وفي البلدان الغربية الديمقراطية نوعان من المدارس: نوع ينشئ الأطفال على الحرية وتحمل التبعات، ونوع ينشئهم على الخضوع والخنوع؛ فمدارس الحضانة من النوع الأول، وأكثر المدارس الأخرى من النوع الثاني. أما الدول الفاشستية فإن جميع المدارس من النوع الثاني. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن البوليس السياسي في ألمانيا أمر بحل جماعة منتسوري عام 1935. وفي سنة 1936 قرر وزير المعارف في عهد موسوليني إيقاف كل الحركات المنتسورية في إيطاليا. وفي عهد لينين أسست التربية الروسية في كل مراحلها على مبادئ شبيهة بمبادئ منتسوري؛ فألغي نظام تقدير معارف الطفل وسلوكه بالدرجات، كما ألغيت العقوبات والامتحانات ونظام توحيد الأزياء. ولكن حكومة ستالين ضربت صفحا عن كل ذلك وعادت إلى نظام التربية العسكرية الذي تسير عليه الدول الفاشستية. وإذا بقي الخطر بإعلان الحرب وشبوبها، فلا شك أن الدول الديمقراطية نفسها سوف تأخذ كذلك بهذا النظام العتيق.
ولسنا بحاجة إلى أن نذكر أن التربية السيئة تفسد عقول ملايين البشر، وتحدد سلوك الراشدين، لا أقول إلى كل حد، وإنما إلى حد كبير. وإذا كانت الظروف الاجتماعية لا تختلف عن النظام السائد في التربية، فإن الثورة على النظم الممقوتة قد تمسي أمرا مستحيلا. وقد أكد ستالين أن الروح العسكرية سوف تسود جميع مناحي الحياة الروسية من جراء النظام التربوي السائد.
وليست الطاعة وحدها هي التي تعلم الأطفال متانة الأخلاق، بل لقد يقوم اللعب مقامها. وأثر اللعب في تربية الخلق الإنجليزي واضح غير منكور، ولكن اللعب - ككل أداة أخرى اخترعها الإنسان - يمكن أن يستخدم في أغراض طيبة أو خبيثة. إننا إذا استخدمنا اللعب استخداما حسنا أمكننا أن نستغله في تعليم الأطفال الاحتمال والشجاعة والعدل واحترام القانون والتعاون وإخضاع المصالح الشخصية لمصلحة المجموع. أما إذا استخدم استخداما سيئا فهو يشجع على غرور الفرد والجماعة، وعلى الرغبة الملحة في النصر، وبغض المنافسين، وتكوين روح للجماعة لا تقبل التسامح، واحتقار من دوننا من الناس. وفي كلتا الحالتين يبث فينا اللعب روح التعاون مع تحمل التبعات، ولكن التعاون قد يكون في سبيل الشر كما قد يكون في سبيل الخير؛ فاللعب قد يكون تدريبا على القتال، وقد يكون فيه غناء عن القتال؛ فهو قد يكون وسيلة لحب الحرب أو حب السلام، وقد يخلق رجالا مشبعين بالروح العسكرية، أو رجالا مسالمين في كل نواحي الحياة. وقد اختارت الدول الدكتاتورية أن تجعل من اللعب وسيلة لتدريب الأطفال على الروح العسكرية، كما اتخذته أداة لبث الدعاية القومية؛ فمباريات كرة القدم مع الدول الأجنبية تعد من الأمور التي تقرر الكرامة القومية، والانتصار في اللعب انتصار على العدو، ودليل على التفوق العنصري أو القومي. وينظر المتفائلون إلى اللعب كأنه رابطة قوية بين الأمم، ولكنه في ظل الشعور القومي السائد اليوم سبب جديد من أسباب سوء التفاهم الدولي. إننا نعيش في عالم ليست له عقيدة دينية واحدة أو فلسفة للحياة واحدة، في عالم تعبد فيه كل جماعة قومية وثنها الخاص؛ ومن ثم فإن مباريات كرة القدم والمباريات الرياضية الأخرى لا ينجم عنها إلا الضرر.
