تلألأت عينا السيدة بارتليت؛ لأنها، وإن كانت لم تفهم هراءه تماما، كانت تعلم أنه محض هراء، وكانت تحب الأشخاص المرحين؛ لأن زوجها كان شخصا جادا للغاية.
قالت: «الشاي جاهز. ستبقى معنا بالطبع يا سيد ييتس.» «في الحقيقة، يا سيدة بارتليت، لا أستطيع فعل ذلك بضمير مرتاح. فأنا لم أتناول وجبة عن استحقاق منذ الوجبة الأخيرة. لا، لن يسمح لي ضميري بالقبول، لكني مع ذلك أشكرك.» «هراء؛ فضميري لن يسمح لك بالرحيل جائعا. لو لم يأكل أحد سوى أولئك الذين يحصلون على غذائهم عن استحقاق، فسيزيد عدد الجوعى في العالم. ستبقى بالطبع.» «هذا ما أوده، يا سيدة بارتليت. أود أن أحصل على فرصة لرفض دعوة أتوق إليها، ثم أجبر على قبولها. هذه هي الضيافة الحقيقية.» ثم أضاف هامسا في أذن كيتي: «إذا جرؤت على قول «جميز»، يا آنسة بارتليت، فسأتشاجر معك.»
لكن كيتي لم تقل شيئا، بعدما ظهرت أمها في المشهد، لكنها قلبت محتويات الغلاية بكل جد.
قالت الأم: «كيتي، نادي الرجال ليتناولوا العشاء.»
قالت كيتي، وقد تورد وجهها: «لا أستطيع ترك هذا، سيفور من شدة الغليان. ناديهم أنت، يا أمي.»
ومن ثم رفعت السيدة بارتليت راحتيها على جانبي فمها، وأطلقت تلك الصيحة الحادة الطويلة، التي قوبلت بصوت خافت آت من الحقول، ولاحظ ييتس، الذي كان رجلا متبصرا، برضا أضمره في داخله أن كيتي بالتأكيد رفضت فعل ذلك لأنه كان موجودا.
الفصل الثامن
قال ييتس بعد واقعة الصابون ببضعة أيام وهو يتأرجح في أرجوحته الشبكية في المخيم: «أقول لك شيئا يا ريني، إنني أتعلم شيئا جديدا كل يوم.»
سأله البروفيسور متفاجئا: «حقا؟». «نعم، حقا. كنت أعرف أن هذا سيذهلك. إن سعادتي الكبرى في الحياة أيها البروفيسور هي إدهاشك. أحيانا ما أتساءل لماذا يسعدني ذلك، فهو يحدث بسهولة تامة.» «لا تكترث بذلك. ماذا تتعلم؟» «الحكمة يا بني، الحكمة بكميات هائلة. بادئ ذي بدء، أتعلم الإعجاب بسعة حيلة أولئك الناس الذين يعيشون حولنا. فهم يصنعون كل ما يحتاجون إليه تقريبا بأيديهم. إنهم أكثر الذين رمتني الأقدار وسطهم اعتمادا على أنفسهم على الإطلاق. أرى حياتهم الحياة المثالية.» «أظنك قلت شيئا كهذا في اللحظة الأولى التي أتينا فيها إلى هنا.» «قلت هذا، أيها الأحمق، عن التخييم في العراء. أما الآن فأتحدث عن حياة الريف. إن المزارعين يستغنون عن الوسطاء من التجار والحرفيين على نحو واقعي جدا، وهذا في حد ذاته يمثل شوطا طويلا نحو السعادة التامة. سأضرب لك مثالا بصناعة الصابون، التي حدثتك عنها؛ فهكذا تحصل على صابون رخيص وجيد. وحين تصنع الصابون بنفسك، تعرف ماهية ما بداخله، ولتزهق روحي إن كنت تعرف ذلك حين تشتريه بثمن باهظ في نيويورك. هنا يصنعون كل ما يحتاجون إليه تقريبا بأنفسهم، ما عدا العربة والأواني الفخارية، ولست واثقا من ذلك، لكنهم كانوا يصنعونها أيضا قبل بضع سنوات. والآن، حين يستطيع رجل بفأس حاد جيد وسكين قابل للطي أن يفعل أي شيء من تشييد بيته إلى نحت كرسي، يكون أكثر الرجال استقلالا على وجه الأرض. لا أحد يعيش حياة أفضل من هؤلاء الناس. كل شيء طازج وحلو وطيب. ربما يكون لهواء الريف تأثير في ذلك، لكني أرى أنني لم أتذوق في حياتي وجبات كتلك التي تعدها السيدة بارتليت، على سبيل المثال. إنهم لا يشترون شيئا من المتاجر سوى الشاي، وأنا شخصيا أعترف بأني أفضل اللبن. دائما ما كانت ميولي بسيطة.» «وما الاستنتاج النهائي من ذلك؟» «عجبا لك، هذه