المجلد الأول
مقدمات
مقدمة المؤلف
...
مقدمة المؤلف:
مصطفى صادق الرافعي: ١٢٩٨-١٣٥٦هـ/ ١٨٨١-١٩٣٧م
هو مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي. ولد في "بهتيم" بمصر سنة ١٨٨١م من أب طرابلسي١ الأصل وأم حلبية. وأخذ علوم الدين عن أبيه، ثم دخل المدرسة الابتدائية وهو في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وقد أصيب بالصمم وهو في الثلاثين من عمره، فكان يُكتب له ما يراد مخاطبته به. وفي سنة ١٨٩٩ عين كاتبًا في محكمة "طلخا" الابتدائية، ثم نُقل إلى محكمة "إيتاي البارود" الشرعية، ثم إلى طنطا حيث نُقل إلى المحكمة الأهلية وتوفي سنة ١٩٣٧م.
خصّ الرافعي قسمًا كبيرًا من مقالاته للدفاع عن الإسلام ومصر والشرق. وكانت نزعته في كتاباته نزعة إسلامية شديدة فيها من التدين والاندفاع الشيء الكثير، وكان غزير الفكر، يملي عليه العقل والتدين كثيرًا من الحكم والمواعظ الخلقية ويوجهانه في كتاباته توجيهًا اجتماعيًّا.
شعره نقي الديباجة على جفاف في أكثره، ونثره من الطراز الأول، إلا أنه لا يخلو من بعض الغموض. أما قصصه ففيه طرافة؛ ولكن فيه أيضًا بعض الثقل والضعف الفني.
مؤلفاته:
- ديوان شعر، في ثلاثة أجزاء.
- تاريخ آداب العرب، ثلاثة أجزاء.
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
- تحت راية القرآن.
_________
١ طرابلس في شمال لبنان.
1 / 3
- رسائل الأحزان.
- على السَّفُّود؛ وهو رد على العقاد.
- وحي القلم، ثلاثة أجزاء.
- ديوان النظرات.
- السحاب الأحمر، في فلسفة الحب والجمال.
- حديث القمر.
- المعركة؛ في الرد على كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي.
- المساكين.
- أوراق الورد.
وقد ألف محمد سعيد العريان كتابًا عن حياة الرافعي. ولمحمود أبي رية "رسائل الرافعي" وهي رسائل خاصة مما كان يبعث به إليه، اشتملت على كثير من آرائه في الأدب والسياسة ورجالهما.
1 / 4
نص كتاب الأستاذ الإمام:
ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي، زاده الله أدبًا.
ما أثمر أدبك، ولله ما ضمِن لي قلبك، لا أقارضك ثناء بثناء، فليس ذلك شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أعدك من خُلَّص الأولياء، وأقدم صفك على صف الأقرباء. وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يُقيمك في الأواخر مقام حَسَّان في الأوائل، والسلام.
٥ شوال سنة ١٣٢١*
محمد عبده
_________
* يوافق هذا التاريخ "١" من ديسمبر سنة ١٩٠٣ للميلاد.
1 / 7
تصدير:
بقلم: محمد سعيد العريان
" ... ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك، وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك، وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك".
الرافعي
هذا كتاب، آخر كتاب أنشأه الرافعي، ففيه النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه ... أفرأيت الليل المطبق كيف تتروَّح نسماته الأخيرة بعبير الشجر وتتندَّى أزهاره في نسيم السحر؟
ألا وإنه إلى ذلك أول كتاب أنشأه على أسلوبه وطريقته، فقد عاش الرافعي ما عاش يكتب لنفسه وينشر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب وينشر إلا أن يُحيل فكرة في رأسه أو لمحة في خاطره أو خفقة في قلبه، إلى تعبير في لسانه أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدى معناه إلى قارئه كما أراده أو يُغلق دونه، فلما اتصل سببه بمجلة "الرسالة"* رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حق نفسه، فكان أسلوبه الجديد الذي أنشأ به الكتاب.
