فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه، أو إعرابه؟ ولولا أن أهلَ الجاهلية جُدّوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة، والأعلام والحجة، لوجدتَ كثيرًا من أشعارهم معيبة مسترذَلة، ومردودة منفية، لكن هذا الظنّ الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظِّنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذبّ عنهم كلّ مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام،
1 / 4