لقد حاولت فيما سلف من هذا الفصل أن أجيب عن السؤال الأول من الأسئلة التي وجهتها في مستهل الفصل، ووصفت الطرائق المختلفة التي نستطيع بها أن نطبق مبادئ الحكم الذاتي على الحياة اليومية للرجال والنساء. وسأحاول الآن أن أجيب عن السؤال الثاني، وهو: كيف نستطيع تنسيق مجهود الفروع المختلفة المستقلة بحيث لا يضعف التماسك الاجتماعي بوجه عام والإنتاج الصناعي بوجه خاص؟ لقد جربت الروسيا في السنوات الأولى من ثورتها استقلال الصناعات المختلفة وحكمها حكما ذاتيا فرديا، ولكنها عادت فركزت الإدارة في يد الدولة، وأشرف حزب الاشتراكيين على النظام داخل المصانع بعد أن كان يشرف عليه ممثلون منتخبون من جمعية العمال السوفييت. وقد ذكر كاجانووتش
Kaganowitch
الروسي في خطاب له أن الإدارة معناها السيطرة على الماديات وحق التعيين والفصل، والسيادة التامة على العمل. وهذا تعريف دكتاتوري للإدارة لا يختلف عما يراه زعماء الصناعة في البلدان الرأسمالية.
ويزعم أنصار الحكومة الروسية الحاضرة أن التحول من الحكم الذاتي إلى الإدارة المركزية يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وقد يكون ذلك صحيحا في بلد كالروسيا، العمال فيه جهال قليلو الخبرة غير قادرين على حكم أنفسهم أو على الإنتاج المثمر. ولكن الأمر ليس كذلك في غرب أوروبا وفي الولايات المتحدة. وقد برهن دبريل على أن الحكم الذاتي داخل المصنع يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وإذا ففي البلاد التي تحسن فيها تربية الرجال والنساء وتدريبهم، والتي تعود الناس فيها النظم الديمقراطية، لا يؤدي الحكم الذاتي داخل المصنع إلى انهيار النظام أو قلة الإنتاج، اللهم إلا إن كان أولو الأمر يريدون تعبئة الأمة كلها، رجالها وصناعاتها، للأغراض الحربية العسكرية. حينئذ تفشل اللامركزية؛ لأن تعدد الهيئات المستقلة يجعل مهمة الدكتاتور عسيرة شاقة. ومن هنا كانت الحرب عاملا قويا في تركيز الحكم وإلغاء النظام اللامركزي. وسأعالج في الفصل المقبل هذا الشر الاجتماعي المستطير - وأقصد الحروب. أما ما بقي من هذا الفصل فسأخصصه لمعالجة المسألة الثالثة التي أثارها البحث في اللامركزية والحكم الذاتي، وأعني بها قدرة المجتمع المكون من وحدات «مستقلة متحدة» على الإنتاج، وطبيعة الهيئة التي يوكل إليها الجمع بين مجهود هذه الوحدات.
بين لنا دبريل أن أكبر الهيئات الصناعية يمكن أن تنظم بحيث تتألف من عدد من الجماعات المتحدة والمستقلة في نفس الوقت استقلالا ذاتيا. وقدم لنا البرهان على أن مثل هذه الهيئة يزيد إنتاجها على غيرها من الهيئات المركزة. وقد طبقت هذه الديمقراطية الصناعية في بعض المصانع الكبيرة وأتت بأطيب الثمرات، ولكن هذه الديمقراطية الصناعية تتعارض ونظام الرأسمالية والاشتراكية الوطنية؛ لأن الرأسمالية تخلق عددا من صغار الدكتاتوريين، كل منهم يسيطر على مملكته الصناعية الصغيرة. كما أن الاشتراكية الوطنية تتطلب لإدارتها دكتاتورا عظيما، يتركز النفوذ في يده، ويملك زمام السلطة كلها على الشعب بأسره مستعينا بعدد من العملاء البيروقراطيين.
إن الهيئات المتعاونة قائمة بالفعل، وعملها يسير بيسر تام. فإذا نحن أكثرنا من هذه الهيئات ووسعنا من دائرتها فلن يكون ذلك عملا ثوريا، ولن يبعث على المعارضة التي يثيرها مبدأ جديد على الناس كل الجدة.
وجلي أن الهيئات الصغيرة المستقلة لا بد لها من سلطة عليا توحد جهدها وتنسق عملها، فما الذي يكفل لنا أن هذه السلطة العليا لا تتحول إلى دكتاتورية مستبدة؟ الواقع أن هذا التحول شديد الاحتمال في الدول التي تتأهب للحرب. إن الروح العسكرية تفسد أي نوع من أنواع الإصلاح، وفي الأمم التي تستعد للقتال كثيرا ما يتجه الإصلاح الذي يرمي إلى نشر اللامركزية والروح الديمقراطية توجيها حربيا، فيتعزز مركز الدكتاتور أو الأوليجاركية الحاكمة.
وإذا ما ساد العالم جو عسكري، اتخذ الدكتاتور من الحاجة إلى الدفاع معذرة للاستيلاء على السلطة المطلقة. ثم يزول شبح الحرب، ولكن الدكتاتور يتشبث بنفوذه ويسيء استخدامه؛ لأن ذلك من شيم النفوس. فما هو السبيل إلى التخلص من هذا الشر؟ لقد بحثت هذه النقطة بشيء من التوسع في الجزء الأخير من الفصل الذي عقدته على عدم المساواة، وإني أحيل القارئ على هذا الفصل. إن مقاومة الطمع من أشد الأمور، وخير سبيل لذلك تعويد الطفل على الاعتدال وهو ما يزال في دور التربية. إن المجتمع الذي نعيش فيه يشجع على الاستزادة من النفوذ والسلطان؛ لأن صاحب النفوذ مهاب مقدس. ويكفي لتأييد ذلك أن تعلم أن الكتب التي كتبت عن نابليون أكثر من التي كتبت عن أي رجل آخر. فماذا عسى إذا أن تكون أحلام الرجل الذي يرى أن صاحب النفوذ هو البطل الذي يتردد اسمه على ألسنة الناس في كل زمان ومكان؟ إن الدوتشي والفوهرر وأضرابهما لن يكفوا عن إفساد العالم حتى ينظر الناس إلى أمثال هؤلاء المغامرين كأنهم من المخادعين المختالين، وما دام الناس يعبدون قيصر ونابليون فسيظهر من بينهم أمثال قيصر ونابليون يسومونهم سوء العذاب. كان كارليل يقدس البطل، أما بيكن
Bacon
فيقول عن الحاكم المستبد الطموح: «إنه كالقرد الذي كلما علا في تسلق الشجرة تفنن في ألاعيبه.» ولقد كان بيكن أصدق من كارليل نظرا. إننا نتطلع إلى اليوم الذي يمتنع فيه ظهور الدكتاتوريين، وإلى أن يحين هذا الوقت لا بد أن نقنع بوضع العراقيل الشرعية والإدارية في طريق الطامعين حتى لا يكون من ورائهم أثر أو خطر.
Неизвестная страница