Julian
إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم. ولكنه - برغم اطلاعه الواسع - لا يقتصر عند حد النظر، بل يتعداه إلى العمل. يستمتع بالفكر كما يستمتع بالحس. فهو كثير الإدمان في القراءة، ولكنه رجل اجتماعي حي. وقل من الناس من يجمع مثله بين هاتين الصفتين.
وفي مجموعة قصصه التي جمعها تحت عنوان «السجن» وفي روايته «الكروم الأصفر»
Crome Yellow
تتبين قدرته العظيمة على السخرية من المتكبرين والأدعياء. ورواياته مليئة بالصور الإنسانية التي تتميز بالتهكم المرح، وقد خص بسخريته أبناء الطبقة الراقية، فأثار على نفسه سخطهم، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يكف عن الضحك منهم. وفي روايته «الكروم الأصفر» يعلن تلك المشكلة الكبرى التي حاول أن يحلها في كل ما كتب، جاء في هذه الرواية العبارة الآتية:
يدخل الرجل هذه الدنيا ومعه آراء مجهزة عن كل شيء، وله فلسفة يحاول أن يخضع لها الحياة. في حين أنه كان من الواجب أن يحيا المرء أولا، ثم يحاول بعد ذلك أن يلائم بين فلسفته وبين الحياة كما عرفها ... إن الحياة والحقائق والأشياء معقدة تعقيدا شديدا، مع أن الآراء - مهما تعسرت - تخدعنا ببساطتها. كل شيء غامض مضطرب في عالم الحياة، وكل شيء واضح في عالم الآراء. فهل من العجب بعد هذا أن يكون الرجل منا بائسا في حياته تعسا؟
ويتبين لنا من هذا أن هكسلي لا يحب أن يتشبث بالمبادئ والأصول وقواعد العلم، وإنما يقيم وزنا كبيرا للمعارف العملية وتجارب الحياة. كان هكسلي من رجال الفكر، وهو يفخر بذلك، ولكنه - برغم هذا - كان قادرا، بل ومتحمسا، على أن يستفيد من الخبرة والتجربة.
وصل إلى لندن بعدما أتم دراسته الجامعية ورأسه مفعم بالنظريات. ثم أحس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتتمم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حجرة المعلم لها جمال البساطة ، ولكن بالأرض والسماء كنوزا غنية من المعارف لا تخضع لأي نظام فلسفي، ولا يحلم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثب سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتعلم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة. فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.
وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمعدم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت. وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبر عن تقززه واشمئزازه من الفقر المدقع، وإن كان يعطف على الفقراء. وانتهى هكسلي إلى شيء من اليأس، لا يرى نفعا في أي شيء.
ثم مل النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته «عالم جريء جديد»
Неизвестная страница