قلت إن الدول الدكتاتورية قد اختارت اللعب وسيلة للتدريب على القتال. أما الدول الديمقراطية ففيها اتجاهان: الأول لا يرمي إلى استغلال اللعب وسيلة للتأهب للقتال، والثاني ديكتاتوري النزعة؛ فهو يرى غير ذلك. وما زال الاتجاه الأول أضعف من الثاني؛ فالإنجليز مثلا يقولون: «إننا كسبنا معركة واترلو فوق ملاعب إيتن.» ولكنا نستطيع كذلك أن نقول إن الإنجليز الذين يحكمون الإمبراطورية في أنحائها المختلفة تعلموا حسن الإدارة فوق هذه الملاعب عينها، والإمبراطورية البريطانية في العصر الحديث أميل إلى الاتجاه الثاني منها إلى الاتجاه الأول.
لقد تحدثت عن التربية حتى الآن كأن هناك لونا واحدا من ألوان التربية الصحيحة، ولكنا رأينا في الفصل الذي عقدناه على عدم المساواة أن الناس أنماط مختلفة. ولما كان الأمر كذلك فمن الخطأ أن نضع لتدريب الأخلاق نظاما واحدا، بل ينبغي أن تكون هناك نظم متعددة تلائم الأمزجة المختلفة، وإن كان هناك - كما رأينا من قبل - قدر مشترك من الميول النفسية عند مختلف الطوائف نستطيع أن نختار له من القواعد الخلقية ملا يلائمه، ونعلم الناس أجمعين هذه القواعد بتدريبهم جميعا على الحكم الذاتي وعلى التعاون وتحمل التبعات في حجرة الدرس وفي ساحات الألعاب. ولا أحب أن أفصل القول في هذه النقطة، وسأنتقل بالقارئ بعد هذا إلى التربية من ناحيتها التعليمية.
التعليم الأولي والابتدائي عام إجباري في أمم الغرب المتمدنة منذ أكثر من ستين عاما، والتعليم الثانوي والعالي ميسر لعدد كبير من الشبان، وبرغم ذلك فإن الناس لا يزالون يقتتلون، ولم يؤد تعميم التعليم الأولي إلى منع اشتعال الحروب كما كان أنصاره يأملون. ولا تزال القلوب قاسية - برغم هذا التعليم - وما زالت العامة تعبد الأبطال من الرجال، وما برحت السياسة الدولية تقوم على التشاؤم إلى حد بعيد؛ ذلك لأن التربية العقلية كالتربية الخلقية فاسدة من أساسها.
إن خير إنتاج العقل البشري قد كرره ملايين المعلمين ملايين المرات على ملايين الآذان، وساعد المعلمين على ذلك نشر الكتب والصحف. وبرغم ذلك ما برحت إلى اليوم تظهر الصحف والكتب المتبذلة، والقصص الوضيعة، والأشرطة السينمائية المنحطة. وهناك إلى جانب ذلك الراديو يذيع الموسيقى الوضيعة، والدعاية الكاذبة ليل نهار - وهذه أدوات كان يمكن أن تستغل لخير البشر، ولكنها تستغل لنشر السخافات والأباطيل.
وهذه هي الثمار الخلقية والذهنية لنظامنا التعليمي! لقد آن الأوان لأن نقوم بعمل نبدل به طبيعة الشجرة التي تحمل هذه الثمار.
بينت فيما سلف ما ينبغي عمله إن أردنا أن ننشئ جيلا من الناس المتحررين العاملين على حب السلام. والآن لنبحث في خير الطرق لتربية الذكاء وتوصيل المعارف إلى الأذهان.
يتخذ التعليم في الوقت الحاضر صورتين مختلفتين؛ هنالك التعليم العلمي أو «التعليم الحر»، والتعليم الفني. والمفروض أن التعليم العلمي يؤدي للمتعلم غرضين؛ فهو أولا تدريب رياضي يمكن المتعلم من تنمية مواهبه العقلية - من القدرة على التحليل المنطقي إلى القدرة على تقدير الجمال. والتعليم العلمي من ناحية أخرى يمكن المتعلمين من إدراك الروابط القائمة بين المعارف المتنوعة، التاريخية منها والمنطقية والطبيعية والكيميائية والبيولوجية. أما التعليم الفني فهو عملي محض، والمقصود به أن يمد الشبان المتعلمين بالكفاية والمقدرة في مهنة معينة أو فن معين.
Неизвестная страница