لقد آن الأوان لأحدثك عن السبب، فقد كان يسرني أن تلعب أناملك على العود في الظلمات لأخفي عنك دموعي، دموع الوجد الذي يثيره فنك المطلول.
ثم جدت أحداث وخطوب نسيتك فيها ونسيتني، إن كان النسيان يجوز على قلب مثل قلبي، ولعل الأستاذ حسن السندوبي - الأديب الساخر - لا يزال يذكر أنني أتعبت قدميه في ليلة شاتية لنصل إلى منزلك، وما وجدناك، وقد ظل يسخر مني زمنا غير قليل ، ولعله لا يزال يسخر من سذاجتي إلى اليوم.
مدحت، لقد بدا لك أن تقارن بين فني وبين فنك، فني في البيان وفنك في الألحان، وأنت ترى أنني اجترفت ما وقف في طريقي من حواجز وأسداد، فاسمح لي أن أسجل أنني لم أنتصر وحدي، وإنما انتصرت معك، فأنت أيضا من المنتصرين على ما تدعيه لنفسك من الخمول، وهل من القليل أن يبقى مكانك في محطة الإذاعة بضع سنين وهي أخطر وكر من أوكار الدسائس؟ إن إخوانك - وأنا منهم - أحجموا عن مناصرتك فمضيت تشق طريقك بيديك، وسيذكر عالم الفن، إن كانت له ذاكرة، أنك كنت في طليعة النوابغ.
مدحت، لك في عنقي ديون، فقد أوحيت إلى قلبي كثيرا من المعاني، ولكني سأجزيك خير الجزاء حين أقدم إليك المذكرات الطريقة التي خطتها يمناك في التشوق إلى أخيك.
وبعد، فهل أستطيع أن أسألك عن حال الصديق السخيف الذي يسمونه الموسيقار محمد عبد الوهاب؟ هل أستطيع أن أسألك ما حاله في دنيا غرامه الأثيم؟
لقد نسى هذا الصديق السخيف فضلي عليه، ونسى موقفنا فوق بحيرة أنجان، ونسى أيامنا في باريس وهو يخرج الوردة البيضاء، ونسى القصيدة التي نظمتها فيه وأنا في القطار من باريس إلى ليون، ويظن هذا الصديق السخيف أن كسب المال أفضل من كسب القلوب، تبت يداه، ما أشقاه!
هل أستطيع أن أسأل عن صحة المغنية «حياة محمد» التي وعدتها فأخلفتها وما وعدتني فأخلفتني؟ هل أستطيع أن أسأل عن رباعي العقاد؟ هل أستطيع أن أسأل عن الفتاة التي تلقى محاضراتها عندكم بصوت أرق من بغام الظباء؟
مدحت، حدثني عن لحيتك - لعنها الله - ألا تزال في صحبتك؟ والأستاذ سعيد بك لطفي كيف حاله؟ وعزيز رفعت، وعلي خليل، والصديق الغادر عبد الحميد الحديدي، كيف حال هؤلاء الأعزاء؟ وشارع علوي أين يقع؟ وبار اللواء أين يكون؟ وخلدون أين يجلس؟ وحفني محمود أين يلعب؟ والشناوي أين يغرد؟ وجبريل أين يمزح؟ وهيكل أين يؤمن؟ وطه حسين أين يشك ويرتاب؟
أراني اشتقت إليكم، وأقسم ما قادني الشوق إلا إلى ناس هم مثال الغدر والجحود والعقوق.
الفصل الثاني عشر
Неизвестная страница