Dilettante ، التي يمكن ترجمتها إلى العربية بلفظة «الهاوي»، فهو لم يكن يقول الشعر لأن من واجبه أن يقوله عندما تعن مناسبة، ولم يكن الناس يحاسبونه على صمته كما يحاسبونه على قوله؛ لأنه قد عرف بين الناس بأنه شاعر؛ أي: محترف، كما أنه لم يحرص على أن يخوض في مناقشة أصول الشعر ومذاهبه، ولا على تحديد مكانه في عالم الشعر، وإنما كان يقول الشعر إذا ساقه مزاجه إلى أن يقوله في غير قصد إرادي، ولا تصميم، وهو الرجل الهادئ المنعم الذي يأخذ الحياة من أيسر سبلها، ولا يعرف الانفعالات العنيفة، أو المشاعر الجامحة، أو التكالب على الأدب وعرش الأدب، حتى لقد وصفه الأستاذ العقاد في كتابه عن «شعراء مصر وبيئتهم في الجيل الماضي» بأنه «شاعر قاهري»؛ لما لاحظه على شعره من روح المدن، ومدينة القاهرة بنوع خاص، حيث تغلب على أمزجة سكانها روح اليسر، وعدم التزمت والانفعال.
وأما ولي الدين يكن، فبالرغم من أن مزاجه العصبي العنيف كان يختلف الاختلاف كله عن مزاج إسماعيل صبري القاهري المرفه الوديع الهادئ الطبع، إلا أنه هو الآخر لا يمكن أن يوصف بأنه قد احترف الشعر، واتخذه غاية في ذاته، أو فنا جميلا قائما بنفسه، وإنما اتخذ الشعر وسيلة للتعبير عن آرائه واتجاهاته السياسية والاجتماعية، حتى لنراه يجمع بين الشعر والنثر في كثير من أبحاثه ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، والتي جمعها بعد ذلك في كتبه: «الصحائف السود»، و«التجاريب»، و«المعلوم والمجهول» بجزأيه، وأكبر الظن أن ولي الدين يكن لم يكن يلجأ إلى الشعر؛ ليستهل به مقالاته إلا لإحساس عميق بأن الشعر يستطيع بفضل موسيقاه وأخيلته أن يستنفد ما في أفكاره من انفعالات، حتى إذا هدأت نفسه، واستراحت من عصبيتها العنيفة الدافقة، لجأ إلى النثر ليفصل القول، ويعالج المشكلة التي يدور حولها المقال، مما يدفعنا إلى أن نحدد الخاصية الأساسية لشعر ولي الدين يكن في قولنا: إنه شاعر الانفعالات الفكرية، كما حددنا من قبل إسماعيل صبري بأنه شاعر الهواية الأدبية.
ثم إن كلا من الشاعرين قد كان مقلا نسبيا في إنتاجه الشعري؛ وذلك لأن إسماعيل صبري كان مشغولا بالحياة ونعيمها الميسر عن الشعر، كما أن ولي الدين يكن قد كان مشغولا بمعاركه السياسية والاجتماعية عن الشعر كفن جميل يقصد لذاته، وكل ما كان يحرص عليه - كما قال في مقدمات كتبه، وفي شعره أحيانا - هو أن يأتي يوم ينتفع فيه مواطنوه من عرب وأتراك بآرائه ونزعاته الإصلاحية، وقد عبر عن هذا الأمل في بيتين حرص على أن يدونهما تحت صورته التي يفتتح بها كتبه وديوانه، وهما:
ما كان أهنأني وأسعدني
لو كان ينفع معشري قلمي
أنا لي فؤاد لا أنزهه
لكن يراقب ما يقول فمي
وهو يردد نفس المعاني في نثره مثل قوله في تقديم كتابه المعلوم والمجهول: «بهذا الكتاب أشياء، وقد فاتته أشياء، وفي أحوال العالم ما يمنع الإفصاح بكل ما يدور في الخلد، على أنني لا أحب أن أخرج من هذه الدنيا قبل إظهار ما عندي من الخوافي، فإذا وفقني الله إلى أمنيتي تلك كنت سعيدا ... حين تذهب دول الظلم، ويذوق الناس نعيم العدل، يقرءون مثل كتابي هذا بارتياح، وإذا وهب الله أقوامنا من الترقي أكثر مما نالوه، وبقيت حيا بينهم، كلمتهم بما يخالج صدري تصريحا لا تلميحا.»
ولي الدين يكن
لا شك أن ولي الدين يكن يعتبر من الظواهر الفريدة بين رجال الأدب والفكر؛ وذلك لأن هذا التركي العنيد يعتبر مثلا قويا في صلابة الرأي، وجرأة الفكر، وانفعال العصب في كل أو معظم ما كتب من شعر ونثر.
Неизвестная страница