وكانت هذه الخيمة منصوبة بجانب خيمة لادي كلدن وابنتيها، فيظهر أن حديث الرجلين نبه اللادي من نومها. فإنها في ذلك الحين أزاحت باب الخيمة، وظهرت بثوب النوم باسمة مسرورة موردة الخدين، كأنها وردة رطيبة برزت من وراء غصنها، فقام إليها المستر كلدن مسرورا لسرورها، فقبلها قبلة شهية في الصباح وأدخلها خيمته؛ لأن البرد كان قارصا في الخارج، فخرج حينئذ كرنيجي من الخيمة، فسألها كلدن: كيف ترين الأرز؟ فأجابت: هذه أول مرة سررت فيها بسياحتنا، ولولا هذا المكان الجليل الجميل لأسفت على انتقالنا من أميركا. فقال كلدن: الحمد لله، الحمد الله، وهل ذهبت الأفكار السوداء؟ فعبست إميليا وقالت: بحياتك لا تذكرني بها، آه لو تعلم الحلم الجميل الذي رأيته في هذا الليل. فقال: ماذا رأيت؟ فقالت وقد بدت الدموع في عينيها: رأيته في السماء لابسا ملابس الملائكة وهو يبتسم لي ويقول: رضي الله عنك، رضي الله عنك. لا تحزني فإنني استرحت هنا بعد عذابي في الأرض.
وهنا أغرقت إميليا في البكاء، فأكبت على المائدة التي في وسط الخيمة، وصارت تذرف الدموع، فلام المستر كلدن نفسه لأنه فتح هذا الباب، ورغبة في صرفها عنه مال إليها ملاطفا ومتوجعا وهو يقول: بحياة عينيك يا حبيبتي لا تنغصي عيشنا في هذا اليوم الجميل، ولا تهيجي عينيك بالبكاء، فعليك مقابلة الناس. فرفعت رأسها وقالت: أي ناس؟ فقال: إنك ستصنعين يوم (كلدن) بيدك، فتكون الهبة أكثر قيمة وأشد تأثيرا؛ إذ شتان بين يدك البيضاء الجميلة ويدي الخشنة، وفضلا عن ذلك فإن تاجرا مشهورا من أبناء وطنك سيزورنا اليوم. فقالت بدهشة: أي تاجر؟ فقال: هو تاجر من بيروت يطلب أن يكون وكيل أشغالنا التجارية في الشرق كله، وهذا كتابه وشهاداته أمامك على المائدة.
فمدت إميليا يدها إلى الأوراق وأدارتها لترى التوقيع الذي على الكتاب، وحينئذ صاحت صيحة من أعماق قلبها، ووثبت مجفلة كأن حية لسعتها، فأجفل المستر كلدن وعرته دهشة عظيمة فصاح: ما بك؟ ما بك؟
أما إميليا فكانت منتصبة بهياج شديد وراء المائدة ووجهها كوجوه الأموات لاصفراره، فهال منظرها المستر كلدن وحسب أنها جنت، فصاح: بحياتك إميليا قولي ما بك.
فصاحت حينئذ إميليا بصوت كصوت لبوة هوجمت أشبالها: من أوصل هذه الأوراق إلى هنا؟ فقال كلدن: هل تعرفين صاحبها؟ فصاحت إميليا: يسألني هل أعرفه! ومن ذا الذي لا يعرف الذئاب والوحوش الضارية؟! ماذا يريد هذا الرجل منا؟! أما كفاه أنه سمم أول حياتي فجاء الآن يسمم آخرها؟!
ففهم كلدن حينئذ أن في المسألة سرا، فقال لها بلطف: عفوا يا إميليا هدئي بالك واجلسي لنتحادث في هذا الشأن بهدوء، ولا يكون إلا ما تحبين.
فقالت إميليا: لا لا. لا أريد أن أتكلم عن هذا الرجل، ولا أن أسمع اسمه، ولا أن أرى وجهه. حبيبي جورج، اقتلني ولا تجعل له في حياتي ذكرا بعد اليوم؛ لأنه يسمم حياتي، إنني أرى دهشتك الآن وأعلم ماذا تقول في نفسك، إنك تقول: لم أعهد إميليا رديئة القلب إلى هذا الحد، فإنها من الذين يصفحون ويحلمون ويحبون أعداءهم ويباركون مبغضيهم، فما بالها الآن عمدت إلى الرداءة والخبث؟! لا لا يا حبيبي، لست رديئة ولا خبيثة، وإنما أنا فتاة ذاقت من هذا الرجل ما لم تذقه الفرائس من الوحوش، فأنا أغتفر كل الذنوب والآثام، وأصفح عن الإساءات إلا عن إساءة هذا الوحش، وإذا كان الله يكتب علي هذه العاطفة الرديئة، فإنني أفضل دخول جهنم على الصفح عن هذا الرجل.
وكانت إميليا حينئذ في حالة لو رآها رافاييل لعض أصابعه تحسرا على أنه لم يظفر بمثلها في حياته ليصور بتصويرها أجمل سيدة في أجمل غضب. ولو سمعها الناصري لعلم مبلغ ظلامتها من مبلغ تأثرها، وحينئذ يقول لها: أيتها المرأة، مغفورة لك خطيئتك.
أما كلدن فإنه صار يضحك بعد وقوفه على حقيقة المسألة فقال لها: أنا لا أسيء الظن بك؛ لأنني أعرف قلبك. فاجلسي وقصي علي القصة من أولها، ثم إن غضبك في غير محله ؛ فإن الغضب يكون عادة سلاح الضعفاء المغلوبين لا الأقوياء، وهو الآن ضعيف بالنسبة إلينا؛ لأنه جاء يرجو منا لنجعله وكيل أشغالنا. فصاحت إميليا: كما كان وكيل أشغالنا. فقال كلدن: إذن فاضحكي يا عزيزتي ضحك القوي الواثق بقوته وبحقه، المنتصر على خصمه، بدل أن تغضبي غضب الخوف والاهتمام بما لا يستحق الاهتمام.
فسكن حينئذ جأش إميليا شيئا فشيئا، وجلست تقص عليه قصتها، فعلم كلدن أن الخواجه لوقا طمعون هو الرجل الذي كان سبب مصابها ومصاب أهلها؛ فإنه كان أولا من أصدقاء أبيها، وكان يتزلف إليه ويتقرب منه طمعا في الفائدة، وكان يتظاهر بأنه يريد الاقتران بابنته، فاصطفاه أبوها وأطلعه على أشغاله وأسراره، وصار يعول على نصائحه وآرائه، ويمده بمساعدته نفعا له وترويجا لأعماله، فاغتنم لوقا هذه الفرصة وغدر بالرجل ليبني أشغاله على أنقاض أشغاله، ويحل محله في بلده، ويجمع لنفسه رأسمالا من رأسماله؛ فأدت دسائس لوقا لأبيها إلى خسارة أبيها أمواله كلها وخراب محله وسقوط منزلته، فماتت أمها قهرا من هذه الحالة، وهي نفسها عزمت يوما على الانتحار تخلصا من الفقر والضيق والجوع، فألقت نفسها في البحر، ولكنها أخرجت قبل فراق الروح، فعدلت حينئذ عن الانتحار، وعزمت على الفرار من بلدها، ففرت وتركت أباها وحيدا فريدا.
Неизвестная страница