وما دامت الدول المتمدنة تواصل استعدادها للحرب فلا يحتمل البتة أن تتخذ إحداها اللامركزية سياسة لها، أو أن تتوسع في مبدأ الحكم الذاتي، بل على العكس من ذلك سيزداد تركيز السلطة لا في الدول الدكتاتورية وحدها، بل في الأمم الديمقراطية كذلك، فتفتر روح الديمقراطية والحرية. وهذه الحركة تجري الآن في الدول الديمقراطية؛ فهي آخذة في التباعد عن المبادئ الصحيحة ومقبلة على تركيز السلطة والاستبداد العسكري؛ ففي فرنسا مثلا اتخذت الحكومة لنفسها حق تجنيد كل فرد وتعبئة كل شيء في حالة اشتعال الحرب. وفي إنجلترا يدرب موظفو الحكومة سرا وبطريقة منظمة على وسائل الحيطة من الغارات الجوية. وفي بلجيكا وهولندا والدول الإسكنديناوية - كما هو الحال في الدول الديمقراطية الكبرى - تنفق على التسليح مبالغ طائلة، وزيادة التسليح معناها تقوية الروح العسكرية؛ فالدول الديمقراطية - في الواقع - تسير في طريق الفاشستية التي تمقتها وتعاديها.
وقد نجحت الحكومة المركزية نجاحا ظاهرا.
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
ولذا فإن سياسة المركزية في العالم المعاصر لم تظهر بمظهرها الصحيح، ولم يفهمها الناس - كما يجب أن يفهموها - على أنها شر محض فرضه على العالم خطر الحرب، شر لا يمكن التخلص منه إلا بعسر شديد وبعد مجهود ضخم وتضحيات بالغة. يعتقد الناس أن المركزية سياسة سليمة في حد ذاتها. ولما كان رجال الحكم آخذين في تركيز السلطة في أيديهم فإن الناس يميلون إلى تحبيذ هذه السياسة؛ وذلك لأن من طبيعة البشر أن يحسبوا الأمر الواقع خير الأمور.
ولكل دكتاتورية لغتها الخاصة، وقد تختلف الألفاظ في إحداها عن الأخرى، ولكن أغراض الدكتاتوريات جميعا واحدة، وذلك أن يكون الاستبداد سياسة مشروعة، وأن يعترف للقائمين بالأمر بالحق الإلهي في الحكم. وهذه الأغراض البعيدة لا تقل إيذاء للناس عن البوليس السري أو رقابة المطبوعات. وفي اللغة التي يستعملها الحكام المستبدون ألفاظ يبررون بها الظلم والجرائم. هؤلاء الحكام يصبون أغراضهم في قوالب لغوية تهيئ المظلوم لتحمل الظلم، بل إنها لتجعله يعبد الظالم المجرم المجنون.
ومما هو جدير بالملاحظة أن هناك كلمة واحدة شائعة بين اللغات الدكتاتورية كلها، وهي تستعمل لتبرير الفاشستية والنازية والاشتراكية على السواء. وتلك الكلمة هي «الأمر الواقع».
فدكتاتورية العامة «أمر واقع لا بد منه» وكذلك الفاشستية؛ إذ يدعي أنصارها أن لهم رسالة تاريخية عظمى يحتمها عليهم الواقع، وتلك الرسالة هي تكوين إمبراطورية عظيمة، أو بعبارة أخرى الفتك بالشعوب الضعيفة باستعمال الغازات السامة والمدافع. وكذلك يرى الألمان أن الجنس الآري - بحكم الواقع والتاريخ - أرقى من الأجناس الأخرى. وهذه الحقيقة الواقعة في نظرهم تبرر أن يرتكب الرجال ذوو الشعر الأشقر والعيون الزرقاء أشنع الجرائم وأشدها حماقة.
إن الاستناد إلى التاريخ والواقع أمر يفيد منه الطغاة كثيرا؛ وذلك لأن هذا الاتجاه معناه - تلميحا إن لم يكن صراحة - أن الواقع هو المعقول، كما يزعم هجل (أو بعبارة أخرى أن الحادث هو ما ينبغي أن يحدث). فإن انتصرت القوة على الحق - مثلا - فالقوة أمر واقع لا مناص من التسليم لها.
ثم إن السلطة المطلقة لها أثر عجيب في تخدير الأعصاب؛ ولذا فإن أصحاب هذه السلطة يستخدمون - وهم آمنون - أية وسيلة مهما تكن دنيئة للاحتفاظ بنفوذهم؛ فالتجسس والبلاغات السرية والتعذيب والسجن الاعتباطي والإعدام في كل أمة دكتاتورية هي الوسائل المألوفة للحكم الداخلي. إن هذه الأمور تحدث بالفعل؛ فهي «أمر واقع» ولذا فهي وسائل معقولة ومشروعة.
Неизвестная страница