فقص عليه سليم كيف شاهدا مخلوف في عين السنديانة وما جرى له، وكيف وعدهما بأن يقابلهما في الأرز، فقال أمين: أظن هذا كل ما تعرفانه عنه، أما أنا فإنني أقص عليكما قصته من أولها إلى آخرها كما سمعتها من عارفيه، وإليكما تفصيلها:
إن اسم مخلوف الأصلي (يعقوب درمان)، وهو شاب أديب من بلدة صور، وكان منذ عشر سنوات مكبا على الدرس استعدادا لفن المحاماة؛ فبينما كان ذات يوم يطالع بعض دروسه على شاطئ البحر، وإذا به يسمع صراخا وعويلا، فركض فأبصر خادمة تنادي على سيدة لها بين الأمواج تكاد تغرق، فألقى نفسه حالا بأثوابه في البحر وأنقذ السيدة، وكانت هذه السيدة فتاة في نحو الثامنة عشرة من العمر، وهي كريمة تاجر كبير في صور، وقد رامت الانتحار غرقا لأسباب مجهولة، فلما أنقذها يعقوب أرسلها إلى بيتها وكانت مغشيا عليها، فكاد أبوها يموت من حزنه، ولكن الحياة عادت إليها، ومنذ ذلك اليوم أحبها يعقوب درمان حبا شديدا يقرب من العبادة، ومالت الفتاة إليه؛ لأنه أنقذ حياتها، لكن الأقدار عاكستهما بعد ذلك؛ فإن أباها - على ما يقال - توفي في ذلك العام وقد خسر جميع أمواله، وانحطت كرامته بين قومه بعد أن كان عزيزا بينهم، وبذلك بقيت ابنته وحدها؛ إذ لم يكن في البيت غيرها لوفاة أمها.
وكان يعقوب درمان فقير الحال أيضا؛ فرأت الفتاة أنها إذا اقترنت به ازدادت سوء حال على سوء حال، وكانت عزيزة النفس شديدة الأنفة؛ لأنها نشأت في الترف والغنى والدلال، فكرهت أن تقيم ذليلة فقيرة في بلدة كانت فيها العزيزة المبجلة؛ فغافلت حبيبها يعقوب وفرت مسافرة مع إحدى البواخر التي تمر على صيدا، وتركت له ورقة تقول له فيها: «انسني واسلني بعد الآن.» ويظهر أن دماغ يعقوب ضعيف من فطرته؛ فلم يقو على تحمل هذه الصدمة فجن من يومها.
فقال سليم: ولكن كيف سافرت الفتاة وحدها إلى بلاد لا تعرفها؟ فأجاب أمين: لا تسل عن ذلك؛ فإنها نشأت في مدارس الأميركان، وأنت تعلم أنهم يربون البنات في مدارسهم على الجرأة والإقدام والاستقلال، وهو أمر أحيانا يكون نافعا وأحيانا يكون ضارا.
فضحك كليم وقال: لا ريب أننا إذا رأيناه نحن في هذه الحادثة نافعا؛ فإن الخواجه مخلوف يراه مضرا جدا؛ لأنه فقد به حبيبته وعقله.
فقال كليم: ولكن عندي أن الفتاة لم تخطئ؛ إذ لا أصعب من معيشة الإنسان محتاجا إلى الناس في بلدة كان فيها من قبل غنيا عنهم؛ فإن دناءة الشامتين ولؤم المنتقمين ووقاحة حديثي النعمة الذين يحلون محل ذلك الإنسان بعد سقوطه أمور لا تحتملها النفوس.
فقال أمين بهدوء ورزانة: ما للإنسان وكلام الناس! إنما عليه أن يعيش بهدوء مستورا، وإذا كان في الناس قوم (أردياء) يشمتون وينتقمون، ففيهم قوم (طيبون) يواسون ويعزون، فقد كان على الفتاة أن تبقى ولا تسافر بهذه الصورة الشنيعة.
فقال كليم ضاحكا: لو سمعك مخلوف الآن لأعطاك طربوشه من فرحه.
فقال أمين ضاحكا: وما نفعي منه! فإن طربوشه قذر. فضحك الجميع لهذا الجواب.
الفصل السادس
Неизвестная страница