على أن هذا الكتاب -وشأنه ما قدمت- يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح، فمن شاء فليقرَأه دون سائر كتبه، فسينكشف له الرافعي في سائر كتبه. والأديب الحق تستعلن نفسه بطريقتها الخاصة في كل زمان ومكان على اختلاف أحواله وما يحيط به.
_________
* اتصل الرافعي بمجلة الرسالة قبيل موته بثلاث سنوات، وكان ذلك أول اشتغاله بالصحافة، فلم يكن له قبلها صلة "صحافية" بجريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات، وقد كان لذلك أثره في أسلوبه من قبل ومن بعد إلى أسباب أخرى، وانظر "فترة جمام" و"عمله في الرسالة" و"نقلة اجتماعية" من كتابنا "حياة الرافعي".
1 / 9
والرافعي عند طائفة من قراء العربية أديب عَسِر الهضم، وهو عند كثير من هذه الطائفة متكلف لا يصدر عن طبع، وعند بعضهم غامض معمًّى لا تخلص إليه النفس، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب وذوي الذوق البياني الخالص، أديب الأمة العربية المسلمة، يعبر بلسانها، وينطق عن ذات نفسها، فما يعيب عليه عائب إلا من نقص في وسائله، أو كدرة في طبعه، أو لأن بينه وبين طبيعة النفس العربية المسلمة التي ينطق الرافعي بلسانها حجابًا يباعد بينه وبين ما يقرأ روحًا ومعنًى.
فمن شاء أن يقرأ ما كتب الرافعي ليتذوق أدبه فيأخذ عنه أو يحكم عليه، فليستوثق من نفسه قبلُ، ويستكمل وسائله، فإن اجتمعت له أداته من اللغة والذوق البياني، وأحس إحساس النفس العربية المسلمة فيما تحب وما تكره وما يخطر في أمانيها؛ فذوقه ذوق وحكمه حكم، وإلا فليُسقط الرافعي من عداد من يقرأ لهم، أو فليسقط نفسه من عداد هذه الأمة.
على أنه إذا حق لنا أن نرتب كتب الرافعي ترتيبًا يعين قارئه على تذوقه أو دراسة أدبه فإن "وحي القلم" في رأس هذا الثبت، هو آخر ما أنشأ ولكنه أول ما ينبغي أن يقرأ له، وإن البدء به لحقيق أن يعوِّد قارئه أسلوب الرافعي فيسلس له صعبه وينقاد.
ذلك مجمل الرأي في أسلوب هذا الكتاب، على أن قارئه قد يقف منه عند مواضع فليسأل نفسه: كيف تأتَّى للرافعي أن يعالج موضوعه على هذا الوجه؟ وكيف تهيأ له ذلك المعنى؟ وأين ومتى اجتمعت له هذه الخواطر؟ وفي أي أحواله كان يكتب؟ وعلى أي نسق كان يؤلف موضوعه ويجمع أشتاته ويحشد خواطره ويصنف عبارته؟
... ولست أرى من حقي أن أطيل القول هنا في هذا الكتاب وقد ذكرتُهُ في كتاب "حياة الرافعي"، وإن موضوع هذا الكتاب لهو الحقيق بالدرس والعناية.
والكتاب كما يشعر به عنوانه، هو مجموعة فصول ومقالات وقصص، من وحي القلم وفيض الخاطر في ظروف متباينة، وأكثره ما كتبه لمجلة الرسالة بين سنتي ١٩٣٤ و١٩٣٧، ولكل فصل أو مقالة أو قصة من هذه المجموعة سبب أوحى إليه موضوعها وأملى عليه القول فيها، ولقد كان عليَّ أن أثبت عند رأس كل
1 / 10
موضوع منها باعثه وحادثته، لعل من ذلك نورًا يكشف عن معنى مغلق أو يوضح فكرة يكتنفها بعض الغموض، ولكن بعض الضرورات قد ألزمتني أن أقتصد في البيان هنا اكتفاءً بما بينته في موضعه، وأشرت إليه في هامش موضوعه.
