الفصل الأربعون
عبقرية الشريف الرضي1
أما بعد، فهذا كتاب «عبقرية الشريف الرضي» وما أقول إني شغلت به نفسي سنة كما قلت يوم أخرجت شرح «الرسالة العذراء»، ولا سبع سنين كما قلت يوم أخرجت كتاب «النثر الفني»، ولا تسع سنين كما سأقول بإذن الله يوم أخرج كتاب «التصوف الإسلامي» فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهو ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدر، خير من ألف شهر، والتوفيق من أشرف الأرزاق.
وكتابي هذا هو مجموعة المحاضرات التي ألقيتها في قاعة كلية الحقوق، وكانت تلك المحاضرات من أشهر المواسم في حياتي، فقد كان أصدقائي يخشون أن يمل الجمهور بعد أسبوع أو أسبوعين، ولكن الجمهور كان يزداد إقباله من أسبوع إلى أسبوع، ولم ينقذني منه غير التصريح بأني أنفقت كل ما كنت أملك، ولم يبق إلا أن أستريح.
ومحاضراتي بكلية الحقوق في بغداد هي الموسم الثاني بعد محاضراتي عن «المدائح النبوية» وهي المحاضرات التي ألقيتها باسم الجامعة المصرية في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة، فهل يتسع العمر لموسم ثالث في القاهرة أو في بغداد؟ •••
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأعددت هذه المحاضرات وأنشأت معها مقالات كثيرة جدا نشرتها صحف مصر ولبنان والعراق، ورججت الحياة الأدبية في بغداد رجا عنيفا، فذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع لأحفظ لنفسي مكانا بين الأساتذة المصريين الذين تشرفوا بخدمة العراق من أمثال: محمد عبد العزيز وأحمد حسن الزيات والسنهوري وعبد الوهاب عزام ومحمود عزمي، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في خدمة تلاميذي وتلميذاتي في بغداد، وقد رأيت في وجوههم وجوه أبنائي وبناتي فكلفت نفسي في خدمتهم فوق ما أطيق.
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأنفقت من العافية ما أنفقت، فقد ساءني أن أعرف أن «دار المعلمين العالية» لها في بغداد تاريخ، فكانت تفتح ثم تغلق، وتفتح ثم تغلق، فاستعنت الله وانتفعت بعطف معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي وأريحية الأستاذ طه الراوي ومودة الدكتور فاضل الجمالي، وعولت على همة زميلي وصديقي الدكتور فؤاد عقراوي وأقمنا لدار المعلمين العالية أساسا من متين التقاليد الجامعية، فأغنينا مكتبتها بالمؤلفات القديمة والحديثة، وعلمنا طلابها كيف يبحثون ويراجعون، وغرسنا فيهم الشوق إلى التحقيق والاستقصاء.
ورأيت أن يكون من تقاليد هذا المعهد العالي أن يخرج في كل سنة كتابا عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل، فألفت كتابي هذا عن الشريف الرضي، فإن ترفقت شواغلي بمصر وأذنت لي بالرجوع إلى بغداد فسأخرج في كل سنة كتابا جديدا، وإن أبت تلك الشواغل أن أتمتع مرة ثانية بالاستصباح بظلام الليل في بغداد فسيذكر من يخلفني أني طوقت عنقه بطوق من حديد، وأن لا مفر له من أن يشقى في سبيل «دار المعلمين العالية» كما شقيت.
وإنما نصصت على هذه المعاني في مقدمة هذا الكتاب لأجتدى العطف على «دار المعلمين العالية»، وممن أجتديه؟ من حكومة العراق، فما يجوز أن يغلق هذا المعهد، وإنما يجب أن تبذل الجهود ليصبح منافسا قويا لكلية الآداب بالجامعة المصرية. •••
قد يقول قوم من خلق الله: ولماذا ابتدأت بالشريف الرضي؟! إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو يذكر جيدا أنني قلت له يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي.
Неизвестная страница