1
ويصبح العربي أخا للزنجي المسلم. وبذلك تتماسك كل الخيوط المختلفة وتتفق كل النزعات المتباينة، من حول المركز الديني في «مكة». وفي مناوأة أوروبا على الأخص، تجد أن المسلمين يشعرون شعورا عميقا بأنهم وحدة متماسكة الأطراف؛ لهذا يحق لنا أن نتكلم، ما دام أن الدين يصبغ الحياة اليومية بصبغته الخاصة، إن قليلا أو كثيرا، في مدنية إسلامية موحدة الأجزاء تنقل إلى الذهن دائما، حقيقة أن هذه المدنية الدينية مؤثر فصل، يقطع بين حدين قطعا تاما.
وهذه الحالات، التي لا نشك مطلق الشك في أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، قد زادت إلى صعوبة الفهم لدى البحث في تاريخ نشوء الإسلام. وإذ نعرف أن الدين إلى الوقت الحاضر، ما يزال العامل الأقوى، الذي تقوم عليه كل الأشياء الأخرى مما يتعلق بالإسلام والمسلمين، وإذ نرى أن كل الظاهرات التاريخية الخاصة بالإسلام، يجب أن يرجع فيها إلى مؤسس الديانة، فأي شيء يمكن أن يكون أقرب إلى البديهة من أن نعتبر الدين، العامل الأساسي إن لم يكن العامل الأوحد، الذي تعود إليه حقيقة خلق مدنية إسلامية متلائمة الأطراف.
ولدينا عامل آخر، نتج عن العكوف على عادة النظر في الأشياء من وجهة النظر الكنسية، تلك العادة التي ورثناها عن القرون الوسطى، ولا جرم أن هذا الاتجاه لا يزال ثابتا في نفسيتنا لدى النظر في الإسلام، حتى الوقت الحاضر، فقد اعتدنا في القرون الوسطى، حتى في أوائل العصر الحديث، أن ننظر إلى الإسلام بديا على أنه دين معاد، وضع حدا لانتشار المسيحية، وهددها فوق أرضها تهديدا شديدا، وكانت النظرة التي نظر من ناحيتها في نشوء الإسلام قد انحصرت في الاعتقاد بأن الدين الجديد قد ملأ صدر العرب حماسة وأفعمها حمية، وأن المسلمين قد اندفعوا إلى الفتح الحربي، تحت تأثير الرغبة الشديدة في هداية أهل الأرض إلى الإسلام، وأنهم إنما يعملون على نشر دينهم بالسيف ، وأن محمدا كان نبيا ورجلا سياسيا معا، بل أعتقد بأن الثقافة العربية ممزوجة بالدين الجديد - «الإسلام» - قد كونت تلك الصورة التي تعرف بالمدنية الإسلامية العربية، وأنه على الرغم من أن عددا من النظامات والفكرات الجاهلية، قد استمرت باقية ثابتة الأثر؛ فإن الدين وحده لم يكن السبب الذي خلق المدنية الجديدة، بل صورها ونظمها لا غير، إذن فالدين هو القاعدة، وكل الصور النشوئية الأخرى، لم تكن إلا نتيجة من نتائجه، فكان من الضروري على مقتضى هذه الفكرة، أن يدمغ الدين طابعه الثابت في جبين الوحدة الصورية والخلقية، ومن هنا نشأت الفكرة في مدنية إسلامية متلائمة الأجزاء، موحدة الأطراف.
ولا مشاحة في أن كل باحث يتصل بكتاب العرب وفكره مليء بمثل هذه الآراء، وبجانبها نظرة غير صحيحة تتكون حول تاريخ النصرانية يجد أنها آراء لها سناداتها ومبرراتها؛ ذلك لأن السلطات المحمدية لها قواعد كهنوتية مقررة مفروغ منها، كذلك تراهم يقررون جملة بأن نشوء الإسلام من خلق محمد، ومن ابتكار الخلفاء الراشدين في عصر الإسلام الذهبي، وعندهم أن الحكومة والمجتمع، وكذلك الحركتان العلمية والاقتصادية، جماعها تخضع للقواعد الدينية، وكان المتبع أن يخلع من هذه الأرض الدينية التي اعشوشبت بمختلف النظريات، كل نبتة طفيلية يمكن أن تنبت في جنب من جوانبها وتنبذ نبذا. إذن فالعالم الإسلامي محكوم بالدين سواء أفي ماضيه أم في حاضره، ولو نظريا على الأقل.
غير أن النقد الحديث لم يتناول هذه المباحث إلا منذ عهد قريب، لا يتجاوز بضعة عقود من الزمان، وعلى الأخص بعد ظهور «تاريخ الثقافة»
Kulturgeschichte - الذي ألفه العلامة الكبير «ألفرد فون كريمر»
Alfred von Kremer . ولقد نجحت الأبحاث الحديثة تدرجا وعلى مر الأيام في أن تتحرر من تقاليد الإسلام، وعمد البحاث وطلبة العلم، سواء أفي السياسة والشريعة، أم في الدين والحياة، إلى التفريق بين النظريات والعمليات. ولقد حققوا بهذه الوسيلة أن الانتصار في المعركة التي قامت بين مطاليب الدين ومقتضى العادات القومية، قد حالف الثانية دون الأولى، بل أثبتوا أنه في خلال الصراع الذي قام بين مختلف الآراء المتنابذة، لم يكن اللون الديني غالبا إلا عبارة عن وضع أدبي، لا أقل ولا أكثر. ورأوا أن الشريعة الدينية، لم تنشأ متطورة عن الأوضاع التشريعية العملية التي كانت قائمة بالفعل، بل أتت منابذة لها. ومن ثم اتضح أن بناة الإمبراطورية العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم على إطلاق القول، بل عملوا في أول ما عملوا له على تثبيت سلطة العرب الزمانية وتركيز سيادتهم فيما جاورهم من الإمبراطوريات، ولا جرم أن جماع هذا يزودنا بمادة واسعة تشبع نهم الفكر؛ لهذا يحق لنا أن نتساءل، حين نواجه هذه الحقائق: أليست فكرتنا التقليدية التي ثبتنا عليها في حقيقة الدور الذي لعبه الدين، كعامل من العوامل المكونة في الإسلام، تحتاج إلى تعديل وتحتاج إلى إصلاح؟
وبعد، فإن هذه الشروح والتحليلات القيمة، لا تترك للمؤرخ الذي يريد أن يفهم الحقائق على صورتها الصحيحة، مجالا للشك في أن الوحدة الإسلامية من ناحية، وأن بناة الإمبراطورية العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم من ناحية أخرى، كلاهما دليل صادق على أن الخلافة نظام ورث عن الإسلام؛ لأنها من ناحية جزء من نشأته الأولى، ومن ناحية أخرى أساس قامت عليه الفتوحات، وتكونت من فوقه دعائم الإمبراطورية العربية. وهذه الحقيقة التي حاول مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» إخفاءها، نقررها هنا على الضد ما ذهب إليه، ثم نحكم من بعد ذلك بأن نظام الخلافة نظام فاسد لا يتفق وروح هذا العصر. •••
لم يبق من حاجة لأن نثبت أن الخلافة نظام إسلامي ورث عن بدايته الأولى، ولكن بنا حاجة لأن نحلل نظام الخلافة، ثم نعقب على ذلك بالكلام في موافقة هذا النظام للروح الجمهورية الديمقراطية التي أصبحت طابع هذا العصر.
Неизвестная страница