ولقد يقرأ القارئ بعض القصص في هذا الكتاب، فيسأل عن بعضها: أهذا حق يرويه أم باطل يدعيه؟ ويسأل عند بعضها: أهذا مما ينقل من مأثورات الأدب والتاريخ القديم، أم إنشاء مما يبدعه الخيال وتوشيه الصنعة؟ ثم يقرأ رأي الرافعي في القصة وكتاب القصة* فيقول: أين رأيه من حقيقته؟ وأين عمله من دعواه؟
ولهذه القصص حديث طويل، ولكن حسبي أن أقول: إن الرافعي -وإن هجر القصة ولم يحفل بها زمانًا- كانت القصة في أدبه، وفي طبعه.
وكما قلت من قبل: إن هذا الكتاب يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح في أسلوبه، كذلك أقول هنا: إنه يجمع كل خصائصه العقلية والنفسية متميزة بوضوح في موضوعه، ففيه خلقه ودينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه تزمته ووقاره، وفيه فكاهته ومرحه، وفيه غضبه وسخطه، فمن شاء أن يعرف الرافعي عرفان الرأي والفكرة والمعاشرة فليعرفه في هذا الكتاب.
أما الجزء الثالث من هذا الكتاب فقد خلفه المؤلف ﵀ على مكتبه قصاصات من صحف وصفحات من كتب ومجلات، فعاد كتابًا بين دفتين، وقد رتبت فصوله على ما بدا لي، إذ لم أجد فيما خلّف المؤلف من أوراق ما يشير إلى رأيه في ترتيبه، ولكن جمع أكثر مواده في غلاف وأودعه درج مكتبه إلى ميعاد، ثم عاجلته منيته. وقد جمعتُ ما قدرت عليه بعد، فأضفتُه إلى ما جمع المؤلف، ورتبت كل ذلك وهيأته للمطبعة فإن كان قد فاتني شيء مما ينبغي إضافته إلى ذلك الجزء، أو قصر بي الجهد عن ترتيبه على الوجه الأمثل، فمعذرة إلى قارئه.
وللمؤلف في ذيل بعض الصحائف تعليقات، ولي تعليقات غيرها اقتضاها مكانها وموضوعها، فإذا رأى القارئ رمز التعليق في الصلب وفي الهامش نجمًا أو
_________
* الجزء الثالث من وحي القلم.
1 / 11
نجومًا "*" "* *" فهو ما علقتُهُ، وإن كان الرمز رقمًا فهو مما علقه المؤلف ﵀ لبيان معنى أو تفسير كلمة.
وإن في الكتاب لفنًّا وفكرًا وبيانًا، وإن فيه لمواضع تقتضي البسط والتطويل في الحديث، وإن فيه لمذاهب في الإنشاء حقيقة بالدرس والنظر، ولكني أجتزئ من ذلك كله بالعرض دون البيان؛ لأدع لقارئه أن يقول ما يشاء ويحكم، ثم لأفسح المكان لمنشئ الكتاب أن يتحدث عن مذهبه في البيان وهو عليه أقدر.
محمد سعيد العريان
1 / 12
صدر الكتاب: البيان
لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، مثيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن تاركًا بوزن لتأخذ النفس كما يشاء وتترك.
ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه كل شيء في خاص معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة؛ تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحده، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به.
فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تُصوِّر به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛ والفوضى المائجة تسأله الإقرار، إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة، يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية، وتتساقط منها بالمعاني.
وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه؛ منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود ولد بها وجود آخر؛ ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجه؛ ويُلقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرَى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ.
هذه القوة التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تاما، وتحول الجملة الصغيرة
1 / 13
إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي هي التي تميز طريقته وأسلوبه؛ وكما خُلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه١.
ولا بد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حُدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبس الملائكة بهذا اللحم والدم أبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة، للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن أو يتسنى من طريقة تعريفها للإنسانية.
وأي بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنَضِّرها حسنًا كما ينضره.
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -كالإيمان، والجمال، والحب، والخير، والحق- ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة.