هي الحياة كما ينبغي أن تعاش. فهيرام العجوز لديه سندان وفرن حدادة بسيط. لذا يستطيع إصلاح أي شيء معدني تقريبا، وهذا يغني عن الحداد. وهوارد لديه دكة نجارة ومناشير ومطارق وأدوات أخرى، وهذا يغني عن النجار. فيما تغني النساء عن الخباز وصانع الصابون والكثير من المتطفلين الآخرين. والآن، حين تستغني عن كل الوسطاء من التجار والحرفيين، يتحقق لك الاستقلال؛ ومن ثم السعادة التامة. حينئذ لا تستطيع أن تبعد السعادة ببندقية.» «ولكن كيف يصبح مصير الحداد والنجار وبقية هؤلاء حينئذ؟» «دعهم يحصلوا على أراض ويشتغلوا بها ويحظوا بالسعادة أيضا؛ يوجد كم وفير من الأراضي. الأرض تنتظرهم. وانظر حينئذ كيف سيزول أرباب العمل. هذا هو الخلاص الأجمل على الإطلاق. فحتى النجارون والحدادون عادة ما يضطرون إلى العمل تحت رئاسة أحدهم، وإذا لم يضطروا إلى ذلك، يضطرون إلى الاعتماد على الرجال الذين يشغلونهم. أما المزارع، فلا يضطر إلى إرضاء أحد سوى نفسه. وهذا يعزز استقلاله. وهذا هو ما يجعل هيرام العجوز مستعدا للتشاجر مع أول شخص يلتقيه من أقل استفزاز ممكن. فهو لا يكترث بهوية من يسيء إليه، ما دام شخصا آخر غير زوجته. هؤلاء الناس يعرفون كيف يصنعون ما يحتاجون إليه، أما ما لا يستطيعون صنعه، فيستطيعون تدبر أمورهم من دونه. وهذا هو السبيل إلى إقامة أمة عظيمة. فبهذه الطريقة تنشئ شعبا مكتفيا ذاتيا وقوي العزيمة ولا يقهر. فالسبب في تغلب ولايات الشمال على ولايات الجنوب أننا حشدنا معظم جيوشنا من طبقة المزارعين المعتمدين على أنفسهم، في حين أننا اضطررنا لمحاربة أناس اعتادوا تلبية احتياجاتهم بأيادي غيرهم على مدى أجيال.» «لماذا لا تشتري مزرعة إذن يا ييتس؟» «لعدة أسباب. فأنا مدلل جدا إلى حد يعجزني عن الحياة هنا. إنني كالسكير الذي يعجب بحياة عفيفة، لكنه لا يستطيع أن يمر بأي حانة دون أن يدخلها. إن فيروس المدينة يجري في دمي. وكذلك ربما لست راضيا تماما عن المنحى الذي تتخذه الحياة الريفية رغم كل شيء؛ فهي مع الأسف تمر بحالة انتقالية. إنها في مرحلة البيوت ذات الهياكل المصنوعة من عوارض خشبية، وستتطور قريبا إلى مرحلة الطوب الأحمر. وأنا أشتاق إلى زمن البيوت المبنية من جذوع الأشجار. فكل ما كان المرء يحتاج إليه آنذاك كان يصنع في المزرعة. وحين يحل عصر البيوت المبنية من الطوب، سيتفشى الوسطاء. لقد رأيت منذ بضعة أيام في بيت آل هوارد مجموعة من الأحجار القديمة أثارت اهتمامي بقدر ما قد يثير الرخام الآشوري اهتمامك. كانت أحجار رحى قديمة منزلية الصنع، ولم تستخدم منذ أن شيدت البيوت ذات العوارض الخشبية. فطاحونة القمح والحبوب جعلت الزمن يعفو عليها. ولتلاحظ هنا بالضبط دهاء الوسيط الماكر. فالمزارع يأخذ حبوبه إلى الطاحونة، ولا يفرض الطحان عليه نقودا نظير الطحن. بل يأخذ ثمن الطحن من أكياس القمح نفسها، ويتوهم المزارع أنه ينال خدمة الطحن بلا مقابل تقريبا. الطريقة القديمة كانت الأفضل يا ريني يا بني. لن يكون ابن المزارع سعيدا في البيت المشيد بالطوب الذي سيبنيه له البناء كما كان جده سعيدا في البيت المبني بجذوع الأشجار الذي بناه بنفسه. والحمقى يسمون هذا التغيير تقدم الحضارة.»
قال رينمارك موافقا إياه: «ثمة بعض المحاسن في الأوضاع الحياتية القديمة. وإذا استطاع امرؤ الجمع بين محاسن ما نسميه الحضارة ومحاسن الحياة الريفية البسيطة، فسيدشن وضعا رائعا وسارا بحق.»
Неизвестная страница