ابتسم إرنست. «توقعت ذلك. لذا، لدي غداء يكفي فردين.» «نعم، أعرف. إنك دائما ما تفعل ذلك. سألحق بك بعد قليل.»
أحب كلود أن يأخذ إرنست إلى الفندق ليتناول العشاء معه. كان لديه مال كثير في جيوبه؛ فوالده مزارع ثري. في عائلة ويلر، كان لا يناقش أمر شراء آلة درس حبوب أو سيارة جديدة، ولكن يعتبر الذهاب إلى الفندق لتناول العشاء إسرافا. إن سمع والده أو بايليس أنه ذهب إلى هناك وعرف بايليس كل شيء، فسيقولان إنه يتصرف بغرور وسيعاقبانه. حاول أن يبرر جبنه بقوله إنه كان متسخا وإن رائحة الجلود طالته، ولكنه كان يعلم في أعماق قلبه أنه لم يطلب من إرنست الذهاب إلى الفندق معه لأن طريقة تربيته تصعب عليه القيام بهذا الأمر البسيط. اشترى بعض الأشياء من متجر الفاكهة وكشك السيجار، ثم أسرع على طول الطريق المترب باتجاه محطة الضخ. كانت عربة إرنست تقف في ظل بعض أشجار الصفصاف، على قاع رملي صغير محاط نصفه بجانب من النهير منحن مثل حدوة الحصان. رمى كلود نفسه على الرمال بجانب النهير، ونفض الغبار عن وجهه المتعرق. شعر الآن كأنه طوى صفحة ذلك الصباح البغيض.
أخرج إرنست سلة غدائه.
قال: «لقد وضعت زجاجتي جعة في النهير كي أبردهما. أعلم أنك لن ترغب في دخول أي حانة.» «أوه، انس الأمر!» تمتم كلود بتلك الكلمات وهو يرفع غطاء جرة من المخللات. لقد كان يبلغ عمره تسعة عشر عاما، ويخشى الذهاب إلى الحانات ، ويعلم صديقه أنه يخشى ذلك.
بعد الغداء، أخرج كلود بعض السيجار الجيد التي سبق أن أحضرها من كشك السيجار. وابتهج إرنست؛ إذ لم يكن بإمكانه شراء هذا النوع من السيجار. أشعل واحدة وظل وهو يدخنها ينظر إليها بشيء من العجب ويلفها بين أصابعه.
وقفت الخيول ورأسها أعلى صندوق العربة، وأخذت تمضغ الشوفان. تدفق ماء النهير تحت جذور شجر الصفصاف محدثا خريرا هادئا يبعث على التأمل. استلقى كلود وإرنست في الظل ووضعا معطفيهما تحت رأسيهما وتحدثا قليلا جدا. ومن حين لآخر، كانت تمر سيارة في الطريق باتجاه المدينة وتنفجر سحابة من الغبار، وتنتشر رائحة الوقود فوق قاع النهير، ولكن لم ينقطع - معظم الوقت - الصمت الذي كان يسود في وقت الظهيرة في هذا اليوم من أيام الصيف الدافئة والهادئة. عادة ما يكون بإمكان كلود نسيان أسباب انزعاجه وامتعاضه عندما يكون بصحبة إرنست. لم يكن الفتى البوهيمي مترددا على الإطلاق، ولم يتحير بين طريقين أو ثلاثة في الوقت نفسه. كان بسيطا ومباشرا. كان لديه عدد من الاهتمامات غير الشخصية؛ إذ كان مهتما بالسياسة والتاريخ والاختراعات الجديدة. شعر كلود أن صديقه يعيش في جو يوفر له حرية الفكر، لم يحلم هو قط أن يحظى بمثله. بعدما تحدث مع إرنست بعض الوقت، بدت الأشياء التي لم تسر على ما يرام في المزرعة أقل أهمية بالنسبة إليه. تكاد والدة كلود تحب إرنست مثلما يحبه ابنها. لما كان الفتيان في المدرسة الثانوية، غالبا ما كان إرنست يأتي في المساء كي يذاكر مع كلود؛ وفي أثناء المذاكرة على طاولة المطبخ الطويلة، كانت السيدة ويلر تحضر الأشياء التي ترفوها، وتجلس بجوارهما وتساعدهما في دراسة اللغة اللاتينية والجبر. حتى ماهيلي العجوز كانت تتعلم من عبارات الحكمة التي يدرسونها.