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنًّا عقليًّا غايته صحة الأداء وسلامة النسق، فيكون البيان في كلامهم على ندرة كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا. ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائدًا جمال الصورة. أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويَدِفّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري. ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ؛ وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يطالعك أنه هنا في جلال وجمال، وفي صور وألوان.
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبّت في نفسه شبابًا؛ وأقوى مما هي، كأنما كسبت من روحه قوة؛ وأدل مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة
_________
١ ثبت أن الإشعاع هو المادة التي صنع منها الكون.
1 / 14
سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي.
وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة، وهو لذلك وبذلك، يُرَى ويؤثّر ويعشَق.
وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك.
إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب.
مصطفى صادق الرافعي
1 / 15
اليمامتان:
جاء في تاريخ الواقدي "أن "المقوقس" عظيم القبط في مصر، زوج بنته "أرمانوسة" من "قسطنطين بن هرقل" وجهزها بأموالها حشمًا لتسير إليه، حتى يبني عليها في مدينة قيسارية١؛ فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها ... وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارًا شديدًا، وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع ما لها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع ما لها، "مع قيس بن أبي العاص السهمي"؛ فسُرَّ بقدومها ... ".
هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن:
كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى "مارية"، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تخمل شيئًا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئًا من القتال غير
_________
١ بلدة بفلسطين. وبلبيس هي المدينة المعروفة بمحافظة الشرقية بمصر.
1 / 16
كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم -ولم تكن المدافع معروفة- ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مِدْفَع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرَف الديناميت!
ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطْنَ على خَسْف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثَقُلت مطامعهم وخَفَّت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزَّارًا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار ولا طبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!
وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم.
ومن ذلك استُطير قلب مارية وأفزعتها الوساوس، فجعلت تندب نفسها، وصنعت في ذلك شعرًا هذه ترجمته:
جاءك أربعة آلاف جزار أيتها الشاة المسكينة!
ستذوق كل شعرة منك ألم الذبح قبل أن تُذبَحي!
جاءك أربعة آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة!
ستموتين أربعة آلاف مِيتة قبل الموت!
قوني يا إلهي؛ لأغمد في صدري سكينًا يرد عني الجزارين!
يا إلهي، قَوِّ هذه العذراء؛ لتتزوج الموت قبل أن يتزوجها العربي ... !
وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه
1 / 17
وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت "أَنْصِنا"١، فكانت عنده في مملكة بعضها السماء، وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسًا يُعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم، يكون حاملًا سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته.
وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب المُلك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة، تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!
وقال أبي لها: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضرّ الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لونًا ...
فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نستضر به؟
قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلِبون كالبهائم؛ ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون.
_________
١ هي مارية القبطية التي أهداها المقوقس إلى النبي "ﷺ" وكانت من "أنصنا" بالوجه القبلي.
1 / 18
قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة، إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها ... ! فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلًا عن أمة كما وصفتِ أنتِ من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون: إنه كان أميا؟ أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير؛ فتدعهم يعملون عبثًا أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟
قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويُطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العلمية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه.
وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها؛ وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده، فكان ذلك أول خُطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي١. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لها جرت به كذلك، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضًا: إحداها للأعضاء، والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذلها في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تُقهَر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما.
قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان
_________
١ انظر المقالات النبوية في صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب.
1 / 19
فيها عمياء؛ كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية، فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموّ ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة.
قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!
فاستضحكتا معًا وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلامًا جاريتُكِ فيه بحسبه، فأنا وأنت كافرتان لا مسلمتان.
قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في "منف"، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار -وهي نحو الشهر- كأنه فكر سكن فكرًا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد.
ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: "المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء".
وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تُعرّب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يُصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!
قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيصحبك الراهب "شطا"، وخذي معك كوكبة من فرساننا.
1 / 20
قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديتُ إليه رسالتكِ فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. فقال: أبلغيها أن نبينا ﷺ قال: "استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم فيكم صهرًا وذمة" وأعلميها أننا لسنا على غارة نُغِيرها، بل على نفوس نُغَيِّرها.
