Traherne : «إن شدة الشغف بمخلوق واحد ليس سوى شرارة صغيرة من ذلك الحب الذي يحمله المحب نحو العالم بأسره.» والعشق - فوق ذلك - يلهم المرء بإدراك الحقائق العليا. تقول العامة: «الحب أعمى.» ونحن نقول: «الحب مبصر.» لأن المحب يتصل بالعالم وبحقائق الأشياء.
والآن لننظر بإيجاز شديد في العلاقة بين النشاط الجنسي والنشاط العقلي. بحث هذا الموضوع الدكتور أنوين
Dr. J. D. Unwin
في كتابه القيم «الجنس والثقافة»، وتلخص النتائج التي وصل إليها أنوين مدعمة بالبراهين الدامغة فيما يأتي:
يمكن تقسيم العالم تقسيما ثقافيا أربعة أقسام: الحيواني، والإنساني، والإلهي، والعقلي. أحطها الحيواني، وأرقاها العقلي. وقد دل البحث على أن النشاط الثقافي يساير العفة الجنسية قبل الزواج وبعده؛ ذلك لأن العفة الجنسية تبعث من يلتزمها على التفكير والنشاط. غير أن هذا النشاط أحيانا قد يتخذ صورة الاعتداء، ولكنه - بعد بضعة أجيال - سوف يتجه نحو الإنتاج العلمي والفني والاجتماعي. ولا شك أن هذا الإنتاج سوف يكون له أثر كبير في تهذيب الناس وترقيتهم.
ومما يدعو إلى الأسف أن التاريخ يهدينا إلى أن المجتمع لا يستطيع احتمال العفة الجنسية أجيالا عديدة؛ فسرعان ما يدب الفساد الجنسي في جسم الجماعة، وحينئذ يفتر نشاطها العلمي والاجتماعي. يقول الدكتور أنوين: «للمجتمع الإنساني أن يختار أحد أمرين: إما أن يكون جم النشاط، أو أن يستمتع بالحرية الجنسية، والدليل قائم على أنه لا يحتمل الأمرين معا فترة طويلة من الزمن.»
ومن الحقائق التاريخية القاسية كذلك أن التزام العفة الجنسية والزواج بواحدة يؤديان إلى ظلم النساء والأطفال، والنظر إلى المرأة كأنها من الرقيق، أو كأنها خلقت لمتاع الرجل. ويقول الدكتور أنوين في هذا الصدد: «إن عدم مساواة المرأة بالرجل - لا التزام العفة الجنسية - هو الذي أدى إلى إباحة الزواج بأكثر من واحدة. ولم يفلح مجتمع من المجتمعات في تنظيم الصلات بين الجنسين بحيث تبقى الأعمال الجنسية عند حدها الأدنى زمنا طويلا. والنتائج التي نستخلصها من الشواهد التاريخية أننا إذا أردنا أن نصل إلى هذه الغاية وجب أن يوضع الجنسان على قدم المساواة التامة في الحقوق الشرعية.»
هذا موجز مقتضب جدا لآراء أنوين. وأول ما نستخلصه منها «أن العفة الجنسية تبعث على التفكير، ولا يبعث التفكير عليها.» ثم نلاحظ أن المجتمع في المرحلة الأولى - المرحلة الحيوانية - يسترسل في الاستهتار الجنسي، ولا يدرك الخير والشر، ولا يستطيع أفراده أن يتصلوا بالله أو يتصل بعضهم ببعض اتصالا اجتماعيا نبيلا. والإنسان لا يعلو بفكره إلا إذا أدرك العلاقة بينه وبين العالم، وبينه وبين غيره من الناس؛ ولذا فإن قدرا من العفة الجنسية يجب أن يسبق هذا الإدراك، كما يسبق أي لون من ألوان النشاط الذهني. ولكن التاريخ يدلنا على أن هذا النشاط الذهني الناشئ عن العفة الجنسية قد يتجه اتجاها غير خلقي، وما أشبه النشاط الذهني والاجتماعي بالمياه المتدفقة، يمكن أن تستخدم لتهديد الضعيف واستغلال الفقير، كما يمكن أن تستخدم في اكتشاف أسرار الطبيعة وخلق آيات فنية كبرى وإيجاد الصلة بين الإنسان وبين الحقيقة النهائية.
العفة إذا فضيلة، وهي من الفضائل الكبرى لأنها توفر للجماعات النشاط الذهني كما تمكن الأفراد من سعة الإدراك والتحرر من الحيوانية، ولكنها تعد من ناحية أخرى من الفضائل الصغرى التي يستطيع المرء أن يستغلها في الخير أو في الشر، كالشجاعة والمعرفة. إنها فضائل إذا لم تستند إلى الفضائل الكبرى - الحب والذكاء - فقد تكون سلاحا ذا حدين. ومن الأمثلة التاريخية لذلك أن البيورتان الإنجليز (المتطهرين) اتجهوا اتجاها حربيا وتشبعوا بالروح العسكرية وحب الاضطهاد والاستغلال الاقتصادي والميل إلى الشدة والقسوة. العفة لا تستلزم بطبيعتها التسامح، بل إنها كثيرا ما تدفع صاحبها إلى ارتكاب الشرور.
وأكتفي بهذا القدر من البحث في مشكلة الخير والشر في دائرة الجسم، وعلاقتهما بالشهوة الجنسية. وأنتقل الآن إلى الكلام على الخير والشر في دائرة العواطف. وليست بنا حاجة إلى الإسهاب في هذه النقطة؛ لأن أحدا لا ينكر أن أكثر الآثام والشرور نتيجة للغضب والحسد والخوف؛ فهي إحساسات تدفع المرء إلى الاهتمام بنفسه دون غيره من الناس.
Неизвестная страница