قالت السيدة ويلر إنها لن تنسى أبدا الليلة التي وصل فيها إرنست من بلده الأم. ذهب أخوه جو هافل إلى فرانكفورت كي يقابله، وحينها كان عليه أن يتوقف في طريق عودته إلى المنزل ويترك بعض أغراض البقالة لعائلة ويلر. تأخر القطار القادم من الشرق؛ أعلنت الساعة عن العاشرة مساء عندما كانت السيدة ويلر تنتظر في المطبخ في تلك الليلة، وسمعت صوت عربة هافل وهي تحدث صوتا على الجسر الصغير الذي يمر من فوق نهير لافلي كريك. فتحت الباب الخارجي ودخل جو من فوره وفي يده سلة تحوي بعض الأسماك المملحة وجوالا من الدقيق على كتفه. وبينما كان ينزل السمك إلى القبو، ظهر شخص آخر في المدخل؛ فتى صغير قصير ومحني الظهر ويرتدي قبعة مسطحة على رأسه، ويحمل على ظهره حقيبة كبيرة من القماش الزيتي مثل التي يحملها الباعة الجائلون. غط في النوم في العربة، ولما استيقظ ووجد أن أخاه قد ذهب، ظن أنهما في المنزل واندفع يبحث عن حقيبته. وقف في المدخل يرمش بعينيه لما رأى النور، وبدا مندهشا، ولكنه كان مستعدا لإنجاز ما هو مطلوب منه أيا كان. نظرت السيدة ويلر إليه واعتبرته أحد أولادها. ثم ذهبت إليه وحاوطته بذراعها، وابتسمت وقالت بصوتها الهادئ وكأن بإمكانه أن يفهمها: «عجبا، لا تزال فتى صغيرا على أي حال، أليس كذلك؟»
قال إرنست بعدئذ إن هذه كانت هي المرة الأولى التي يرحب فيها به في هذا البلد، على الرغم من ترحاله مسافة بعيدة، وقد دفع وصيح في وجهه أياما لا يعلم عدتها. في تلك الليلة، تصافح مع كلود ونظر بعضهما إلى بعض بارتياب، ولكنهما أصبحا صديقين حميمين منذ ذلك الوقت.
بعد النزهة، ذهب الفتيان إلى السيرك والسعادة تغمرهما. في خيمة الحيوانات، قابلا ليونارد دوسن الضخم - الابن الأكبر لأحد جيران عائلة ويلر المقربين - وجلس ثلاثتهم من أجل مشاهدة العرض. قال ليونارد إنه أتى إلى المدينة بمفرده في سيارته، وسأل كلود إن كان يريد الركوب معه. ابتهج كلود كثيرا لترك مسألة قيادة البغلين إلى رالف؛ حيث إن اصطحاب الأجيرين ليس مشكلة بالنسبة إليه مثل كلود.
كان ليونارد يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما وهو فتى يتصف بضخامة الجسم وميول البشرة إلى اللون البني، وكانت له يدان كبيرتان، وقدمان كبيرتان، وأسنان بيضاء، وعينان لامعتان مليئتان بالحيوية. كان لا يعمل هو ووالده وأخواه في مزرعتهما الكبيرة فحسب، بل كانوا يستأجرون قطعة أرض مساحتها 160 فدانا من نات ويلر. لقد كانوا مزارعين بارعين. وإذا مر صيف جاف من دون محصول جيد، فما يكون من ليونارد إلا أن يضحك ويبسط ذراعيه الطويلتين ويبذل جهدا كبيرا حتى يحصل على محصول أكبر في السنة التالية. ودائما ما كان كلود متحفظا قليلا تجاه ليونارد؛ إذ يشعر بأن الشاب كان يكره الطريقة العشوائية التي تسير بها الأمور في مزرعة ويلر، ويظن أن الالتحاق بالجامعة مضيعة للوقت. لم يلتحق ليونارد حتى بالمدرسة الثانوية في فرانكفورت، ولكنه حقق بالفعل نجاحا أكثر من النجاح الذي يمكن أن يحققه كلود يوما ما. يعتقد ليونارد أن تلك الأشياء متساوية في نظره، ولكنه كان يحب كلود.
Неизвестная страница