قالت: فصفيه لي يا مارية.
قالت: كان آتيًا في جماعة من فرسانه على خيولهم العِراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر؛ فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان -وهو "وردان" مولاه- فنظرتُ، فإذا هو على فرس كُمَيْت أَحَمَّ١ لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطُرَّة المرأة، ذيَّال يتبختر بفارسه ويُحمحم كأنه يريد أن يتكلم، مُطَهَّم ...
فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جوده ...
قالت مارية: أما سلاحه ...
قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته "هو"؟
قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة وصلابة، وافر الهامة علامة عقل وإرادة، أدعج العينين ...
فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا؟
... أبلج يُشرق وجهه كأن فيه لألاء الذهب على الضوء، أيِّدًا، اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرًا ... داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه، وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرر النظر إليه ...
وتضرَّجت وجنتاها، فكان ذلك حديثًا بينها وبين عيني أرمانوسة.... وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها ...
فغضّت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته.
قالت أرمانوسة: من هيبته أم عينيه الدعجاوين؟
_________
١ الكميت الأحم: هو الأحمر الضارب للسواد، لا يخلص لأحد اللونين، فإذا كان أحمر خالصًا قيل فيه: كميت مدمّى "بتشديد الميم الثانية وفتحها".
1 / 21
ورجعتْ بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة "قيس"، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: "الله أكبر ... " ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب "شطا": ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ انظري، ألا تريْنَ هذه الكلمة قد سحرتهم سحرًا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم١؟
قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهوَّلت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان؛ لتوحي إلى نفوسهم ضربًا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها، فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة، ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟
قالت أرمانوسة: نعم، إن الكنيسة كالحديقة؛ وهي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئًا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع.
قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فُتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها؛ فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ.
قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا، وهل لهم قواد كثيرون كعمرو؟
قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم، بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أممًا ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل!
_________
١ انظر مقالة "حقيقة المسلم" في الجزء الأول.
1 / 22
قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمرو.
وانفتل قيس من الصلاة، وأقبل يترحَّل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمرو وما يتصل بعمرو. وفي هذه الحياة أحوال "ثلاث" يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان محبوب.
وقالت مارية للراهب شطا: سَلْهُ: ما أَرَبُهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدًا حاكمًا على هذا البلد؟
قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلًا عاملًا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا.
وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، الحرب فهي عندنا الفكرة وأما المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئًا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برُعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي رجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه، ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا لانعكس الأمر.
قالت مارية: فسله: كيف يصنع "عمرو" بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق "عمرو" فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟
قال الراوي: ولكن فرس قيس تمطّر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة، كأنه يقول: لسنا في هذا. وفُتحت مصر صلحًا بين عمرو والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمأى؛ وحاطها اليأس بجوِّه الذي يحرق الدم؛ وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يتقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، وشعور أنها يائسة!
1 / 23
ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضًا تتعلق فتًى رومانيًّا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمرو كي تصل إليه، فإذا وصلت بلَّغت بعينيها رسالة نفسها.
واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرًا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: "قد تحرمت في جوارنا، أَقِروا الفسطاط حتى تطير فراخها" فأقروه!
ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة هذا الشعر الذي أسمته نشيد اليمامة:
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت!
هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها.
إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.
هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.
هل أكلف الوجود شيئًا إذا كلفته رجلًا واحدًا أحبه!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض.
هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة.
هل أكلف الوجود شيئًا كثيرًا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى؛
مرة حبيبًا كبيرًا في رَجُلها، ومرة حبيبًا صغيرًا في أولادها.
1 / 24
كل شيء خاضع لقانونه، والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها.
أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لكِ فسطاطه!
هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى.
احمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان،
عندكم فقط: الحب والطبيعة والحياة.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان.
نُسب الهدهد إلى سليمان، وستُنسب اليمامة إلى عمرو.
واهًا لك يا عمرو! ما ضر لو عرفتَ "اليمامة الأخرى"!
1 / 25