وذلك البيت، وإن كان أقل رونقا وبهاء، وأصغر اتساعا من هذا، إلا أنه يكفي على حال لأن يلم شعثنا ويأوينا تحت سقفه، فعليك الآن أن تستعدي للسفر إلى قرية سان كولومب، أما أنا فاندهشت من هذا الكلام وقلت لراعول بلهجة الغضب والاشمئزاز: إني لا أتبعك ولا أقتفي أثرك منذ اليوم؛ فاذهب أنت وحدك إذا شئت.
قال: وإلى أين تذهبين إذن يا مادلين؟
قلت: أنا حرة في ما أفعل فليس علي حرج ولا جناح. - ولكن، ألا تعلمين يا سيدتي أن الشريعة تلزمك بالخضوع لإرادة زوجك رغم أنفك. - إن الشريعة لا تأمرني بالإذعان لإرادة وحش ضار وسفاك للدماء مثلك. - كفى يا مادلين؛ فأنت لا بد لك من الرضوخ لأمري على كل حال. - ومن ذا الذي يجبرني على ذلك؟ - إذن فاذهبي حيثما شئت فأنا آخذ أولادي وأرحل وحدي من هذه المدينة.
قال ذلك ثم خرج من الغرفة يهز أكتافه علامة التهكم والازدراء؛ فهالني هذا الأمر، وعلمت أنه لا مناص لي من اتباع مشورة زوجي راعول؛ لأن السلاح الذي اتخذه لمحاربتي لا يمكنني الوقوف أمامه، وما على العاجز الضعيف إلا التسليم والخضوع، وعلى ذلك جهزنا كل ما يلزم لهذا السفر، وفي صباح اليوم الثاني ابتدأنا في المسير، ولم يأت المساء إلا وقد وصلنا إلى سان كولومب، فدخلت إلى دارنا الجديدة، وإذا بها بيت حقير البناء ضيق النطاق، وقد خيمت عليه عناكب الكآبة وأرخى فيه الظلام سدوله، وحينذاك تذكرت أيام النعيم والهناء التي مرت أمام عيني كمر السحاب، وقلت في نفسي: يا لله، هل لم يكفني ما حل بي من البلايا والرزايا بفقد والدي وفراق حبيبي موريس وقتل صديقي إميل على مرأى ومسمع مني حتى يحكم علي بعد ذلك بالنزول من قصور العز والدلال إلى أكواخ المذلة والفقر؟
ولكن ماذا ينفع هذا التأوه والتنهيد، وقد نزل الخطب وحل البلاء؟
إن هذا البيت الجديد الذي قضى علينا سوء الطالع بأن نسكنه كان ملك أخت زوجي راعول، وهي آنسة تناهز الخامسة والثلاثين من عمرها.
وقد كانت تهوى شابا أوقف قلبه لحبها، ومالت إليها كل جوارحه، ولكن أبت المنون إلا أن تفجعها بموته قبل إتمام زفافهما ببضعة أيام فشق عليها هذا المصاب، وأقسمت بأن لا تعطي يدها ولا تسلم قلبها إلى شخص آخر، وكانت تملك من حطام الدنيا كلها هذه الدار الحقيرة؛ لأن أخاها راعول هضم كل حقوقها في ميراث أبيها، واستحل اغتصابها لنفسه، أما هي فسامحته على كل ذلك ولم تسخط عليه؛ لأنها كانت على جانب عظيم من التقوى ومكارم الأخلاق وطيب العنصر، ولطالما وبخت زوجي على هذا الغدر وسوء التصرف؛ فلم يكن يعيرني إلا أذنا صماء؛ حتى إذا دنا أجل شقيقته كان هو وقتئذ وريثها الوحيد في هذه الدار.
ومن ثم لبثنا في هذه الدار التي أبى الدهر إلا أن تكون مأوى الحزانى وأهل المصائب والكروب، وقلت في نفسي: إن الواجب أن أرضى الآن بما قدر به علي وأقضي باقي أيام حياتي الحزينة في هذا السجن الجديد كما فعلت أخت زوجي راعول من قبلي.
ولكن بعد مضي أسبوعين من الزمان سئمت نفسي من الحياة وضقت ذرعا، فعزمت على الخلاص من هذه الورطة؛ إما بالفرار أو الانتحار.
وفي صباح أحد الأيام انتهزت فرصة تغيب زوجي عن الدار؛ فجمعت ما يتيسر من اللوازم الضرورية، وأخذت ما كنت قد ادخرته من فضلات المال في أيام العز والنعيم، ثم حملت ولدي الصغيرين على ذراعي وبارحت قرية «سان كولومب» هاربة من وجه هذا الوحش الضاري والزوج القاسي، ولكن النحس لسوء الطالع كان يلازمني ولا ينفك عني طرفة عين؛ فإني لم أدر من الذي أخبر زوجي بحقيقة الأمر، ففاجأني في الطريق وقبض علي ثم أتى بي إلى الدار ثانيا، وطفق يوسعني شتما وإهانة على ما صدر مني، وأخيرا أدخلني إلى غرفة مظلمة في الدار تكاد تصلح لأن تكون سجنا للمجرمين والأشقياء فزجني فيها، وأمر بأن لا يدنو أحد مني إلا مرة واحدة في كل مساء لإحضار الطعام، وهنا لا تسألني يا سيدي عما كنت أذوقه من صنوف الذل والعذاب، وأي ذل وعذاب أعظم من أن أرى نفسي - أنا التي تربيت في بحبوحة العز والرخاء ولم أتعود إلا على معيشة الرفاه والدلال، ولم أسكن إلا القصور الشائقة التي تكتنفها الغياض الغناء والحدائق الأنيقة - لم ألبث أن أصبحت مطروحة في سجن مظلم، وقد حرمت من رؤية الشمس والتمتع بجمال الطبيعة مثل غيري من البشر.
Неизвестная страница